٢٢

{أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة اللّه تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح اللّه الصدور ونور القلوب فقال: {أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه}.

واعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله: {فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (الأنعام: ١٢٥) في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية، ولا بأس بإعادة كلام قليل ههنا،

فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات، وبعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات وفي هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية، والاستقراء يدل على أن الأمر كذلك، إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس، وإذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلا كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى الفعل بأدنى سبب، مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار،

أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية والأحوال الروحانية، بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للالهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية، وكلما كان إيراد الدلائل اليقينية والبراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها وظلمتها أقل.

إذا عرفت هذه القاعدة فنقول.

أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه،

وأما النور فهو عبارة عن الهداية والمعرفة، وما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانيا، وإذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع ألبتة بسماع الدلائل، وربما صار سماع الدلائل سببا لزيادة القسوة ولشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات،

أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر والقدر وكلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك واللّه أعلم.

المسألة الثانية: من محذوف الخبر كما في قوله: {أمن هو قانت} (الزمر: ٩) والتقدير: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته،

والجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه وهو قوله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه}.

المسألة الثالثة: قوله: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه} فيه سؤال، وهو أن ذكر اللّه سبب لحصول النور والهداية وزيادة الإطمئنان كما قال: {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} (الرعد: ٢٨) فكيف جعله في هذه الآية سببا لحصول قسوة القلب،

والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة، فإن سماعها لذكر اللّه يزيدها قسوة وكدورة، وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنسانا واحدا يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس، ومن اختلاف أحوال تلك النفوس، ولما نزل قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قوله تعالى {ثم خلقنا النطفة علقة} قال كل واحد منهم {فتبارك اللّه أحسن الخالقين} (المؤمنون: ١٢ ـ ١٤) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

"اكتب فهكذا أنزلت" فازداد عمر إيمانا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر، إذا عرفت هذا لم يبعد أيضا أن يكون ذكر اللّه يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر اللّه تعالى، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر اللّه تعالى سببا لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضا لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه أولئك فى ضلال مبين} وهذا كلام كامل محقق، ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان، والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفا بهذه الصفات، ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سببا لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات، فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال.

﴿ ٢٢