٩{ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة ...}. وجه التعلق بما قبلها هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم اللّه تعالى بقوله: {فاسعوا إلى ذكر اللّه} أي إلى ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: {والاخرة خير وأبقى} (الأعلى: ١٧) ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل اللّه قول اليهود في ثلاث، افتخروا بأنهم أولياء اللّه واحباؤه، فكذبهم بقوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} (الجمعة: ٦) وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وبالسبت وليس للمسلمين مثله فشرع اللّه تعالى لهم الجمعة، وقوله تعالى: {إذا نودى} يعني النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة وهو قول مقاتل، وأنه كما قال لأنه لم يكن في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نداء سواء كان إذا جلس عليه الصلاة والسلام على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذا على عهد أبي بكر وعمر، وقوله تعالى: {للصلواة} أي لوقت الصلاة يدل عليه قوله: {من يوم الجمعة} ولا تكون الصلاة من اليوم، وإنما يكون وقتها من اليوم، قال الليث: الجمعة يوم خص به لاجتماع الناس في ذلك اليوم، ويجمع على الجمعات والجمع، وعن سلمان رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "سميت الجمعة جمعة لأن آدم جمع فيه خلقه" وقيل: لما أنه تعالى فرغ فيها من خلق الأشياء، فاجتمعت فيها المخلوقات. قال الفراء: وفيها ثلاث لغات التخفيف، وهي قراءة الأعمش والتثقيل، وهي قراءة العامة، ولغة لبني عقيل، وقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر اللّه} أي فامضوا، وقيل: فامشوا وعلى هذا معنى، السعي: المشي لا العدو، وقال الفراء: المضي والسعي والذهاب في معنى واحد، وعن عمر أنه سمع رجلا يقرأ: {فاسعوا} قال من أقرأك هذا، قال: أبي، قال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ، لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي، وقيل: المراد بالسعي القصد دون العدو، والسعي التصرف في كل عمل، ومنه قوله تعالى: {فلما بلغ معه السعى} قال الحسن: واللّه ما هو سعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب، وسعي بالنية، وسعي بالرغبة، ونحو هذا، والسعي ههنا هو العمل عند قوم، وهو مذهب مالك والشافعي، إذ السعي في كتاب اللّه العمل، قال تعالى: {وإذا تولى سعى فى الارض} (البقرة: ٢٠٥) {وأن * سعيكم لشتى} (الليل: ٤) أي العمل، وروي عنه صلى اللّه عليه وسلم : "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة" واتفق الفقهاء على: "أن النبي صلى اللّه عليه وسلم (كان) متى أتى الجمعة أتى على هينة" وقوله: {إلى ذكر اللّه} الذكر هو الخطبة عند الأكثر من أهل التفسير، وقيل: هو الصلاة، وأما الأحكام المتعلقة بهذه الآية فإنها تعرف من الكتب الفقهية، وقوله تعالى: {وذروا البيع} قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع، وقال عطاء: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقال الفراء إنما حرم البيع والشراء إذا نودي للصلاة لمكان الاجتماع ولندرك له كافة الحسنات، وقوله تعالى: {ذالكم خير لكم} أي في الآخرة {إن كنتم تعلمون} ما هو خير لكم وأصلح، ١٠وقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلواة} أي إذا صليتم الفريضة يوم الجمعة {فانتشروا فى الارض} هذا صيغة الأمر بمعنى الإباحة لما أن إباحة الانتشار زائلة بفرضية أداء الصلاة، فإذا زال ذلك عادت الإباحة فيباح لهم أن يتفرقوا في الأرض ويبتغوا من فضل اللّه، وهو الرزق، ونظيره: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} (البقرة: ١٩٨)، وقال ابن عباس: إذا فرغت من الصلاة فإن شئت فاخرج، وإن شئت فصل إلى العصر، وإن شئت فاقعد، كذلك قوله: {وابتغوا من فضل اللّه} فإنه صيغة أمر بمعنى الإباحة أيضا لجلب الرزق بالتجارة بعد المنع، بقوله تعالى: {وذروا البيع} وعن مقاتل: أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة، فمن شاء خرج. ومن شاء لم يخرج، وقال مجاهد: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وقال الضحاك، هو إذن من اللّه تعالى إذا فرغ، فإن شاء خرج، وإن شاء قعد، والأفضل في الابتغاء من فضل اللّه أن يطلب الرزق، أو الولد الصالح أو العلم النافع وغير ذلك من الأمور الحسنة، والظاهر هو الأول، وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد (و) قال: اللّهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين، وقوله تعالى: {واذكروا اللّه كثيرا} قال مقاتل: باللسان، وقال سعيد بن جبير: بالطاعة، وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا، والمعنى إذا رجعتم إلى التجارة وانصرفتم إلى البيع والشراء مرة أخرى فاذكروا اللّه كثيرا، قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه}. وعن عمر رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إذا أتيتم السوق فقولوا لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، فإن من قالها كتب اللّه له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة" وقوله تعالى: {لعلكم تفلحون} من جملة ما قد مر مرارا، وفي الآية مباحث: البحث الأول: ما الحكمة في أن شرع اللّه تعالى في يوم الجمعة هذا التكليف؟ فنقول: قال القفال: هي أن اللّه عز وجل خلق الخلق فأخرجهم من العدم إلى الوجود وجعل منهم جمادا وناميا وحيوانا، فكان ما سوى الجماد أصنافا، منها بهائم وملائكة وجن وإنس، ثم هي مختلفة المساكن من العلو والسفل فكان أشرف العالم السفلي هم الناس لعجيب تركيبهم، ولما كرمهم اللّه تعالى به من النطق، وركب فيهم من العقول والطباع التي بها غاية التعبد بالشرائع، ولم يخف موضع عظم المنة وجلالة قدر الموهبة لهم فأمروا بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة التي فيها أنشئت الخلائق وتم وجودها، ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ماأنعم اللّه تعالى به عليهم، وإذا كان شأنهم لم يخل من حين ابتدئوا من نعمة تتخللّهم، وإن منة اللّه مثبتة عليهم قبل استحقاقهم لها، ولكل أهل ملة من الملل المعروفة يوم منها معظم، فلليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد، وللمسلمين يوم الجمعة، روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "يوم الجمعة هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا اللّه له فلليهود غدا وللنصارى بعد غد" ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته فجمعت الجماعات له كالسنة في الأعياد واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة وحثا على استدامتها بإقامة ما يعود بآلاء الشكر، ولما كان مدار التعظيم، إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع واللّه أعلم. الثاني: كيف خص ذكر اللّه بالخطبة، وفيها ذكر اللّه وغير اللّه؟ نقول: المراد من ذكر اللّه الخطبة والصلاة لأن كل واحدة منهما مشتملة على ذكر اللّه، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة والثناء عليهم والدعاء لهم فذلك ذكر الشيطان. الثالث: قوله: {وذروا البيع} لم خص البيع من جميع الأفعال؟ نقول: لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش، وفيه إشارة إلى ترك التجارة، ولأن البيع والشراء في الأسواق غالبا، والغفلة على أهل السوق أغلب، فقوله: {وذروا البيع} تنبيه للغافلين، فالبيع أولى بالذكر ولم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة. الرابع: ما الفرق بين ذكر اللّه أولا وذكر اللّه ثانيا؟ فنقول: الأول من جملة مالا يجتمع مع التجارة أصلا إذ المراد منه الخطبة والصلاة كما مر، والثاني من جملة ما يجتمع كما في قوله تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه} (النور: ٣٧). |
﴿ ١٠ ﴾