٩

ثم تمسكهم بغير اللّه تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا اللّه ولا اعتماد لهم إلا على فضل اللّه، فقال: {أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وحمزة {من} مخففة الميم والباقون بالتشديد،

أما التخفيف ففيه وجهان

الأول: أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من، والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك،

وقيل كالذي جعل للّه أندادا فاكتفى بما سبق ذكره

والثاني: أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة،

وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو.

المسألة الثانية: القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله: "أفضل الصلاة صلاة القنوت" وهو القيام فيها.

ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائما.

عن ابن عمر رضي اللّه عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا {أمن هو قانت} وعن ابن عباس القنوت طاعة اللّه، لقوله: {كل له قانتون} (البقرة: ١١٦) أي مطيعون، وعن قتادة {أمن هو} ساعات الليل أوله ووسطه وآخره، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار، ويؤكده وجوه

الأول: أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء

الثاني: أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع، فإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي، وهو معرفة اللّه وخدمته

الثالث: أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع: قوله تعالى: {إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا} (المزمل: ٦) وقوله: {ساجدا} حال، وقرىء ساجد وقائم على أنه خبر عبد خبر الواو للجميع بين الصفتين.

واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم،

أما العمل فكونه قانتا ساجدا قائما،

وأما العلم فقوله: {هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية.

الفائدة الثانية: أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما بما يجب عليه من الطاعات، وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان،

وقوله: {ساجدا وقائما} إشارة إلى أصناف الأعمال

وقوله: {يحذر الاخرة ويرجوا * رحمة ربه} إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله: {يحذر الاخرة}

ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله: {من رحمة ربه} ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله: {هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.

الفائدة الثالثة: أنه قال في مقام الخوف {يحذر الاخرة} فما أضاف الحذر إلى نفسه، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة اللّه تعالى.

المسألة الثالثة: قيل المراد من قوله: {أمن هو قانت ءاناء اليل} عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة، والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه.

المسألة الرابعة: لا شبهة في أن في الكلام حذفا، والتقدير أمن هو قانت كغيره،

وأما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجدا وقياما، والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون، فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف اللّه الكفار بأنهم لا يعلمون، لأنهم وإن آتاهم اللّه العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم.

وأما قوله تعالى: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {وعلم ءادم الاسماء كلها} (البقرة: ٣١) قال صاحب "الكشاف" أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند اللّه جهلة.

ثم قال تعالى: {إنما يتذكر أولوا الالباب} يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضا إلا أولوا الألباب، قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.

﴿ ٩