٦

ولما حكى اللّه عنهم هذه الشبهة أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى} وبيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن اللّه عز وجل أوحى إلي وما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا النحي إليكم، ثم بعد ذلك إن شرفكم اللّه بالتوحيد والتوفيق قبلتموه، وإن خذلكم بالحرمان رددتموه، وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي، ثم بين أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين: العلم والعمل،

أما العلم فالرأس

والرئيس فيه معرفة التوحيد، ذلك لأن الحق هو أن اللّه واحد وهو المراد من قوله {أنما إلهكم إله واحد} وإذا كان الحق في نفس الأمر ذلك وجب علينا أن نعترف به، وهو المراد من قوله {فاستقيموا إليه} ونظيره قوله {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة: ٦)

وقوله {إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا} (فصلت: ٣٠)

وقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} (الأنعام: ١٥٣)

وفي قوله تعالى: {فاستقيموا إليه}

وجهان

الأول: فاستقيموا متوجهين إليه

الثاني: أن يكون قوله {فاستقيموا إليه} معناه فاستقيموا له لأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض.

واعلم أن الكليف له ركنان

أحدهما: الاعتقاد والرأس والرئيس فيه اعتقاد التوحيد، فلما أمر بذلك انتقل إلى وظيفة العمل والرأس والرئيس فيه الاستغفار، فلهذا السبب قال: {واستغفروه}

فإن قيل المقصود من الاستغفار والتوبة إزالة ما لا ينبغي وذلك مقدم على فعل ما ينبغي، فلم عكس هذا الترتيب ههنا وقدم ما ينبغي على إزالة ما ينبغي؟

قلنا ليس المراد من هذا الاستغفار الاستغفار عن الكفر، بل المراد منه أن يعمل ثم يستغفر بعده لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل الذي أتى به كما قال صلى اللّه عليه وسلم : "وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة" ولما رغب اللّه تعالى في الخير والطاعة أمر بالتحذير عما لا ينبغي، فقال: {وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم كافرون}

وفي هذه الآية مسائل:

المسألة الأولى: وجه النظم في هذه الآية من وجوه

الأول: أن العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه، وذلك لأن الموجودات،

أما الخالق

وأما الخلق، فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة، ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر اللّه،

وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم، وذلك هو المراد من الشفقة على خلق اللّه، فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر اللّه، وأفضل أبواب التعظيم لأمر اللّه الإقرار بكونه واحدا وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال، لأنه ضد الشفقة على خلق اللّه، إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة

أولها: أن يكون مشركا وهو ضد التوحيد.

وإليه الإشارة بقوله {وويل للمشركين}

وثانيها: كونه ممتنعا من الزكاة وهو ضد الشفقة على خلق اللّه، وإليه الإشارة بقوله {الذين لا يؤتون الزكواة}

وثالثها: كونه منكرا للقيامة مستغرقا في طلب الدنيا ولذاتها، وإليه الإشارة بقوله {وهم بالاخرة هم كافرون} وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام: الأمس واليوم والغد.

أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة اللّه تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم.

وأما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة،

وأما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث والقيامة، وإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال، فلهذا حكم اللّه عليه بالويل،

﴿ ٦