٤٧ثم قال تعالى: {والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون}. وهو بيان للوحدانية، وما تقدم كان بيانا للحشر. وأما قوله ههنا: {والسماء بنيناها بأيد} وأنتم تعرفون أن ما تعبدون من دون اللّه ما خلقوا منها شيئا فلا يصح الإشراك، ويمكن أن يقال هذا عود بعد التهديد إلى إقامة الدليل، وبناء السماء دليل على القدرة على خلق الأجسام ثانيا، كما قال تعالى: {أو ليس * الذى خلق * السماوات والارض * بقادر على أن يخلق مثلهم} (يس: ٨١) وفيه مسائل: المسألة الأولى: النصب على شريطة التفسير يختار في مواضع، وإذا كان العطف على جملة فعليه فما تلك الجملة؟ نقول في بعض الوجوه التي ذكرناها في قوله تعالى: {وفى عاد} (الذاريات: ٤١) {وفى ثمود} (الذاريات: ٤٣) تقديره وهل أتاك حديث عاد وهل أتاك حديث ثمود، عطفا على قوله: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} (الذاريات: ٢٤) وعلى هذا يكون ما تقدم جملة فعلية لا خفاء فيه، وعلى غير ذلك الوجه فالجار والمجرور النصب أقرب منه إلى الرفع فكان عطفا على ما بالنصب أولى، ولأن قوله تعالى: {فنبذناهم} (الذاريات: ٤٠) وقوله: {أرسلنا} (الذاريات: ٣٢) وقوله تعالى: {فأخذتهم الصاعقة} (الذاريات: ٤٤) و {فما استطاعوا} (الذاريات: ٤٥) كلها فعليات فصار النصب مختارا. المسألة الثانية: كرر ذكر البناء في السماوات، قال تعالى: {والسماء وما بناها} (الشمس: ٥) وقال تعالى: {أم السماء بناها} (النازعات: ٢٧) وقال تعالى: {جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء} (غافر: ٦٥) فما الحكمة فيه؟ نقول فيه وجوه. أحدها: أن البناء باق إلى قيام القيامة لم يسقط منه شيء ولم يعدم منه جزء، وأما الأرض فهي في التبدل والتغير فهي كالفرش الذي يبسط ويطوي وينقل، والسماء كالبناء المبني الثابت، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سبعا شدادا} (النبأ: ١٢) وأما الأراضي فكم منها ما صار بحرا وعاد أرضا من وقت حدوثها. ثانيها: أن السماء ترى كالقبة المبنية فوق الرؤوس، والأرض مبسوطة مدحوة والبناء بالمرفوع أليق، كما قال تعالى: {رفع سمكها} (النازعات: ٢٨). ثالثها: قال بعض الحكماء: السماء مسكن الأرواح والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناء واللّه أعلم. المسألة الثالثة: الأصل تقديم العامل على المعمول والفعل هو العامل فقوله: {بنيانا} عامل في السماء، فما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال: وبنينا السماء بأيد، كان أوجز؟ نقول الصانع قبل الصنع عند الناظر في المعرفة، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع، قدم الدليل فقال والسماء المزينة التي لا تشكون فيها بنيناها فاعرفونا بها إن كنتم لا تعرفوننا. المسألة الرابعة: إذا كان المقصود إثبات التوحيد، فكيف قال: {بنيناها} ولم يقل بنيتها أو بناها اللّه؟ نقول قوله: {بنيانا} أدل على عدم الشريك في التصرف والاستبداد وقوله بنيتها يمكن أن يكون فيه تشريك، وتمام التقرير هو أن قوله تعالى: {بنيناها} لا يورث إيهاما بأن الآلها التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير في {بنيناها} لأن تلك أما أصنام منحوتة وأما كواكب جعلوا الأصنام على صورها وطبائعها، فأما الأصنام المنحوتة فلا يشكون أنها ما بنت من السماء شيئا، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها وإنما يمكن أن يقال إنما بنيت لها وجعلت أماكنها، فلما لم يتوهم ما قالوا قال بنينا نحن ونحن غير ما يقولون ويدعون فلا يصلحون لنا شركاء لأن كل ما هو غير السماء ودون السماء في المرتبة فلا يكون خالق السماء وبانيها فإذن علم أن المراد جمع التعظيم وأفاد النص عظمته، فالعظمة أنفى للشريك فثبت أن قوله: {بنيناها} أدل على نفي الشريك من بنيتها وبناها اللّه. فإن قيل: لم قلت: إن الجمع يدل على التعظيم؟ قلنا الجواب من الوجهين. الأول: أن الكلام على قدر فهم السامع، والسامع هو الإنسان، والإنسان يقيس الشاهد على الغائب، فإن الكبير عندهم من يفعل الشيء بجنده وخدمه ولا يباشر بنفسه، فيقول الملك فعلنا أي فعله عبادنا بأمرنا ويكون في ذلك تعظيم، فكذلك في حق الغائب. الوجه الآخر: هو أن القول إذا وقع من واحد وكان الغير به راضيا يقول القائل فعلنا كلنا كذا وإذا اجتمع جمع على فعل لا يقع إلا بالبعض، كما إذا خرج جم غفير وجمع كثير لقتل سبع وقتلوه يقال قتله أهل بلدة كذا لرضا الكل به وقصد الكل إليه، إذا عرفت هذا فاللّه تعالى كيفما أمر بفعل شيء لا يكون لأحد رده وكان كل واحد منقادا له، يقول بدل فعلت فعلنا، ولهذا الملك العظيم أجمعنا بحيث لا ينكره أحد ولا يرده نفس، وقوله تعالى: {بأيد} أي قوة والأيد القوة هذا هو المشهور وبه فسر قوله تعالى: {ذا الايد إنه أواب} (ص: ١٧) يحتمل أن يقال إن المراد جمع اليد، ودليله أنه قال تعالى: {لما خلقت بيدى} (ص: ٧٥) وقال تعالى: {مما عملت أيدينا أنعاما} (يس: ٧١) وهو راجع في الحقيقة إلى المعنى الأول وعلى هذا فحيث قال: {خلقت} قال: {بيدى} وحيث قال: {بأيد} لمقابلة الجمع بالجمع، فإن قيل فلم لم يقل بنيناها بأيدينا وقال: {وما علمتم * أيدينا}؟ نقول لفائدة جليلة، وهي أن السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة لغير اللّه والأنعام ليست كذلك، فقال هناك: {مما عملت أيدينا} تصريحا بأن الحيوان مخلوق للّه تعالى من غير واسطة وكذلك {خلقت بيدى} وفي السماء {بأيد} من غير إضافة للاستغناء عنها وفيه لطيفة أخرى وهي أن هناك لما أثبت الإضافة بعد حذف الضمير العائد إلى المفعول، فلم يقل خلقته بيدي ولا قال عملته أيدينا وقال ههنا: {بنيناها} لأن هناك لم يخطر ببال أحد أن الإنسان غير مخلوق وأن الحيوان غير معمول فلم يقل خلقته ولا عملته وأما السماء فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة فقال: {بنيناها} بعود الضمير تصريحا بأنها مخلوقة. وقوله تعالى: {وإنا لموسعون} فيه وجوه. أحدها: أنه من السعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط به من الماء والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة، والبناء الواسع الفضاء عجيب فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. ثانيها: قوله:}وإنا لموسعون} أي لقادرون ومنه قوله تعالى: {وإنا لموسعون} أي لقادرون ومنه قوله تعالى: {*} أي لقادرون ومنه قوله تعالى: {لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها} (البقرة: ٢٨٦) أي قدرتها والمناسبة حينئذ ظاهرة، ويحتمل أن يقال بأن ذلك حينئذ إشارة إلى المقصود الآخر وهو الحشر كأنه يقول: بنينا السماء، وإنا لقادرون على أن نخلق أمثالها، كما في قوله تعالى: {أو ليس * الذى خلق * السماوات والارض * بقادر على أن يخلق مثلهم} (يس: ٨١). ثالثها: {أنا * لموسعون} الرزق على الخلق. |
﴿ ٤٧ ﴾