٨{ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}. اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر اللّه تعالى، وإليه الإشارة بقول: {تفجيرا يوفون بالنذر} (الإنسان: ٧) والشفقة على خلق اللّه، وإليه الإشارة بقوله: {ويطعمون الطعام} وههنا مسائل. المسألة الأولى: لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة، كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي، وأبي مسلم الأصفهاني، والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام، والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب "البسيط" أنها نزلت في حق علي عليه السلام، وصاحب "الكشاف" من المعتزلة ذكر هذه القصة، فروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: "أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن شفاهما اللّه تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين، فلما أمسوا ووضعواالطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبريل عليه السلام وقال: خذها يا محمد هناك اللّه في أهل بيتك فأقرأها السورة" والأولون يقولون: إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان، ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللّهم ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ثم ذكر وعيد الكافر ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال: {إن الابرار يشربون} (الإنسان: ٥) وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار، ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد، لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بيانا لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين، فلو جعلناه مختصا بشخص واحد لفسد نظم السورة والثاني: أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله: {إن الابرار يشربون * يوفون بالنذر ويخافون * من * ويطعمون} (الإنسان: ٥، ٧، ٨) وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر، ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه، ولكنه أيضا داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين، فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها، فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبتة، اللّهم إلا أن يقال: السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه، ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. المسألة الثانية: الذين يقولون: هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام، قالوا: المراد من قوله: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير، وأما الذين يقولون الآية عامة في حق جميع الأبرار (فإنهم) قالوا: إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان، وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه، ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام وذلك لأن قوام الأبدان بالطعام ولا حياة إلا به، وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه، فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن جميع وجوه المنافع، فيقال: أكل فلان ماله إذا أتلفه في سائر وجوه الإتلاف، وقال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا} (النساء: ١٠) وقال: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (البقرة: ١٨٨) إذا ثبت هذا فنقول: إن اللّه تعالى وصف هؤلاء الأبرار بأنهم يواسون بأموالهم أهل الضعف والحاجة، وأما قوله تعالى: {على حبه} ففيه وجهان أحدهما: أن يكون الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونظيره {ليس البر أن تولوا} (البقرة: ١٧٧) {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: ٩٢) فقد وصفهم اللّه تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: ٩) والثاني: قال الفضيل بن عياض على حب اللّه أي لحبهم للّه: واللام قد تقام مقام على، وكذلك تقام على مقام اللام، ثم إنه تعالى ذكر أصناف من تجب مواساتهم، وهم ثلاثة أحدهم: المسكين وهو العاجز عن الاكتساب بنفسه والثاني: اليتيم وهو الذي مات كاسبه فيبقى عاجزا عن الكسب لصغره مع أنه مات كسبه والثالث: الأسير وهو المأخوذ من قومه المملوكـ(ـه) رقبته الذي لا يملك لنفسه نصرا ولا حيلة، وهؤلاء الذين ذكرهم اللّه تعالى ههنا هم الذين ذكرهم في قوله: {فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة} (البلد: ١١، ١٦) وقد ذكرنا اختلاف الناس في المسكين قبل هذا، أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: قال ابن عباس والحسن وقتادة: إنه الأسير من المشركين، روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم، وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو فداء أو استرقاق، ولا يمتنع أيضا أن يكون المراد هو الأسير كافرا كان أو مسلما، لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه فمع الإسلام أولى، فإن قيل: لما وجب قتله فكيف يجب إطعامه؟ قلنا: القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى، ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر، ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ثم هذا الإطعام على من يجب؟ فنقول: الإمام يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين وثانيها: قال السدي: الأسير هو المملوك وثالثها: الأسير هو الغريم قال عليه السلام: "غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك" ورابعها: الأسير هو المسجون من أهل القبلة وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير، وروى ذلك مرفوعا من طريق الخدري أنه عليه السلام قال: {مسكينا} فقيرا {ويتيما} لا أب له {وأسيرا} قال المملوك: المسجون وخامسها: الأسير هو الزوجة لأنهن أسراء عند الأزواج، قال عليه الصلاة والسلام: "اتقوا اللّه في النساء فإنهن عندكم أعوان" قال القفال: واللفظ يحتمل كل ذلك لأن الأصل الأسر هو الشد بالقد، وكان الأسير يفعل به ذلك حبسا له، ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد فعاد المعنى إلى الحبس. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين |
﴿ ٨ ﴾