١٠ثم قال تعالى: {قل أرءيتم إن كان من عند اللّه وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله فئامن واستكبرتم إن} وفيه مسائل: المسألة الأولى: جواب الشرط محذوف والتقدير أن يقال إن كان هذا الكتاب من عند اللّه ثم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين ثم حذف هذا الجواب، ونظيره قولك إن أحسنت إليك وأسأت إلي وأقبلت عليك وأعرضت عني فقد ظلمتني، فكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند اللّه بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وحصل أيضا شهادة أعلم بني إسرائيل بكونه معجزا من عند اللّه فلو استكبرتم وكفرتم ألستم أضل الناس وأظلمهم، واعلم أن جواب الشرط قد يحذف في بعض الآيات وقد يذكر، أما الحذف فكما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {ولو أن قرانا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى} (الرعد: ٣١) وأما المذكور، فكما في قوله تعالى: {قل أرءيتم إن كان من عند اللّه ثم كفرتم به من أضل} (فصلت: ٥٢) وقوله {قل أرأيتم إن جعل اللّه عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير اللّه يأتيكم بضياء} (القصص: ٧١). المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله تعالى: {وشهد شاهد من بنى إسراءيل} على قولين الأول: وهو الذي قال به الأكثرون أن هذا الشاهد عبد اللّه بن سلام، روى صاحب "الكشاف" أنه لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله وتحقق أنه هو النبي صلى اللّه عليه وسلم المنتظر، فقال له إني سائلك عن ثلاث ما يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعات، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : "أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له وإن سبق ماء المرأة نزع لها" فقال أشهد أنك لرسول اللّه حقا، ثم قال يا رسول اللّه إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أي رجل عبد اللّه فيكم؟ فقالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا فقال أرأيتم إن أسلم عبد اللّه؟ فقالوا أعاذه اللّه من ذلك فخرج عبد اللّه فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه فقالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه فقال هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه فقال سعد بن أبي وقاص ما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللّه بن سلام، وفيه نزل {وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله}. واعلم أن الشعبي ومسروقا وجماعة آخرين أنكروا أن يكون الشاهد المذكور في هذه الآية هو عبد اللّه بن سلام قالوا لأن إسلامه كان بالمدينة قبل وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعامين وهذه السورة مكية فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في آخر عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة، وأجاب الكلبي بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية وكانت الآية تنزل فيؤمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يضعها في سورة كذا فهذا الآية نزلت بالمدينة وإن اللّه تعالى أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين، ولقائل أن يقول إن الحديث الذي رويتم عن عبد اللّه بن سلام مشكل، وذلك لأن ظاهر الحديث يوهم أنه لما سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن المسائل الثلاثة، وأجاب النبي صلى اللّه عليه وسلم بتلك الجوابات من عبد اللّه بن سلام لأجل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر تلك الجوابات وهذا بعيد جدا لوجهين الأول: أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يأكله أهل الجنة إخبار عن وقوع شيء من الممكنات، وما هذا سبيله فإنه لا يعرف كون ذلك الخبر صدقا إلا إذا عرف أولا كون المخبر صادقا فلو أنا عرفنا صدق المخبر يكون ذلك الخبر صدقا لزم الدور وإنه محال والثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حد الإعجاز ألبتة، بل نقول الجوابات القاهرة عن المسائل الصعبة لما لم تبلغ إلى حد الإعجاز فأمثال هذه الجوابات عن هذه السؤالات كيف يمكن أن يقال إنها بلغت إلى حد الإعجاز والجواب: يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رسول آخر الزمان يسأل عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد اللّه بن سلام عالما بهذا المعنى فلما سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأجاب بتلك الأجوبة عرف بهذا الطريق كونه رسولا حقا من عند اللّه، وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى أن نقول العلم بهذه الجوابات معجز واللّه أعلم. القول الثاني: في تفسير قوله تعالى: {وشهد شاهد من بنى إسراءيل} أنه ليس المراد منه شخصا معينا بل المراد منه أن ذكر محمد صلى اللّه عليه وسلم موجود في التوراة والبشارة بمقدمه حاصلة فيها فتقدير الكلام لو أن رجلا منصفا عارفا بالتوراة أقر بذلك واعترف به، ثم إنه آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأنكرتم ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم ضالين عن الحق؟ فهذا الكلام مقرر سواء كان المراد بذلك الشاهد شخصا معينا أو لم يكن كذلك لأن المقصود الأصلي من هذا الكلام أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب من عند اللّه وثبت أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى اللّه عليه وسلم ومع هذين الأمرين كيف يليق بالعقل إنكار نبوته. المسألة الثالثة: قوله تعالى: {على مثله} ذكروا فيه وجوها، والأقرب أن نقول إنه صلى اللّه عليه وسلم قال لهم أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند اللّه كما أقول وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما قلت فآمن واستكبرتم ألستم كنتم ظالمين أنفسكم. ثم قال تعالى: {إن اللّه لا يهدى القوم الظالمين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه تهديد وهو قائم مقام الجواب المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند اللّه ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين. المسألة الثانية: قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما منعهم الهداية بناء على الفعل القبيح الذي صدر منهم أولا، فإن قوله تعالى: {إن اللّه لا يهدى القوم الظالمين} صريح في أنه تعالى لا يهديهم لكونهم ظالمين أنفسهم فوجب أن يعتقدوا في جميع الآيات الواردة في المنع من الإيمان والهداية أن يكون الحال فيها كما ههنا واللّه أعلم. |
﴿ ١٠ ﴾