١٨

{الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير اللّه تعالى، والإقبال بالكلية على طاعة اللّه، والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا، هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيها

على هذا الحرف، ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون، وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين، وذلك لا يليق بالرحمة التامة، لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء، واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد:

الفائدة الأولى: وجوب النظر والاستدلالوذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة، فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب، ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع، لأن السماع صار قدرا مشتركا بين الكل، لأن قوله: {الذين يستمعون القول} يدل على أن السماع قدر مشترك فيه، فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل، وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال.

الفائدة الثانية: أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان:

أحدهما: إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل، وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل

والثاني: أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا، فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول.

مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم، أولى من إنكار ذلك، فكان ذلك المذهب أولى، والإقرار بأن اللّه تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان اللّه على خلاف إرادته، وأيضا الإقرار بأن اللّه فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضا مؤلفا، وأيضا القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه اليهما، وأيضا القول بأن اللّه رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه ألبتة، وكل هذهالأبواب تدخل تحت

قوله: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} فهذا ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب الاعتقادات.

وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين: منها ما يكون من أبواب العبادات، ومنها ما يكون من أبواب المعاملات، فأما العبادات فمثل قولنا الصلاة التي يذكر في تحريمها اللّه أكبر وتكون النية فيها مقارنة للتكبير، ويقرأ فيها سورة الفاتحة، ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة، ويقرأ فيها التشهد، ويخرج منها بقوله السلام عليكم، فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال، وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة، وأن يترك ما سواها، وكذلك القول في جميع أبواب العبادات.

وأما المعاملات فكذلك مثل أنه تعالى شرع القصاص والدية والعفو، ولكنه ندب إلى العفو فقال: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} وعن ابن عباس أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ويسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء، فيحدث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه.

واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال: {أولئك الذين هداهم اللّه وأولئك هم * أولوا الالباب} وفي ذلك دقيقة عجيبة، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث، ولا بد له من فاعل وقابل.

أما الفاعل فهو اللّه سبحانه وهو المراد من قوله: {أولئك الذين هداهم اللّه}

وأما القابل فإليه الإشارة بقوله: {وأولئك هم * أولوا الالباب} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه.

وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو اللّه، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية امتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر،

فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان، بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين، فتصير تلك الإرادة سببا لذلك الرجحان،

فنقول هذا باطل، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة، فيمتنع كون جوهر النفس سببا لتلك الإرادة، فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل

أما الفاعل: فيمتنع أن يكون هو النفس، بل الفاعل هو اللّه تعالى

وأما القابل: فهو جوهر النفس، فلهذا السبب قال: {أولئك الذين هداهم اللّه وأولئك هم * أولوا الالباب}

﴿ ١٨