ÓõæÑóÉõ Þۤ ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ÎóãúÓñ æóÃóÑúÈóÚõæäó ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة قأربعون وخمس آيات مكية _________________________________ ١{ق والقرءان المجيد} وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهي أمور: الأول: أن هذه السورة تقرأ في صلاة العيد، لقوله تعالى فيها {ذلك يوم الخروج} (ق: ٤٢) وقوله تعالى: {كذالك الخروج} (ق: ١١) وقوله تعالى: {ذلك حشر علينا يسير} (ق: ٤٤) فإن العيد يوم الزينة، فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب، ولا يكون في ذلك اليوم فرحا فخورا، ولا يرتكب فسقا ولا فجورا، ولما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالتذكير بقوله في آخر السورة {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد} (ق: ٤٥) ذكرهم بما يناسب حالهم في يومهم بقوله {ق والقرءان}. الثاني: هذه السورة، وسورة {ص} تشتركان في افتتاح أولهما بالحروف المعجم والقسم بالقرآن وقوله {بل} والتعجب، ويشتركان في شيء آخر، وهو أن أول السورتين وآخرهما متناسبان، وذلك لأن في {ص} قال في أولها {ص والقرءان ذى} (ص: ١) وقال في آخرها {إن هو إلا ذكر للعالمين} (ص: ٨٧) وفي {ق} قال في أولها {ق والقرءان} وقال في آخرها {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد} (ق: ٤٥) فافتتح بما اختتم به. والثالث: وهو أن في تلك السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، بقوله تعالى: {أجعل الالهة إلها واحدا} (ص: ٥) وقوله تعالى: {وانطلق الملا منهم أن امشوا} (ص: ٦) وفي هذه السورة إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر، بقوله تعالى: {أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} (ق: ٣) ولما كان افتتاح السورة في {ص} في تقرير المبدأ، قال في آخرها {إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين} (ص: ٧١) وختمه بحكاية بدء (خلق) آدم، لأنه دليل الوحدانية. ولما كان افتتاح هذه لبيان الحشر، قال في آخرها {يوم تشقق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير} (ق: ٤٤) وأما التفسير، ففيه مسائل: المسألة الأولى: قيل {ق} اسم جبل محيط بالعالم، وقيل معناه حكمة، هي قولنا: قضى الأمر. وفي ص: صدق اللّه، وقد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن، ليبقى السامع مقبلا على استماع ما يرد عليه، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق. وذكرنا أيضا أن العبادة منها قلبية، ومنها لسانية، ومنها جارجية ظاهرة، ووجد في الجارحية ما عقل معناه، ووجد منها ما لم يعقل معناه، كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما، ووجد في القلبية ما عقل بدليل، كعلم التوحيد، وإمكان الحشر، وصفات اللّه تعالى، وصدق الرسل، ووجد فيها ما يبعدها عن كونها معقولة المعنى أمور لا يمكن التصديق، والجزم بما لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر، والميزان الذي يوزن به الأعمال، فكذلك كان ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية منها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلا منه، ومنها ما لا يعقل ولا يفهم كحرف التهجي لكون التلفظ به محض الانقياد للأمر، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض، كقولنا {ربنا اغفر لنا * وارحمنا} بل يكون النطق به تعبدا محضا، ويؤيد هذا وجه آخر، وهو أن هذه الحروف مقسم بها، وذلك لأن اللّه تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفا لهما، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى، وإذا عرفت هذا فنقول على هذا فيه مباحث: الأول: القسم من اللّه وقع بأمر واحد، كما في قوله تعالى: {والعصر} وقوله تعالى: {والنجم} وبحرف واحد، كما في قوله تعالى: {ص} و {ن} ووقع بأمرين، كما في قوله تعالى: {والضحى * واليل إذا سجى} وفي قوله تعالى: {والسماء والطارق} وبحرفين، كما في قوله تعالى: {طه} و {طس} و {يس} و {حم} وبثلاثة أمور، كما في قوله تعالى: {والصافات * فالزجرات * فالتاليات} وبثلاثة أحرف، كما في {الم} وفي {طسم} وبأربعة أمور، كما في {وعيد والذريات} وفي {والسماء ذات البروج} وفي {والتين} وبأربعة أحرف، كما في {المص} وبخمسة أمور، كما في {يوعدون والطور} وفي {والمرسلات} وفي {والنازعات} وفي {والفجر} وبخمسة أحرف، كما في {كهيعص} ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي {مؤصدة والشمس وضحاها} ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول، لأنه يجمع كلمة الاستثقال، ولما استثقل حين ركب لمعنى، كان استثقالها حين ركب من غير إحاطة العلم بالمعنى أو لا لمعنى كان أشد. البحث الثاني: عند القسم بالأشياء المعهودة، ذكر حرف القسم وهي الواو، فقال: {والطور} {والنجم} {والشمس} وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم، فلم يقل و {ق} لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسما به، فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف. البحث الثالث: أقسم اللّه بالأشياء: كالتين والطور، ولم يقسم بأصولها، وهي الجواهر الفردة والماء والتراب. وأقسم بالحروف من غير تركيب، لأن الأشياء عنده يركبها على أحسن حالها، وأما الحروف إن ركبت بمعنى، يقع الحلف بمعناه لا باللفظ، كقولنا (والسماء والأرض) وإن ركبت لا بمعنى، كان المفرد أشرف، فأقسم بمفردات الحروف. البحث الرابع: أقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة، وبالأشياء التي عددها عدد الحروف، وهي غير {مظلمون والشمس} في أربع عشرة سورة، لأن القسم بالأمور غير الحروف وقع في أوائل السور وفي أثنائها، كقوله تعالى: {كلا والقمر * واليل إذ أدبر} (المدثر: ٣٢، ٣٣) وقوله تعالى: {واليل وما وسق} (الانشقاق: ١٧) وقوله {واليل إذا عسعس} (التكوير: ١٧) والقسم بالحروف لم يوجد ولم يحسن إلا في أوائل السور، لأن ذكر ما لا يفهم معناه في أثناء الكلام المنظوم المفهوم يخل بالفهم، ولما كان القسم بالأشياء له موضعان والقسم بالحروف له موضع واحد جعل القسم بالأشياء في أوائل السور على نصف القسم بالحروف في أوائلها. البحث الخامس: القسم بالحروف وقع في النصفين جميعا بل في كل سبع وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير بل لم يوجد إلا في السبع الأخير غير والصافات، وذلك لأنا بينا أن القسم بالحروف لم ينفك عن ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل بعده إلا نادرا فقال تعالى: {يس * والقرءان الحكيم *حم * تنزيل الكتاب *الم * ذالك الكتاب} ولما كان جميع القرآن معجزة مؤداة بالحروف وجد ذلك عاما في جميع المواضع ولا كذلك القسم بالأشياء المعدودة، وقد ذكرنا شيئا من ذلك في سورة العنكبوت، ولنذكر ما يختص بقاف قيل إنه اسم جبل محيط بالأرض عليه أطراف السماء وهو ضعيف لوجوه: أحدها: أن القراءة الكثيرة الوقف، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج، لأن من قال ذلك قال بأن اللّه تعالى أقسم به وثانيها: أنه لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كما في قوله تعالى: {والطور} وذلك لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقا لأن يقسم به، كقولنا اللّه لأفعلن كذا، واستحقاقه لهذا غني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال زيد لأفعلن ثالثها: هو أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب {عين جارية} (الغاشية: ١٢) ويكتب {أليس اللّه بكاف عبده} (الزمر: ٣٦) وفي جميع المصاحف يكتب حرف {ق}، رابعها: هو أن الظاهر أن الأمر فيه ك. الأمر في {ص ن *حم} وهي حروف لا كلمات وكذلك في {ق} فإن قيل هو منقول عن ابن عباس، نقول المنقول عنه أن قاف اسم جبل، وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا، وقيل إن معناه قضى الأمر، وفي {ص} صدق اللّه، وقيل هو اسم الفاعل من قفا يقفو و ص من صاد من المصاداة، وهي المعارضة، معناه هذا قاف جميع الأشياء بالكشف، ومعناه حينئذ هو قوله تعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين} (الأنعام: ٥٩) إذا قلنا إن الكتاب هناك القرآن. هذا ما قيل في {ق} وأما القراءة فيه فكثيرة وحصرها بيان معناها، فنقول إن قلنا هي مبنية على ما بينا فحقها الوقف إذ لا عامل فيها فيشبه بناء الأصوات ويجوز الكسر حذرا من التقاء الساكنين، ويجوز الفتح اختيارا للأخف، فإن قيل كيف جاز اختيار الفتح ههنا، ولم يجز عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول أخرى كما في قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا} (البينة: ١) {ولا تطرد الذين} (الأنعام: ٥٢)؟ نقول لأن هناك إنما وجب التحريك وعين الكسر في الفعل للشبهة تحرك الإعراب، لأن الفعل محل يرد عليه الرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر فاختيرت الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر، لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ولو لاشتبه بالنصب، وأما في أواخر الأسماء فلا اشتباه، لأن الأسماء محل ترد عليه الحركات الثلاث فلم يكن يمكن الاحتراز فاختاروا الأخف، وأما إن قلنا إنها حرف مقسم به فحقها الجر ويجوز النصب بجعله مفعولا باقسم على وجه الاتصال، وتقدير الباء كأن لم يوجد، وإن قلنا هي اسم السورة، فإن قلنا مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ ففتح في موضع الجر كما تقول وإبراهيم وأحمد في القسم بهما، وإن قلنا إنه ليس مقسما بها وقلنا اسم السورة، فحقها الرفع إن جعلناها خبرا تقديره: هذه ق، وإن قلنا هو من قفا يقفو فحقه التنوين كقولنا هذا داع وراع، وإن قلنا اسم جبل فالجر والتنوين وإن كان قسما، ولنعد إلى التفسير فنقول الوصف قد يكون للتمييز وهو الأكثر كقولنا الكلام القديم ليتميز عن الحادث والرجل الكريم ليمتاز عن اللئيم، وقد يكون لمجرد المدح كقولنا اللّه الكريم إذ ليس في الوجود إله آخر حتى نميزه عنه بالكريم، وفي هذا الموضع يحتمل الوجهين، والظاهر أنه لمجرد المدح، وأما التمييز فبأن نجعل القرآن اسما للمقروء، ويدل عليه قوله تعالى: {ولو أن قرانا سيرت به الجبال} (الرعد: ٣١) والمجيد العظيم، وقيل المجيد هو كثير الكرم وعلى الوجهين القرآن مجيد، أما على قولنا المجيد هو العظيم، فلأن القرآن عظيم الفائدة، ولأنه ذكر اللّه العظيم، وذكر العظيم عظيم، ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق، وهو آية العظمة يقال ملك عظيم إذا لم يكن يغلب ويدل عليه قوله تعالى: {ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم} (الحجر: ٨٧) أي الذي لا يقدر على مثله أحد ليكون معجزة دالة على نبوتك وقوله تعالى: {بل هو قرءان مجيد * فى لوح محفوظ} (البروج: ٢١، ٢٢) أي محفوظ من أن يطلع عليه أحد إلا باطلاعه تعالى فلا يبدل ولا يغير و {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت: ٤٢) فهو غير مقدور عليه فهو عظيم، وأما على قولنا المجيد هو كثير الكرم فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوده وجده، وإنه مغن كل من لاذبه، وإغناء المحتاج غاية الكرم ويدل عليه هو أن المجيد مقرون بالحميد في قولنا إنك حميد مجيد، فالحميد هو المشكور والشكر على الإنعام والمنعم كريم فالمجيد هو الكريم البالغ في الكرم، وفيه مباحث: الأول: القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا؟ نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول، ذلك أما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية، والمقالية أما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة، فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظا إلا {ق} فيكون التقدير: هذا {ق والقرءان المجيد} أو {ق} أنزلها اللّه تعالى: {والقرءان} كما يقول هذا حاتم واللّه أي هو المشهور بالسخاء ويقول الهلال رأيته واللّه، وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة، فنقول ذلك أمران: أحدهما: المنذر والثاني: الرجع، فيكون التقدير: والقرآن المجيد إنك المنذر، أو: والقرآن المجيد إن الرجع لكائن، لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهرا، أما الأول: فيدل عليه قوله تعالى: {يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين} إلى أن قال: {لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم} (يس: ١ ـ ٦). وأما الثاني: فدل عليه قوله تعالى: {والطور * وكتاب مسطور} إلى أن قال: {إن عذاب ربك لواقع} (الطور: ١ ـ ٧) وهذا الوجه يظهر عليه غاية الظهور على قول من قال {ق} اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن، وهناك القسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن، فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك؟ قلت الأول: لأن المنذر أقرب من الرجع، ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه مرسلا ومنذرا، وما رأينا الحروف ذكرت ويعدها الحشر، واعتبر ذلك في سورة منها قوله تعالى: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر} (السجدة: ١ ـ ٣) ولأن القرآن معجزة دالة على كون محمد رسول اللّه، فالقسم به عليه يكون إشارة إلى الدليل على طريقة القسم، وليس هو بنفسه دليلا على الحشر، بل فيه أمارات مفيدة للجزم بالحشر بعد معرفة صدق الرسول، وأما إن قلنا هو مفهوم بقرينة حالية، فهو كون محمد صلى اللّه عليه وسلم على الحق ولكلامه صفة الصدق، فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك والمختار ما ذكرناه والثاني: {بل عجبوا} (ق: ٢) يقتضي أن يكون هناك أمر مضرب عنه فما ذلك؟ نقول قال الواحدي ووافقه الزمخشري إنه تقدير قوله ما الأمر كما يقولون ونزيده وضوحا، فنقول على ما اخترناه: فإن التقدير واللّه أعلم ق والقرآن والقرآن المجيد إنك لتنذر، فكأنه قال بعده وإنهم شكوا فيه فأضرب عنه. ٣١{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}. بمعنى قريبا أو بمعنى قريب، والأول أظهر وفيه مسائل: المسألة الأولى: ما وجه التقريب، مع أن الجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب؟ نقول: الجواب: عنه من وجوه: الأول: أن الجنة لا تزال ولا تنقل، ولا المؤمن يؤمر في ذلك اليوم بالانتقال إليها مع بعدها، لكن اللّه تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب. فإن قيل: فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة، فما الفائدة في قوله: أزلفت الجنة؟ نقول إكراما للمؤمن، كأنه تعالى أراد بيان شرف المؤمن المتقي أنه ممن يمشي إليه ويدني منه. الثاني: قربت من الحصول في الدخول، لا بمعنى القرب المكاني، يقال يطلب من الملك أمرا خطيرا، والملك بعيد عن ذلك، ثم إذا رأى منه مخايل إنجاز حاجته، يقال قرب الملك وما زلت أنهي إليه حالك حتى قربته، فكذلك الجنة كانت بعيدة الحصول، لأنها بما فيها لا قيمة لها، ولا قدرة للمكلف على تحصيلها لولا فضل اللّه تعالى، كما قال صلى اللّه عليه وسلم : "ما من أحد يدخل الجنة إلا بفضل اللّه تعالى، فقيل: ولا أنت يا رسول اللّه، فقال: ولا أنا" وعلى هذا فقوله غير نصب على الحال، تقديره قربت من الحصول، ولم تكن بعيدة في المسافة حتى يقال كيف قربت. الثالث: هو أن اللّه تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن. وأما إن قلنا إنها قربت، فمعناه جمعت محاسنها، كما قال تعالى: {والصلح خير وأحضرت الأنفس} (الزخرف: ٧١). المسألة الثانية: على هذا الوجه وعلى قولنا قربت تقريب حصول ودخول، فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قوله تعالى: {وأزلفت} أي في ذلك اليوم ولم يكن قبل ذلك، وأما في جمع المحاسن قربما يزيد اللّه فيها زينة وقت الدخول، وأما في الحصول فلأن الدخول قبل ذلك كان مستبعدا إذا لم يقدر اللّه دخول المؤمنين الجنة في الدنيا ووعد به في الآخرة فقربت في ذلك اليوم. وثانيهما: أن يكون معنى قوله تعالى: {وأزلفت الجنة} أي أزلفت في الدنيا، أما بمعنى جمع المحاسن فلأنها مخلوقة وخلق فيها كل شيء، وأما بمعنى تقريب الحصول فلأنها تحصل بكلمة حسنة وأما على تفسير الإزلاف بالتقريب المكاني فلا يكون ذلك محمولا إلا على ذلك الوقت أي أزلفت في ذلك اليوم للمتقين. المسألة الثانية: إن حمل على القرب المكاني، فما الفائدة في الاختصاص بالمتقين مع أن المؤمن والكافر في عرصة واحدة؟ فنقول قد يكون شخصان في مكان واحد وهناك مكان آخر هو إلى أحدهما في غاية القرب، وعن الآخر في غاية البعد، مثاله مقطوع الرجلين والسليم الشديد العدو إذا اجتمعا في موضع وبحضرتهما شيء لا تصل إليه اليد بالمد فذلك بعيد عن المقطوع وهو في غاية القرب من العادي، أو نقول: إذا اجتمع شخصان في مكان وأحدهما أحيط به سد من حديد ووضع بقربه شيء لا تناله يده بالمد والآخر لم يحط به ذلك السد يصح أن يقال هو بعيد عن المسدود وقريب من المحظوظ والمجدود، وقوله تعالى: {غير بعيد} يحتمل أن يكون نصبا على الظرف يقال اجلس غير بعيد مني أي مكانا غير بعيد، وعلى هذا فقوله غير بعيد يفيد التأكيد وذلك لأن القريب قد يكون بعيدا بالنسبة إلى شيء، فإن المكان الذي هو على مسيرة يوم قريب بالنسبة إلى البلاد النائية وبعيد بالنسبة إلى متنزهات المدينة، فإذا قال قائل أيما أقرب المسجد الأقصى أو البلد الذي هو بأقصى المغرب أو المشرق؟ يقال له المسجد الأقصى قريب، وإن قال أيهما أقرب هو أو البلد؟ يقل له هو بعيد. فقوله تعالى: {وأزلفت الجنة * غير بعيد} أي قربت قربا حقيقيا لا نسبيا حيث لا يقال فيها إنها بعيدة عنه مقايسة أو مناسبة، ويحتمل أن يكون نصبا على الحال تقديره: قربت حال كون ذلك غاية التقريب أو نقول على هذا الوجه يكون معنى أزلفت قربت وهي غير بعيد، فيحصل المعنيان جميعا الإقراب والاقتراب أو يكون المراد القرب والحصول لا للمكان فيحصل معنيان القرب المكاني بقوله غير بعيد والحصول بقوله: {أزلفت} وقوله: {غير بعيد} مع قوله: {أزلفت} على التأنيث يحتمل وجوها: الأول: إذا قلنا إن {غير} نصب على المصدر تقديره مكانا غير. الثاني: التذكير فيه كما في قوله تعالى: {ولا تفسدوا فى الارض} (الأعراف: ٥٦) إجراء لفعيل بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول. الثالث: أن يقال {غير} منصوب نصبا على المصدر على أنه صفة مصدر محذوف تقديره: أزلفت الجنة إزلافا غير بعيد، أي عن قدرتنا فإنا قد ذكرنا أن الجنة مكان، والمكان لا يقرب وإنما يقرب منه، فقال: الإزلاف غير بعيد عن قدرتنا فإنا نطوي المسافة بينهما. ٣٢{هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ}. ثم قال تعالى: {هذا ما توعدون} قال الزمخشري: هي جملة معترضة بين كلامين وذلك لأن قوله تعالى: {لكل أواب} بدل عن المتقين كأنه تعالى قال: (أزلفت الجنة للمتقين لكل أواب) كما في قوله تعالى: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم} (الزخرف: ٣٣) غير أن ذلك بدل الاشتمال وهذا بدل الكل وقال: {هذا} إشارة إلى الثواب أي هذا الثواب ما توعدون أو إلى الإزلاف المدلول عليه بقوله: {أزلفت} (ق : ٣١) أي هذا الإزلاف ما وعدتم به، ويحتمل أن يقال هو كلام مستقل ووجهه أن ذلك محمول على المعنى لا ما يوعد به يقال للموعود هذا لك وكأنه تعالى قال هذا ما قلت إنه لكم. ثم قال تعالى: {لكل أواب حفيظ} بدلا عن الضمير في {توعدون}، وكذلك إن قرىء بالياء يكون تقديره هذا لكل أواب بدلا عن الضمير، والأواب الرجاع، قيل هو الذي يرجع من الذنوب ويستغفر، والحفيظ الحافظ للذي يحفظ توبته من النقض. ويحتمل أن يقال الأواب هو الرجاع إلى اللّه بفكره، والحفيظ الذي يحفظ اللّه في ذكره أي رجع إليه بالفكر فيرى كل شيء واقعا به وموجدا منه ثم إذا انتهى إليه حفظه بحيث لا ينساه عند الرخاء والنعماء، والأواب الحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ، وفيه وجوه أخر أدق، وهو أن الأواب هو الذي رجع عن متابعة هواه في الإقبال على ما سواه، والحفيظ هو الذي إذا أدركه بأشرف قواه لا يتركه فيكمل بها تقواه ويكون هذا تفسيرا للمتقي، لأن المتقي هو الذي أتقى الشرك والتعطيل ولم ينكره ولم يعترف بغيره، والأواب هو الذي لا يعترف بغيره ويرجع عن كل شيء غير اللّه تعالى، والحفيظ هو الذي لم يرجع عنه إلى شيء مما عداه. ثم قال تعالى: ٣٣{من خشى الرحمان بالغيب وجآء بقلب منيب}. وفي {من} وجوه. أحدها: وهو أغربها أنه منادى كأنه تعالى قال: يا من خشيء الرحمان أدخلوها بسلام وحذف حرف النداء شائع. وثانيها: {من} بدل عن كل في قوله تعالى: {لكل أواب} (ق: ٣٢) من غير إعادة حرف الجر تقديره أزلفت الجنة لمن خشي الرحمان بالغيب، ثالثها: في قوله تعالى: {أواب حفيظ} (ق: ٣٢) موصوف معلوم غير مذكور كأنه يقول لكل شخص أواب أو عبد أو غير ذلك، فقوله تعالى: {من خشى الرحمان بالغيب} بدل عن ذلك الموصوف هذه وجوه ثلاثة ذكرها الزمخشري، وقال لا يجوز أن يكون بدلا عن أواب أو حفيظ لأن أواب وحفيظ قد وصف به موصوف معلوم غير مذكور كما بيناه والبدل في حكم المبدل منه، فتكون {من} موصوفا بها ومن لا يوصف بها لا يقال: الرجل من جاءني جالسني، كم يقال الرجل الذي جاءني جالسني، هذا تمام كلام الزمخشري، فإن قال قائل إذا كان {من} والذي يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما؟ نقول: الأمر معقول نبينه في ما، ومنه يتبين الأمر فيه فنقول: ما اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء لكن الشيء هو أعم الأشياء فإن الجوهر شيء والعرض شيء والواجب شيء والممكن شيء والأعم قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت من البعد شبحا تقول أولاإنه شيء ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول إنسان فإذا بان ذلك أنه ذكر قلت هو رجل فإذا وجدته ذا قوة تقول شجاع إلى غير ذلك، فالأعم أعرف وهو قبل الأخص في الفهم فمفهوم ما قبل كل شيء فلا يجوز أن يكون صفة لأن الصفة بعد الموصوف هذا من حيث المعقول، وأما من حيث النحو فلأن الحقائق لا يوصف بها، فلا يقال جسم رجل جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني لأن الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها وكل ما يقع وصفا للغير يكون معناه شيء له كذا، فقولنا عالم معناه شيء له علم أو عالمية فيدخل في مفهوم الوصف شيء مع أمر آخر وهو له كذا لكن ما لمجرد شيء فلا يوجد فيه ما يتم به الوصف وهو الأمر الآخر الذي معناه ذو كذا فلم يجز أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن معناه إنسان أو ملك أو غيرهما من الحقائق العاقلة، والحقائق لا تقع صفات، وأما الذي يقع على الحقائق والأوصاف ويدخل في مفهومه تعريف أكثر مما يدخل في مجاز الوصف بما دون من. وفي الآية لطائف معنوية. الأول: الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة، لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي، وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعا مهيبان، والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ و ف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن {تضرعا وخفية} (الأنعام: ٦٣) و {تضرعا وخفية} (الأعراف: ٢٠٥) والمخفي فيه ضعف كالخائف إذا علمت هذا تبين لك اللطيفة وهي أن اللّه تعالى في كثير من المواضع ذكر لفظ الخشية حيث كان الخوف من عظمة المخشي قال تعالى: {إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} (فاطر: ٢٨)، وقال: {لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه} (الحشر: ٢١) فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما اللّه عظيم يخشاه كل قوي {هم من خشية ربهم مشفقون} (المؤمنون: ٥٧) مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى: {وتخشى الناس واللّه أحق أن تخشاه} (الأحزاب: ٣٣) أي تخافهم إعظاما لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم، وقال تعالى: {لا تخف ولا تحزن} (العنكبوت: ٣٣) أي لا تخف ضعفا فإنهم لا عظمة لهم وقال: {يخافون يوما} (الإنسان: ٧) حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة اللّه ضعيفة وقال: {ألا تخافوا ولا تحزنوا} (فصلت: ٣٠) أي بسبب مروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم، وقال تعالى: {خائفا يترقب} (القصص: ٢١) وقال: {إنى أخاف إن * يقتلون} (القصص: ٣٣) لوحدته وضعفه وقال هارون: {إنى خشيت} (طه: ٩٤) لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال: {فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} (الكهف: ٨٠) حيث لم يكن لضعف فيه، وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي، وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملا لخشية من ضعف الخائف، وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية. الثانية: قال اللّه تعالى