٢

قوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا}.

قال ابن عباس: إن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم وقوتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم، وإنما ذكر اللّه تعالى ذلك تعظيما لهذه النعمة، فإن النعمة إذا وردت على المرء والظن بخلافه تكون أعظم، فالمسلمون ما ظنوا أنهم يصلون إلى مرادهم في خروج هؤلاء اليهود، فيتخلصون من ضرر مكايدهم، فلما تيسر لهم ذلك كان توقع هذه النعمة أعظم.

قوله تعالى: {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من اللّه}.

قالوا كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها تمنعهم من رسول اللّه، وفي الآية تشريف عظيم لرسول اللّه، فإنها تدل على أن معاملتهم مع رسول اللّه هي بعينها نفس المعاملة مع اللّه،

فإن قيل: ما الفرق بين قولك: ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاء عليه،

قلنا: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم إسما، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالون بأحد يطمع في منازعتهم، وهذه المعاني لا تحصل في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم.

قوله تعالى: {فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في الآية وجهان

الأول: أن يكون الضمير في قوله: {فأتاهم} عائد إلى اليهود، أي فأتاهم عذاب اللّه وأخذهم من حيث لم يحتسبوا

والثاني: أن يكون عائدا إلى المؤمنين أي فأتاهم نصر اللّه وتقويته من حيث لم يحتسبوا، ومعنى: لم يحتسبوا، أي لم يظنوا ولم يخطر ببالهم، وذلك بسبب أمرين

أحدهما: قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة، وذلك مما أضعف قوتهم، وفتت عضدهم، وقل من شوكتهم

والثاني: بما قذف في قلوبهم من الرعب.

المسألة الثانية: قوله: {فاتاهم اللّه} لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء، فدل على أن باب التأويل مفتوح، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز.

المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: قرىء {فاتاهم اللّه} أي فآتاهم الهلاك، واعلم أن هذه القراءة لا تدفع ما بيناه من وجوه التأويل، لأن هذه القراءة لا تدفع القراءة

الأولى، فإنها ثابتة بالتواتر، ومتى كانت ثابتة بالتواتر لا يمكن دفعها، بل لا بد فيها من التأويل.

قوله تعالى: {وقذف فى قلوبهم الرعب} قال أهل اللغة: الرعب، الخوف الذي يستوعب الصدر، أي يملؤه، وقذفه إثباته فيه، وفيه قالوا في صفة الأسد: مقذف، كأنما قذف باللحم قذفا لاكتنازه وتداخل أجزائه، واعلم أن هذه الآية تدل على قولنا من أن الأمور كلها للّه، وذلك لأن الآية دلت على أن وقوع ذلك الرعب في قلوبهم كان من اللّه ودلت على أن ذلك الرعب سببا في إقدامهم على بعض الأفعال، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من اللّه، فكانت الأفعال بأسرها مسندة إلى اللّه بهذا الطريق.

قوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قال أبو علي: قرأ أبو عمرو وحده: {يخربون} مشددة، وقرأ: الباقون: {يخربون} خفيفة، وكان أبو عمرو يقول: الإخراب أن يترك الشيء خرابا والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجها، ويخربون هو الأصل خرب المنزل، فإنما هو تكثير، لأنه ذكر بيوتا تصلح للقليل والكثير، وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام، فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو فرحته وأفرحته، وحسنه اللّه وأحسنه، وقال الأعمش:

( وأخربت من أرض قوم ديارا)

وقال الفراء: {يخربون} بالتشديد يهدمون، وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها.

المسألة الثانية: ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوها

أحدها: أنهم لما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج

وثانيها: قال مقاتل: إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا، ودربوا على الأزقة وحصنوها، فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب

وثالثها: أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم، وينقبونها من أدبارها

ورابعها: أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنوا بالجلاء، وكانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها ويحملونها على الإبل،

فإن قيل: ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟

قلنا قال الزجاج: لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.

قوله تعالى: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار}.

اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب "المحصول من أصول الفقه" على أن القياس حجة فلا نذكره ههنا، إلا أنه لا بد ههنا من بيان

الوجه الذي أمر اللّه فيه بالاعتبار، وفيه احتمالات

أحدها: أنهم اعتمدوا على حصونهم، وعلى قوتهم وشوكتهم، فأباد اللّه شوكتهم وأزال قوتهم، ثم قال: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار} ولا تعتمدوا على شيء غير اللّه، فليس للزاهد أن يتعمد على زهده، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل اللّه ورحمته

وثانيها: قال القاضي: المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة، فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر، والكفر في البلاء والجلاء، والمؤمنين أيضا يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي.

فإن قيل: هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا: إنهم غدروا وكفروا فعذبوا، وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر، إلا أن هذا القول فاسد طردا وعكسا

أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر، وما عذب في الدنيا

وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن، بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه، ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم، وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار، وأيضا فالحكم

الثالث في الأصل هو أنهم: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين} وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين، ومعلوم أن هذا لا يصلح، فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح

والجواب: أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب

أولها: كونه تخريبا للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين

وثانيها: وهو أعم من الأول، كونه عذابا في الدنيا

وثالثها: وهو أعم من الثاني، كونه مطلق العذاب، والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب، فأما خصوص كونه تخريبا أو قتلا في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر، فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة، والغدر والكفر يناسبان العذاب، فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب، فأينما حصلا حصل العذاب من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة، ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح.

المسألة الثانية: الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبرا لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه،

ولهذا قال المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، وفي قوله: {لعبرة لاولى الابصار} وجهان

الأول: قال ابن عباس: يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر

والثاني: قال الفراء: {لعبرة لاولى الابصار} يا من عاين تلك الواقعة المذكورة.

﴿ ٢