٧

فالأول قوله تعالى: {يوفون بالنذر}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافيا،

أما النذر فقال أبو مسلم: النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من اللّه تعالى فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول للّه على كذا وكذا من الصدقة، أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من اللّه تعالى مثل أن يقول: إن شفى اللّه مريضي، أو رد غائبي فعلى كذا كذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر، كما إذا قال: إن دخل فلان الدار فعلى كذا، فمن الناس من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذر، إذا عرفت هذا،

فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال:

أولها: أن المراد من النذر هو النذر فقط، ثم قال الأصم: هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر عى أداء الواجبات. لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه اللّه عليه أوفى، وهذا التفسير في غاية الحسن

وثانيها: المراد بالنذر ههنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب اللّه تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات، وذلك لأن النذر معناه الإيجاب

وثالثها: قال الكلبي: المراد من النذر العهد والعقد، ونظيره قوله

تعالى: {أوفوا * بعهدى أوف بعهدكم} (البقرة: ٤٠) فسمى فرائضه عهدا، وقال: {أوفوا بالعقود} (المائدة: ١) سماها عقودا لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.

المسألة الثانية: هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر، لأنه تعالى عقبه بيخافون يوما وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفا من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجبا، وتأكد هذا بقوله تعالى: {ولا تنقضوا الايمان} (النحل: ٩١) بعد توكيدها وبقوله: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} (الحج: ٢٩) فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم.

المسألة الثالثة: قال الفراء: وجماعة من أرباب المعاني. كان في قوله: {كان مزاجها كافورا} (الإنسان: ٥) زائدة.

وأما ههنا فكان محذوفة، والتقدير كانوا يوفون بالنذر. ولقائل أن يقول: إنا بينا أن كان في قوله: {كان مزاجها} (الإنسان: ٥) ليست بزائدة،

وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها، وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ثم قال: السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن {يوفون بالنذر}.

النوع الثاني: من أعمال الأبرار التي حكاها اللّه تعالى عنهم قوله تعالى: {ويخافون يوما كان شره مستطيرا} .

واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل، فلما حكى عنهم العمل وهو قوله: {يوفون} حكى عنهم النية وهو قوله: {ويخافون يوما} وتحقيقه قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" وبمجموع هذين الأمرين سماهم اللّه تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل اللّه، وكل ما كان فعلا للّه فهو يكون حكمة وصوابا، وما كان كذلك لا يكون شرا، فكيف وصفها اللّه تعالى بأنها شر؟

الجواب: أنها إنما سميت شرا لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه، كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شرورا.

السؤال الثاني: ما معنى المستطير؟

الجواب: فيه وجهان

أحدهما: الذي يكون فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ، وهو من قولهم: استطار الحريق، واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر،

فإن قيل: كيف يمكن أن يقال: شر ذلك اليوم مستطير منتشر، مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه: {لا يحزنهم الفزع الاكبر}؟ (الأنبياء: ١٠٣)،

قلنا: الجواب من وجهين

الأول: أن هول القيامة شديد، ألا ترى أن السموات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل، وتتناثر الكواكب، وتتكور الشمس والقمر، وتفرغ الملائكة، وتبدل الأرض غير الأرض، وتنسف الجبال، وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} (الحج: ٢)

وقال: {يوما يجعل الولدان شيبا} (المزمل: ١٧) إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع

والجواب الثاني: أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيرا في العصاة والفجار.

وأما المؤمنون فهم آمنون، كما قال: {لا يحزنهم الفزع الاكبر} (الأنبياء: ١٠٣)

{لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} (الزخرف: ٦٨)

{الحمد للّه الذى أذهب عنا الحزن} (فاطر: ٤٤) إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب، فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز.

القول الثاني: في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.

السؤال الثالث: لم قال: كان شره مستطيرا، ولم يقل: وسيكون شره مستطيرا؟

الجواب: اللفظ وإن كان للماضي، إلا أنه بمعنى المستقبل، وهو كقوله: {وكان عهد اللّه} (الأحزاب: ١٥) ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيرا في علم اللّه وفي حكمته، كأنه تعالى يعتذر ويقول: إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه، وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد، وهما يوجبان الوفاء به، لاستحالة الكذب في كلامي، فكأنه تعالى يقول: كان ذلك في الحكمة لازما، فلهذا السبب فعلته.

النوع الثالث: من أعمال الأبرار قوله تعالى:

﴿ ٧