ههنا: {خشى الرحمان * مع * ءان * تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون * لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه} (الحشر: ٢١) إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبىء عنها لفظة اللّه وفيها العظمة على خوفه وقال: {إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} (فاطر: ٢٨) لأن {إنما} للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر اللّه ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة، وقد ذكرنا ذلك في سورة يس ونزيد ههنا شيئا آخر، وهو أن نقول لفظة: {الرحمان} إشارة إلى مقتضى لا إلى المانع، وذلك لأن الرحمان معناه واهب الوجود بالخلق، والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة، ورحيم حيث أبقى بالرزق، ولا يقال لغيره رحيم لأن البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر، فيقال فلان هو الذي أبقى فلانا، وهو في الآخرة أيضا رحمان حيث يوجدنا، ورحيم حيث يرزقنا، وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال: {بسم اللّه الرحمان الرحيم} إشارة إلى كونه رحمانا في الدنيا حيث خلقنا، رحيما في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله: {الحمد للّه رب العالمين * الرحمان الرحيم} أي هو رحمان مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانيا، واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك: {مالك يوم الدين} (الفاتحة: ٤) أي يخلقنا ثانيا، ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم، إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره، فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي، فإذا كان اللّه تعالى رحمانا منه الوجود ينبغي أن يخشى، فإن من بيده الوجود بيده العدم، وقال صلى اللّه عليه وسلم : "خشية اللّه رأس كل حكمة" وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير اللّه وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين، وربما يقدر اللّه عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار، لأن غير اللّه إن لم يقدر اللّه أن يضر لا يقدر على الضرر وإن قدر عليه بتقدير اللّه فسيزول الضرر بموت المعذب أو المعذب، وأما اللّه تعالى فلا راد لما أراد ولا آخر لعذابه وقال تعالى: {بالغيب} أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأي العين، وقوله تعالى: {وجاء بقلب منيب} إشارة إلى صفة مدح أخرى، وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع، وإذا علم المخشي أنه تحت حكمه تعالى علم أنه لا ينفعه الهرب، فيأتي المخشي وهو (غير) خاش فقال: {وجاء} ولم يذهب كما يذهب الآبق، وقوله تعالى: {بقلب منيب} الباء فيه يحتمل وجوها ذكرناها في قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق} (ق: ١٩). أحدها: التعدية أي أحضر قلبا سليما، كما يقال ذهب به إذا أذهبه. ثانيها: المصاحبة يقال: اشترى فلان الفرس بسرجه أي مع سرجه، وجاء فلان بأهله أي مع أهله. ثالثها: وهو أعرفها الباء للسبب يقال: ما أخذ فلان إلا بقول فلان وجاء بالرجاء له فكأنه تعالى قال: جاء وما جاء إلا بسبب إنابة في قلبه علم أنه لا مرجع إلا إلى اللّه فجاء بسبب قلبه المنيب، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: {إذا جاء * ربه بقلب سليم} (الصافات: ٨٤) أي سليم من الشرك، ومن سلم من الشرك يترك غير اللّه ويرجع إلى اللّه فكان منيبا، ومن أناب إلى اللّه برىء من الشرك فكان سليما: ٣٤ثم قال تعالى: {ادخلوها بسلام}. فالضمير عائد إلى الجنة التي في {وأزلفت الجنة} (ق: ٣١) أي لما تكامل حسنها وقربها وقيل لهم إنها منزلكم بقوله: {هذا ما توعدون} (ق: ٣٢) أذن لهم في دخولها وفيه مسائل: المسألة الأولى: الخطاب مع من؟ نقول: إن قرىء {ما توعدون} بالتاء فهو ظاهر إذ لا يخفى أن الخطاب مع الموعودين، وإن قرىء بالياء فالخطاب مع المتقين أي يقال للمتقين أدخلوها. المسألة الثانية: هذا يدل على أن ذلك يتوقف على الإذن، وفيه من الانتظار ما لا يليق بالإكرام، نقول ليس كذلك، فإن من دعا مكرما إلى بستانه يفتح له الباب ويجلس في موضعه، ولا يقف على الباب من يرحبه، ويقول إذا بلغت بستاني فادخله، وإن لم يكن هناك أحد يكون قد أخل بإكرامه بخلاف من يقف على باب قوم يقولون: أدخل باسم اللّه، يدل على الإكرام قوله تعالى: {بسلام} كما يقول المضيف: أدخل مصاحبا بالسلامة والسعادة والكرامة، والباء للمصاحبة في معنى الحال، أي سالمين مقرونين بالسلامة، أو معناه أدخلوها مسلما عليكم، ويسلم اللّه وملائكته عليكم، ويحتمل عندي وجها آخر، وهو أن يكون ذلك إرشادا للمؤمنين إلى مكارم الاخلاق في ذلك اليوم كما أرشدوا إليها في الدنيا، حيث قال تعالى: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (النور: ٢٧) فكأنه تعالى قال: هذه داركم ومنزلكم، ولكن لا تتركوا حسن عادتكم، ولا تخلوا بمكارم أخلاقكم، فادخلوها بسلام، ويصيحون سلاما على من فيها، ويسلم ممن فيها عليهم، ويقولون السلام عليكم، ويدل عليه قوله تعالى: {إلا قيلا سلاما سلاما} (الواقعة: ٢٦) أي يسلمون على من فيها، ويسلم من فيها عليهم، وهذا الوجه إن كان منقولا فنعم، وإن لم يكن منقولا فهو مناسب معقول أيده دليل منقول. قوله تعالى: {ذلك يوم الخلود}. حتى لا يدخل في قلبهم أن ذلك ربما ينقطع عنهم فتبقى في قلبهم حسرته، فإن قيل المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها، فما الفائدة في التذكير؟ والجواب: عنه من وجهين. أحدهما: أن قوله: {ذلك يوم الخلود} قول قاله اللّه في الدنيا إعلاما وإخبارا، وليس ذلك قولا يقوله عند قوله: {ادخلوها} فكأنه تعالى أخبرنا في يومنا أن ذلك اليوم يوم الخلود. ثانيهما: اطمئنان القلب بالقول أكثر، قال الزمخشري في قوله: {يوم الخلود} إضمار تقديره: ذلك يوم تقدير الخلود، ويحتمل أن يقال اليوم يذكر، ويراد الزمان المطلق سواء كان يوما أو ليلا، نقول: يوم ولد لفلان ابن يكون السرور العظيم، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلا، فتريد به الزمان، فكأنه تعالى قال: ذلك زمان الإقامة الدائمة. ثم قال تعالى: ٣٥{لهم ما يشآءون فيها ولدينا مزيد}. وفي الآية ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأنه تعالى بدأ ببيان إكرامهم حيث قال: {وأزلفت الجنة للمتقين} (الشعراء: ٩٠) ولم يقل: قرب المتقون من الجنة بيانا للإكرام حيث جعلهم ممن تنقل إليهم الجنان بما فيها من الحسان، ثم قال لهم هذا لكم، بقوله: {هذا ما توعدون} (ق: ٣٢) ثم بين أنه أجر أعمالهم الصالحة بقوله: {لكل أواب حفيظ حفيظ * من خشى الرحمان} (ق: ٣٣) فإن تصرف المالك الذي ملك شيئا بعوض أتم فيه من تصرف من ملك بغير عوض، لإمكان الرجوع في التمليك بغير عوض، ثم زاد في الإكرام بقوله: {ادخلوها} (ق: ٣٤) كما بينا أن ذلك إكرام، لأن من فتح بابه للناس، ولم يقف ببابه من يرحب الداخلين، لا يكون قد أتى بالإكرام التام، ثم قال: {ذلك يوم الخلود} (ق: ٣٤) أي لا تخافوا ما لحقكم من قبل حيث أخرج أبويكم منها، فهذا دخول لا خروج بعده منها. ثم لما بين أنهم فيها خالدون قال: لا تخافوا انقطاع أرزاقكم وبقاءكم في حاجة، كما كنتم في الدنيا من كان يعمر ينكس ويحتاج، بل لكم الخلود، ولا ينفد ما تمتعون به فلكم ما تشاءون في أي وقت تشاءون، وإلى اللّه المنتهى، وعند الوصول إليه، والمثول بين يديه، فلا يوصف ما لديه، ولا يطلع أحد عليه، وعظمة من عنده تدلك على فضيلة ما عنده، هذا هو الترتيب، وأما التفسير، ففيه مسألتان: المسألة الأولى: قال تعالى: {ادخلوها بسلام} (ق : ٣٤) على سبيل المخاطبة، ثم قال: {لهم} ولم يقل لكم ما الحكمة فيه؟ الجواب: عنه من وجوه. الأول: هو أن قوله تعالى: {ادخلوها} مقدر فيه يقال لهم، أي يقال لهم {ادخلوها} فلا يكون على هذا التفاتا. الثاني: هو أنه من باب الالتفات والحكمة الجمع بين الطرفين، كأنه تعالى يقول: أكرمهم به في حضورهم، ففي حضورهم الحبور، وفي غيبتهم الحور والقصور. والثالث: هو أن يقال قوله تعالى: {لهم} جاز أن يكون كلاما مع الملائكة، يقول للملائكة: توكلوا بخدمتهم، واعلموا أن لهم ما يشاءون فيها، فأحضروا بين أيديهم ما يشاءون، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم، ولا تقدرون أنتم عليه. المسألة الثانية: قد ذكرنا أن لفظ {مزيد} (ق :٣٠) يحتمل أن يكون معناه الزيادة، فيكون كما في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: ٢٦) ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول، أي عندنا ما نزيده على ما يرجون وما يكون مما يشتهون: ٣٦ثم قال تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا}. لما أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم، أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المهلك وإلهلاك المدرك، وبين لهم حال من تقدمهم، وقد تقدم تفسيره في مواضع، والذي يختص بهذا الموضع أمور. أحدها: إذا كان ذلك للجمع بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل، فلم توسطهما قوله تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين} إلى قوله: {ولدينا مزيد} (ق: ٣١ ـ ٣٥) نقول ليكون ذلك دعاء بالخوف والطمع، فذكر حال الكفور المعاند، وحال الشكور العابد في الآخرة ترهيبا وترغيبا، ثم قال تعالى: إن كنتم في شك من العذاب الأبدي الدائم، فما أنتم في ريب من العذاب العاجل المهلك الذي أهلك أمثالكم، فإن قيل: فلم لم يجمع بين الترهيب والترغيب في العاجلة، كما جمع بينهما في الآجلة، ولم يذكر حال من أسلم من قبل وأنعم عليه، كما ذكر حال من أشرك به فأهلكه نقول لأن النعمة كانت قد وصلت إليهم، وكانوا متقلبين في النعم، فلم يذكرهم به، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به، وأما في الآخرة، فكانوا غافلين عن الأمرين جميعا، فأخبرهم بهما. الثاني: قوله تعالى: {فنقبوا فى البلاد}. في معناه وجوه. أحدها: هو ما قاله تعالى في حق ثمود: {الذين جابوا الصخر بالواد} (الفجر: ٩) من قوتهم خرق الطرق ونقبوها، وقطعوا الصخور وثقبوها. ثانيها: نقبوا، أي ساروا في الأسفار ولم يجدوا ملجأ ومهربا، وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد أهل مكة، أي هم ساروا في الأسفار، ورأوا ما فيها من الآثار. ثالثها: {فنقبوا فى البلاد} أي صاروا نقباء في الأرض أراد ما أفادهم بطشهم وقوتهم، ويدل على هذا الفاء، لأنها تصير حينئذ مفيدة ترتب الأمر على مقتضاه، تقول كان زيد أقوى من عمرو فغلبه، وكان عمرو مريضا فغلبه زيد، كذلك ههنا قال تعالى: {هم أشد منهم بطشا} فصاروا نقباء في الأرض، وقرىء: {فنقبوا} بالتشديد، وهو أيضا يدل على ما ذكرنا في الوجه الثالث، لأن التنقيب البحث، وهو من نقب بمعنى صار نقيبا. الثالث: قوله تعالى: {هل من محيص}. يحتمل وجوها ثلاثة. الأول: على قراءة من قرأ بالتشديد يحتمل أن يقال هو مفعول، أي بحثوا عن المحيص {هل من محيص}. الثاني: على القراءات جميعا استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيص. الثالث: هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد صلى اللّه عليه وسلم هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تعتمدون عليه والمحيص كالمحيد غير أن المحيص معدل ومهرب عن الشدة، يدلك عليه قولهم وقعوا في حيص بيص أي في شدة وضيق، والمحيد معدل وإن كان لهم بالاختيار يقال حاد عن الطريق نظرا، ولا يقال حاص عن الأمر نظرا. ٣٧ثم قال تعالى: {إن فى ذالك لذكرى لمن كان له قلب}. الإشارة إلى إلهلاك ويحتمل أن يقال هو إشارة إلى ما قاله من إزلاف الجنة وملء جهنم وغيرهما، والذكرى اسم مصدر هو التذكر والتذكرة وهي في نفسها مصدر ذكره يذكره ذكرا وذكرى وقوله لمن {كان له قلب} قيل: المراد قلب موصوف بالوعي، أي لمن كان له قلب واع يقال لفلان مال أي كثير فالتنكير يدل على معنى في الكمال، والأولى أن يقال هو لبيان وضوح الأمر بعد الذكر وأن لا خفاء فيه لمن كان له قلب ما ولو كان غير كامل، كما يقال أعطه شيئا ولو كان درهما، ونقول الجنة لمن عمل خيرا ولو حسنة، فكأنه تعالى قال: إن في ذلك لذكرى لمن يصح أن يقال له قلب وحينئذ فمن لا يتذكر لا قلب له أصلا كما في قوله تعالى: {صم بكم عمى} (البقرة: ١٨) حيث لم تكن آذانهم وألسنتهم وأعينهم مفيدة لما يطلب منها كذلك من لا يتذكر كأنه لا قلب له، ومنه قوله تعالى: {كالانعام بل هم أضل} (الأعراف: ١٧٩) أي هم كالجماد وقوله تعالى: {كأنهم خشب مسندة} (المنافقون: ٤) أي لهم صور وليس لهم قلب للذكر ولا لسان للشكر. وقوله تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي استمع وإلقاء السمع كناية في الاستماع، لأن من لا يسمع فكأنه حفظ سمعه وأمسكه فإذا أرسله حصل الاستماع، فإن قيل على قول من قال التنكير في القلب للتكثير يظهر حسن ترتيب في قوله: {أو ألقى السمع} وذلك لأنه يصير كأنه تعالى يقول: إن في ذلك لذكرى لمن كان ذا قلب واع ذكي يستخرج الأمور بذكائه أو ألقى السمع ويستمع من المنذر فيتذكر، وأما على قولك المراد من صح أن يقال له قلب ولو كان غير واع لا يظهر هذا الحسن، نقول على ما ذكرنا ربما يكون الترتيب أحسن وذلك لأن التقدير يصير كأنه تعالى قال: فيه ذكرى لكل واحد كيف كان له قلب لظهور الأمر، فإن كان لا يحصل لكل أحد فلمن يستمع حاصل ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: {أو ألقى السمع} حيث لم يكل أو استمع لأن الاستماع ينبىء عن طلب زائد، وأما إلقاء السمع فمعناه أن الذكرى حاصلة لمن لا يمسك سمعه بل يرسله إرسالا، وإن لم يقصد السماع كالسامع في الصوت الهائل فإنه يحصل عند مجرد فتح الأذن وإن لم يقصد السماع والصوت الخفي لا يسمع إلا باستماع وتطلب، فنقول الذكرى حاصلة لمن كان له قلب كيف كان قلبه لظهورها فإن لم تحصل فلمن له أذن غير مسدودة كيف كان حاله سواء استمع باجتهاده أو لم يجتهد في سماعه، فإن قيل فقوله تعالى: {وهو شهيد} للحال وهو يدل على أن إلقاء السمع بمجرده غير كاف، نقول هذا يصحح ما ذكرناه لأنا قلنا بأن الذكرى حاصلة لمن له قلب ما، فإن لم تحصل له فتحصل له إذا ألقى السمع وهو حاضر بباله من القلب، وأما على الأول فمعناه من ليسه له قلب واع، يحصل له الذكر إذا ألقى السمع وهو حاضر بقلبه فيكون عند الحضور بقلبه يكون له قلب واع، وقد فرض عدمه هذا إذا قلنا بأن قوله: {وهو شهيد} بمعنى الحال، وإذا لم نقل به فلا يرد ما ذكر وهو يحتمل غير ذلك بيانه هو أن يقال ذلك إشارة إلى القرآن وتقريره هو أن اللّه تعالى لما قال في أول السورة: {ق والقرءان المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} (ق: ١، ٢) وذكر ما يدفع تعجبهم وبين كونه منذرا صادقا وكون الحشر أمرا واقعا ورغب وأرهب بالثواب والعذاب آجلا وعاجلا وأتم الكلام قال: {إن فى ذلك} أي القرآن الذي سبق ذكره {لذكرى لمن كان له قلب} أو لمن يستمع، ثم قال: {وهو شهيد} أي المنذر الذي تعجبتم منه شهيد كما قال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا} (الفتح: ٨) وقال تعالى: {ليكون الرسول شهيدا عليكم} (الحج: ٧٨) . ثم قال تعالى: ٣٨{ولقد خلقنا السماوات والارض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب}. أعاد الدليل مرة أخرى، وقد ذكرنا تفسير ذلك في الم السجدة، وقلنا: إن الأجسام ثلاثة أجناس. أحدها: السماوات، ثم حركها وخصصها بأمور ومواضع وكذلك الأرض خلقها، ثم دحاها وكذلك ما بينهما خلق أعيانها وأصنافها {في ستة أيام} إشارة إلى ستة أطوار، والذي يدل عليه ويقرره هو أن المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم في وضع اللغة، لأن اليوم عبارة في اللغة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب، وقبل السماوات لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت يقال يوم يولد للملك ابن يكون سرور عظيم ويوم يموت فلان يكون حزن شديد، وإن اتفقت الولادة أو الموت ليلا ولا يتعين ذلك ويدخل في مراد العاقل لأنه أراد باليوم مجرد الحين والوقت، إذا علمت الحال من إضافة اليوم إلى الأفعال فافهم ما عند إطلاق اليوم في قوله: {ستة أيام} وقال بعض المفسرين: المراد من الآية الرد على اليهود، حيث قالوا: بدأ اللّه تعالى خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه في ستة أيام آخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه فقال تعالى: {وما مسنا من لغوب} ردا عليهم، والظاهر أن المراد الرد على المشرك والاستدلال بخلق السماوات والأرض ومما بينهما وقوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة. ثانيا: والخلق الجديد كما قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} (ق: ١٥) وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو أما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله، وذلك لأن الأحد والاثنين أزمنة متميز بعضها عن بعض، فلو كان خلق السماوات ابتدىء يوم الأحد لكان الزمان متحققا قبل الأجسام والزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام أجسام أخر فيلزم القول بقدم العالم وهو مذهب الفلاسفة، ومن العجيب أن بين الفلاسفة والمشبهة غاية الخلاف، فإن الفلسفي لا يثبت للّه تعالى صفة أصلا ويقول بأن اللّه تعالى لا يقبل صفة بل هو واحد من جميع الوجوه، فعلمه وقدرته وحياته هو حقيقته وعينه وذاته، والمشبهي يثبت للّه صفة الأجسام من الحركة والسكون والاستواء والجلوس والصعود والنزول فبينهما منافاة، ثم إن اليهود في هذا الكلام جمعوا بين المسألتين فأخذوا بمذهب الفلاسفة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي القدم حيث أثبتوا قبل خلق الأجسام أياما معدودة وأزمنة محدودة، وأخذوا بمذهب المشبهة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي الاستواء على العرش فأخطوا (وضلوا) وأضلوا في الزمان والمكان جميعا. ٣٩ثم قال تعالى: {فاصبر على ما يقولون} قال من تقدم ذكرهم من المفسرين إن معناه اصبر على ما يقولون من حديث التعب بالاستلقاء،وعلى ما قلناه معناه اصبر على ما يقولون إن هذا لشيء عجيب، {وسبح بحمد ربك} وما ذكرناه أقرب لأنه مذكور، وذكر اليهود وكلامهم لم يجر. وقوله: {وسبح بحمد ربك} يحتمل وجوها. أحدها: أن يكون اللّه أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصلاة، فيكون كقوله تعالى: {وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل} (هود: ١١٤). وقوله تعالى: {قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} إشارة إلى طرفي النهار. ٤٠وقوله: {ومن اليل فسبحه} إشارة إلى زلفا من الليل، ووجه هذا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم له شغلان. أحدهما: عبادة اللّه. وثانيهما: هداية الخلق فإذا هداهم ولم يهتدوا، قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الحق. ثانيها: سبح بحمد ربك، أي نزهه عما يقولون ولا تسأم من امتناعهم بل ذكرهم بعظمة اللّه تعالى ونزهه عن الشرك والعجز عن الممكن الذي هو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب، فإنهما وقت اجتماعهم {ومن اليل فسبحه} أي أوائل الليل، فإنه أيضا وقت اجتماع العرب، ووجه هذا أنه لا ينبغي أن تسأم من تكذيبهم فإن الرسل من قبلك أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا وأوذوا، وعلى هذا فلقوله تعالى: {وأدبار السجود} فائدة جليلة وهي الإشارة إلى ما ذكرنا أن شغل الرسول أمر أن العبادة والهداية فقوله: {وأدبار السجود} أي عقب ما سجدت وعبدت نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود. ثالثها: أن يكون المراد قل سبحان اللّه، وذلك لأن ألفاظا معدودة جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم، فقولنا كبر يطلق ويراد به قول القائل اللّه أكبر، وسلم يراد به قوله السلام عليكم، وحمد يقال لمن قال الحمد للّه، ويقال هلل لمن قال لا إله إلا اللّه، وسبح لمن قال سبحان اللّه، ووجه هذا أن هذه أمور تتكرر من الإنسان في الكلام والحاجة تدعو إلى الإخبار عنها، فلو قال القائل فلان قال لا إله إلا اللّه أو قال اللّه أكبر طول الكلام، فمست الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة لذلك لعدم تكرر ما في الأول، وأما مناسبة هذا الوجه للكلام الذي هو فيه، فهي أن تكذيبهم الرسول وتعجبهم من قوله أو استهزاءهم كان يوجب في العادة أن يشتغل النبي صلى اللّه عليه وسلم بلعنهم وسبهم والدعاء عليهم فقال: فاصبر على ما يقولون واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح للّه والحمد له ولا تكن كصاحب الحوت أو كنوح عليه السلام حيث قال: {رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا} (نوح: ٢٦) بل ادع إلى ربك فإذا ضجرت عن ذلك بسبب إصرارهم فاشتغل بذكر ربك في نفسك، وفيه مباحث: البحث الأول: استعمل اللّه التسبيح تارة مع اللام في قوله تعالى: {يسبح * اللّه} (الجمعة: ١)، و {يسبحون له} (فصلت: ٣٨) وأخرى مع الباء في قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} (الواقعة: ٧٤) و {سبح * بحمد ربك} (طه: ٤٢) وقوله: {سبح اسم ربك الاعلى} (الأعلى: ١) فما الفرق بينهما؟ نقول: أما الباء فهي إلهم وبالتقديم أولى في هذا الموضع كقوله تعالى: {وسبع * بحمد ربك} فنقول أما على قولنا المراد من سبح قل سبحان اللّه، فالباء للمصاحبة أي مقترنا بحمد اللّه، فيكون كأنه تعالى قال قل سبحان اللّه والحمد للّه، وعلى قولنا المراد التنزيه لذلك أي نزهه وأقرنه بحمده أي سبحه واشكره حيث وفقك اللّه لتسبيحه فإن السعادة الأبدية لمن سبحه، وعلى هذا فيكون المفعول غير مذكور لحصول العلم به من غير ذكر تقديره: سبح اللّه بحمد ربك، أي ملتبسا ومقترنا بحمد ربك، وعلى قولنا صل، نقول يحتمل أن يكون ذلك أمرا بقراءة الفاتحة في الصلاة يقال: صلى فلان بسورة كذا أو صلى بقل هو اللّه أحد، فكأنه يقول صلى بحمد اللّه أي مقروءا فيها: الحمد للّه رب العالمين، وهو أبعد الوجوه، وأما التعدية من غير حرف فنقول هو الأصل لأن التسبيح يتعدى بنفسه لأن معناه تبعيد من السوء وأما اللام فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون كما في قول القائل نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له. وثانيهما: أن يكون لبيان الأظهر أي يسبحون اللّه وقلوبهم لوجه اللّه خالصة. البحث الثاني: قال ههنا: {سبح * بحمد ربك} ثم قال تعالى: {ومن اليل فسبحه} من غير باء فما الفرق بين الموضعين؟ نقول الأمر في الموضعين واحد على قولنا التقدير سبح اللّه مقترنا بحمد ربك، وذلك لأن سبح اللّه كقول القائل فسبحه غير أن المفعول لم يدكر. أولا: لدلالة قوله بحمد ربك عليه. وثانيا: لدلالة ما سبق عليه لم يذكر بحمد ربك، الجواب الثاني على قولنا سبح بمعنى صل يكون الأول أمرا بالصلاة، والثاني أمرا بالتنزيه، أي وصل بحمد ربك في الوقت وبالليل نزهه عما لا يليق، وحينئذ يكون هذا إشارة إلى العمل والذكر والفكر. فقوله: {سبح} إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة، وقوله: {بحمد ربك} إشارة إلى الذكر، وقوله: {ومن اليل فسبحه} إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة، وقوله: {بحمد ربك} إشارة إلى الذكر، وقوله: {ومن اليل فسبحه} إشارة إلى الفكر حين هدوا الأصواب، وصفاء الباطن أي نزهه عن كل سوء بفكرك، واعلم أنه لا يتصف إلا بصفات الكمال ونعوت الجلال، وقوله تعالى: {وأدبار السجود} قد تقدم بعض ما يقال في تفسيره، ووجه آخر هو أنه إشارة إلى الأمر بإدامة التسبيح، فقوله: {بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن اليل فسبحه} إشارة إلى أوقات الصلاة، وقوله: {وأدبار السجود} يعني بعدما فرغت من السجود وهو الصلاة فلا تترك تسبيح اللّه وتنزيهه بل داوم أدبار السجود ليكون جميع أوقاتك في التسبيح فيفيد فائدة قوله تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} (الكهف: ٢٤) وقوله: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب} (الشرح: ٧، ٨) وقرىء: {والركع السجود}. البحث الثالث: الفاء في قوله تعالى: {فسبحه} ما وجهها؟ نقول هي تفيد تأكيد الأمر بالتسبيح من الليل، وذلك لأنه يتضمن الشرط كأنه يقول: وأما من الليل فسبحه، وذلك لأن الشرط يفيد أن عند وجوده يجب وجود الجزاء، وكأنه تعالى يقول النهار محل الاشتغال وكثرة الشواغل، فأما الليل فمحل السكون والانقطاع فهو وقت التسبيح، أو نقول بالعكس الليل محل النوم والثبات والغفلة، فقال: أما الليل فلا تجعله للغفلة بل اذكر فيه ربك ونزهه. البحث الرابع: {من} في قوله: {ومن اليل} يحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون لابتداء الغاية أي من أول الليل فسبحه، وعلى هذا فلم يذكر له غاية لاختلاف ذلك بغلبة النوم وعدمها، يقال أنا من الليل أنتظرك. ثانيهما: أن يكون للتبعيض أي اصرف من الليل طرفا إلى التسبيح يقال: من مالك منع ومن الليل انتبه، أي بعضه. البحث الخامس: قوله: {وأدبار السجود} عطف على ماذا؟ نقول: يحتمل أن يكون عطفا على ما قبل الغروب كأنه تعالى قال: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وأدبار السجود) وذكر بينهما قوله: {ومن اليل فسبحه} وعلى هذا ففيه ما ذكرنا من الفائدة وهي الأمر بالمداومة، كأنه قال: سبح قبل طلوع الشمس، وإذا جاء وقت الفراغ من السجود قبل الطلوع فسبح وسبح قبل الغروب، وبعد الفراغ من السجود قبل الغروب سبحه فيكون ذلك إشارة إلى صرف الليل إلى التسبيح، ويحتمل أن يكون عطفا على {ومن اليل فسبحه} وعلى هذا يكون عطفا على الجار والمجرور جميعا، تقديره وبعض الليل (فسبحه وأدبار السجود). ثم قال تعالى: ٤١{واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب}. هذا إشارة إلى بيان غاية التسبيح، يعني اشتغل بتنزيه اللّه وانتظر المنادي كقوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر: ٩٩) وفيه مسائل: المسألة الأولى: ما الذي يستمعه؟ قلنا: يحتمل وجوها ثلاثة. أحدها: أن يترك مفعوله رأسا ويكون المقصود كن مستمعا ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين الغافلين، يقال هو رجل سميع مطيع ولا يراد مسموع بعينه كما يقال فلان وكاس، وفلان يعطي ويمنع. ثانيهما: استمع لما يوحي إليك. ثالثها: استمع نداء المنادي. المسألة الثانية: {يوم يناد المناد} منصوب بأي فعل؟ نقول: هو مبني على المسألة الأولى، إن قلنا استمع لا مفعول له فعامله ما يدل عليه قوله تعالى: {يوم الخروج} (ق: ٤٢) تقديره: يخرجون يوم ينادي المنادي، وإن قلنا مفعوله لما يوحى فتقديره (واستمع) لما يوحى (يوم ينادي) ويحتمل ما ذكرنا وجها آخر، وهو ما يوحي أي ما يوحى {يوم * يناد المناد} اسمعه، فإن قيل: استمع عطف على فاصبر وسبح وهو في الدنيا، والاستماع يكون في الدنيا، وما يوحى {يوم يناد المناد} لا يستمع في الدنيا، نقول ليس بلازم ذلك لجواز أن يقال صل وادخل الجنة أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العقبى، فكذلك ههنا، ويحتمل أن يقال بأن استمع بمعنى انتظر فيحتمل الجمع في الدنيا، وإن قلنا استمع الصيحة وهو نداء المنادي: يا عظام انتشري، والسؤال الي ذكره علم الجواب منه، وجواب آخر نقوله حينئذ وهو أن اللّه تعالى قال: {ونفخ فى الصور فصعق من فى * السماوات * ومن فى الارض إلا من شاء اللّه} (الزمر: ٦٨) قلنا: إن من شاء اللّه هم الذين علموا وقوع الصيحة، واستيقظوا لها فلم تزعجهم كمن يرى برقا أومض، وعلم أن عقبيه يكون رعد قوي فينظره ويستمع له، وآخر غافل فإذا رعد بقوة ربما يغشى على الغافل ولا يتأثر منه المستمع، فقال: استمع ذلك كي لا تكون ممن يصعق في ذلك اليوم. المسألة الثانية: ما الذي ينادي المنادي؟ فيه وجوه محتملة منقولة معقولة وحصرها بأن نقول المنادي أما أن يكون هو اللّه تعالى أو الملائكة أو غيرهما وهم المكلفون من الإنس والجن في الظاهر، وغيرهم لا ينادي، فإن قلنا هو تعالى فيه وجوه. أحدها: ينادي: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} (الصافات: ٢٢). ثانيها: ينادي {ألقيا فى جهنم كل كفار عنيد} (ق: ٢٤) مع قوله: أدخلوها بسلام} (ق: ٣٤) ومثله قوله تعالى: {*} (ق: ٣٤) ومثله قوله تعالى: {خذوه فغلوه} (الحاقة: ٣٠) يدل على هذا قوله تعالى: {يوم يناد المناد من مكان قريب} (ق: ٤١) وقال: {وأخذوا من مكان قريب} (سبأ: ٥١). ثالثها: غيرهما لقوله تعالى: {يناديهم أين شركائى} وغير ذلك، وأما على قولنا المنادي غير اللّه ففيه وجوه أيضا. أحدها: قول إسرافيل: أيتها العظام البالية اجتمعوا للوصل واستمعوا للفصل. ثانيها: النداء مع النفس يقال للنفس ارجعي إلى ربك لتدخلي مكانك من الجنة أو النار. ثالثها: ينادي مناد هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، كما قال تعالى: {فريق فى الجنة وفريق فى السعير} (الشورى: ٧) وعلى قولنا المنادي هو المكلف فيحتمل أن يقال هو ما بين اللّه تعالى في قوله: {ونادوا يامالك * مالك} (الزخرف: ٧٧) أو غير ذلك إلا أن الظاهر أن المراد أحد الوجهين الأولين، لأن قوله المنادي للتعريف وكون الملك في ذلك اليوم مناديا معروف عرف حاله وإن لم يجر ذكره فيقال: قال صلى اللّه عليه وسلم وإن لم يكن قد سبق ذكره، وأما أن اللّه تعالى مناد فقد سبق في هذه السورة في قوله: {ألقيا} (ق: ٢٤) وهذا نداء، وقوله: {يوم نقول لجهنم} (ق: ٣٠) وهو نداء، وأما المكلف ليس كذلك، وقوله تعالى: {من مكان قريب} إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد بل يستوي في استماعه كل أحد وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على اللّه تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب نفس المكان بل ظهور النداء وهو من اللّه تعالى أقرب، وهذا كما قال في هذه السورة: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (ق: ١٦) وليس ذلك بالمكان. ثم قال تعالى: ٤٢{يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج}. هذا تحقيق ما بينا من الفائدة في قوله: {واستمع} (ق: ٤١) أي لا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة، وبيانه هو أنه قال استمع أي كن قبل أن تستمع مستيقظا لوقوعه، فإن السمع لا بد منه أنت وهم فيه سواء فهم يسمعون لكن من غير استماع فيصعقون وأنت تسمع بعد الاستماع فلا يؤثر فيك إلا ما لا بد منه و {يوم} يحتمل وجوها. أحدها: ما قاله الزمخشري أنه بدل من يوم في قوله: {واستمع يوم يناد المناد} والعامل فيهما الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى: {ذلك يوم الخروج} (ق: ٤٢) أي يخرجون يوم يسمعون. ثانيها: أن {يوم يسمعون} العامل فيه مما في قوله ذلك {يوم يناد المناد} العامل فيه ما ذكرنا. ثالثها: أن يقال استمع عامل في يوم ينادي كما ذكرنا وينادي عامل في يسمعون، وذلك لأن يوم ينادي وإن لم يجز أن يكون منصوبا بالمضاف إليه وهو ينادي لكن غيره يجوز أن يكون منصوبا به، يقال: اذكر حال زيد ومذلته يوم ضربه عمرو، ويوم كان عمرو واليا، إذا كان القائل يريد بيان مذلة زيد عندما صار زيد يكرم بسبب من الأسباب، فلا يكون يوم كان عمرو واليا منصوبا بقوله اذكر لأن غرض القائل التذكير بحال زيد ومذلته وذلك يوم الضرب، لكن يوم كان عمرو منصوب بقوله ضربه عمرو يوم كان واليا، فكذلك ههنا قال: {واستمع يوم يناد المناد} لئلا تكون ممن يفزع ويصعق، ثم بين هذا النداء بقوله: {يناد المناد} يوم يسمعون أي لا يكون نداء خفيا بحيث لا يسمعه بعض الناس بل يكون نداؤه بحيث تكون نسبته إلى من في أقصى المغرب كنسبته إلى من في المشرق، وكلكم تسمعون، ولا شك أن مثل هذا الصوت يجب أن يكون الإنسان متهيئا لاستماعه، وذلك يشغل النفس بعبادة اللّه تعالى وذكره والتفكير فيه فظهر فائدة جليلة من قوله: {فاصبر * وسبح * واستمع يوم يناد المناد * ويوم * يسمعون} واللام في الصيحة للتعريف، وقد عرف حالها وذكرها اللّه مرارا كما في قوله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة} (يس: ٢٩) وقوله {فإنما هي زجرة واحدة} (الصافات: ١٩) وقوله: {*}{فإنما هي زجرة واحدة} (الصافات: ١٩) وقوله: {*} (الصافات: ١٩) وقوله: {نفخة واحدة} (الحاقة: ١٣) وقوله: {بالحق} جاز أن يكون متعلقا بالصيحة أي الصحة بالحق يسمعونها، وعلى هذا ففيه وجوه: الأول: الحق الحشر أي الصيحة بالحشر وهو حق يسمعونها يقال صاح زيد بيا قوم اجتمعوا على حد استعمال تكلم بهذا الكلام وتقديره حينئذ يسمعون الصيحة بيا عظام اجتمعي وهو المراد بالحق. الثاني: الصيحة بالحق أي باليقين والحق هو اليقين، يقل صاح فلان بيقين لا بظن وتخمين أي وجد منه الصياح يقينا لا كالصدى وغيره وهو يجري مجرى الصفة للصيحة، يقال استمع سماعا بطلب، وصاح صيحة بقوة أي قوية فكأنه قال الصيحة المحققة. الثالث: أن يكون معناه الصيحة المقترنة بالحق وهو الوجود، يقال كن فيتحقق ويكون، ويقال اذهب بالسلام وارجع بالسعادة أي مقرونا ومصحوبا، فإن قيل زد بيانا فإن الباء في الحقيقة للإلصاق فكيف يفهم معنى الإلصاق في هذه المواضع؟ نقول التعدية قد تتحقق بالباء يقال ذهب بزيد على معنى ألصق الذهاب بزيد فوجد قائما به فصار مفعولا، فعلى قولنا المراد يسمعون صيحة من صاح بيا عظام اجتمعي هو تعدية المصدر بالباء يقال أعجبني ذهاب زيد بعمرو، وكذلك قوله: {الصيحة بالحق} أي ارفع الصوت على الحق وهو الحشر وله موعد نبينه في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى. الوجه الثاني: أن يكون الحق متعلقا بقوله: {يسمعون} أي يسمعون الصيحة بالحق وفيه وجهان. الأول: هو قول القائل سمعته بيقين. الثاني: الباء في يسمعون بالحق قسم أي يسمعون الصيحة باللّه الحق وهو ضعيف وقوله تعالى: {ذلك يوم} فيه وجهان. أحدهما: ذلك إشارة إلى يوم أي ذلك اليوم يوم الخروج. ثانيهما: ذلك إشارة إلى نداء المنادي. ثم قال تعالى: ٤٣{إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير}. قد ذكرنا في سورة يس ما يتعلق بقوله: {كريم إنا نحن}، وأما قوله: {إنا نحن} فالمراد من الإحياء الإحياء أولا {ونميت} إشارة إلى الموتة الأولى وقوله: {وإلينا} بيان للحشر فقدم {إنا نحن} لتعريف عظمته يقول القائل أنا أنا أي مشهور و {إنا نحن} أمور مؤكدة معنى العظمة {وإلينا المصير} بيان للمقصود. ٤٤وقوله تعالى: {يوم تشقق الارض عنهم سراعا} العامل فيه هو ما في قوله {يوم الخروج} (ق: ٤٢) من الفعل أي يخرجون يوم تشقق الأرض عنهم سراعا وقوله: {سراعا} حال للخارجين لأن قوله تعالى: {عنهم} يفيد كونهم مفعولين بالتشقق فكان التشقق عند الخروج من القبر كما يقال كشف عنه فهو مكشوف عنه فيصير سراعا هيئة المفعول كأنه قال مسرعين والسراع جمع سريع كالكرام جمع كريم. قوله: {ذلك حشر} يحتمل أن يكون إشارة إلى التشقق عنهم، ويحتمل أن يكون إشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله سراعا، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير، لأن الحشر علم مما تقدم من الألفاظ. وقوله تعالى: {علينا يسير} بتقديم الظرف يدل على الاختصاص، أي هو علينا هين لا على غيرنا وهو إعادة جواب قولهم: {ذلك رجع بعيد} (ق: ٣) والحشر الجمع ويوم القيامة جمع الأجزاء بعضها إلى بعض وجمع الأرواح مع الأشباح أي يجمع بين كل روح وجسدها وجمع الأمم المتفرقة والرمم المتمزقة والكل واحد في الجمع. ٤٥{نحن أعلم بما يقولون ومآ أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد}. فيه وجوه. أحدها: تسلية لقلب النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين وتحريض لهم على ما أمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم من الصبر والتسبيح، أي اشتغل بما قلناه ولا يشغلك الشكوى إلينا فإنا نعلم أقوالهم ونرى أعمالهم، وعلى هذا فقوله: {وما أنت عليهم بجبار} مناسب له أي لا تقل بأني أرسلت إليهم لأهديهم، فكيف أشتغل بما يشغلني عن الهداية وهو الصلاة والتسبيح، فإنك ما بعثت مسلطا على دواعيهم وقدرهم، وإنما أمرت بالتبليغ، وقد بلغت فاصبر وسبح وانتظر اليوم الذي يفصل فيه بينكم. ثانيها: هي كلمة تهديد وتخويف لأن قوله: {وإلينا المصير} (ق: ٤٣) ظاهر في التهديد بالعلم بعملكم لأن من يعلم أن مرجعه إلى الملك ولكنه يعتقد أن الملك لا يعلم ما يفعله لا يمتنع من القبائح، أما إذا علم أنه يعلمه وعنده غيبه وإليه عوده يمتنع فقال تعالى: {وإلينا المصير} و {نحن أعلم} وهو ظاهر في التهديد، وهذا حينئذ كقوله تعالى: {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور} (الزمر: ٧). ثالثها تقرير الحشر وذلك لأنه لما بين أن الحشر عليه يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يميز بين جزء بدنين جزء بدن زيد وجزء بدن عمرو فقال: {ذلك حشر علينا يسير} لكمال قدرتنا، ولا يخفى علينا الأجزاء لمكان علمنا، وعلى هذا فقوله: {نحن أعلم بما يقولون} معناه نحن نعلم عين ما يقولون في قولهم {أءذا متنا وكنا ترابا} (المؤمنون: ٨٢) {أءذا ضللنا فى الارض} (السجدة: ١٠) فيقول: نحن نعلم الأجزاء التي يقولون فيها إنها ضالة وخفية ولا يكون المراد نحن نعلم وقولهم في الأول جاز أن تكون ما مصدرية فيكون المراد من قوله: {بما يقولون} أي قولهم، وفي الوجه الآخر تكون خبرية، وعلى هذا الدليل فلا يصح قوله: {نحن أعلم} إذ لا عالم بتلك الأجزاء سواه حتى يقول: {نحن أعلم} نقول قد علم الجواب عنه مرارا من وجوه: أحدها: أن أفعل لا يقتضي الاشتراك في أصل الفعل كما في قوله تعالى: {واللّه أحق أن تخشاه} (الأحزاب: ٣٧) وفي قوله تعالى: {أحسن * نديا} (مريم: ٧٧)، وفي قوله: {وهو أهون عليه} (الروم: ٢٧) ثانيها: معناه نحن أعلم بما يقولون من كل عالم بما يعلمه، والأول أصح وأظهر وأوضح وأشهر وقوله: {وما أنت عليهم بجبار} فيه وجوه: أحدها: أن للتسلية أيضا، وذلك لأنه لما من عليه بالإقبال على الشغل الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث، كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في أحدهما: يقول له أقبل على الشغل الآخر ومنهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عن منهما، فقال: {اصبر * وسبح * وما أنت * بجبار} أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك، بل كنت بهم رؤوفا وعليهم عطوفا وبالغت وبلغت وامتنعوا فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك، وهذا في معنى قوله تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} إلى أن قال: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: ٢ ـ ٤)، ثانيها: هو بيان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتى بما عليه من الهداية وذلك لأنه أرسله منذرا وهاديا لا ملجأ ومجبرا، وهذا كما في قوله تعالى: {فما أرسلناك عليهم حفيظا} (الشورى: ١٨) أي تحفظهم من الكفر والنار، وقوله: {وما أنت عليهم} في معنى قول القائل: اليوم فلان علينا، في جواب من يقول: من عليكم اليوم؟ أي من الوالي عليكم. ثالثها: هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد، وذلك لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب، فقال: نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابي إن لم يؤمنوا من بقي منهم ممن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط، ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال، وعلى هذا فقوله: {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد} أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد، وفيه وجوه أخر. أحدها: أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى: {فاصبر على ما يقولون وسبح} (ق: ٣٩) معناه أقبل على العبادة، ثم قال: ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات: ٥٥) {وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: ١٩٩) وقوله: {بالقرءان} فيه وجوه. الأول: فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة. الثاني: {فذكر بالقرءان} أي بين به أنك رسول لكونه معجزا، وإذا ثبت كونك رسولا لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به. الثالث: المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير، وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبي صلى اللّه عليه وسلم به أي اجعل القرآن إمامك، وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم، وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه، وقوله تعالى: {من يخاف وعيد} من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف، حيث قال: {يخاف} عندما جعل المخوف عذاب ووعيده، وقال: {*اخشوني} (البقرة: ١٥٠) عندما جعل المخوف نفسه العظيم، وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة، وقوله: {تزكى وذكر} إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال: {بالقرءان} وقوله: {وعيد} إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله: {وعيد} يدل على الوحدانية، فإنه لو قال من يخاف وعيد اللّه كان يذهب وهم اللّه إلى كل صوب فلذا قال: {وعيد} والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه، وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول: {ق والقرءان المجيد} (ق: ١) وقال في آخرها: {فذكر بالقرءان}. وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد للّه رب العالمين، وصلاته على خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين. |
﴿ ١ ﴾