١٤

ثم قال: {إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم}

وفيه وجهان

الأول: المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما جكى اللّه تعالى عن الشيطان قوله {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} (الأعراف: ١٧) يعني لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة، ويقول الرجل: استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه.

السؤال الثاني: المعنى: أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم،

فإن قيل: الرسل الذين جاؤا من قبلهم ومن بعدهم، كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤهم؟

قلنا: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل، وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاؤهم.

ثم قال: {ألا تعبدوا إلا اللّه} يعني أن الرسل الذي جاؤهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك، قال صاحب "الكشاف" أنفي قوله {ألا تعبدوا إلا اللّه} بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا اللّه.

ثم حكى اللّه تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا {لو شاء ربنا لانزل ملائكة} يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل، وقالوا الدليل على كونهم كاذبي أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زرمة الملائكة لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة، ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا {فإنا بما أرسلتم به كافرون} معناه: فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فأنتم لستم برسل، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم، وهو المراد من قوله {فإنا بما أرسلتم به كافرون}.

واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام، وقوله {أرسلتم به} ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأبياء رسلا، وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء، كما قال فرعون {إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء: ٢٧).

روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه،

ثم أتانا بيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة واللّه لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد اللّه؟ لم تشتم ألهتنا وتضللنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن، أي بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ساكت، فلما فزع قال: بسم اللّه الرحمن الرحيم (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم) إلى قوله {*} إلى قوله {صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلم احتبس عنهم قالوا، لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت: فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا،

ثم قال: واللّه لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدتهبالرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.

﴿ ١٤