٩

{ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}.

اعلم أن قوله تعالى: {إذا السماء انشقت} إلى قوله: {القرءان خلق الإنسان} (الإنشقاق: ٦,١) شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه

أحدها: قال صاحب الكشاف: حذف جواب إذا ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل

وثانيها: قال الفراء: إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف، ونظيره قوله: {إنا أنزلناه فى ليلة القدر} (القدر: ١) ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع

وثالثها: قال بعض المحققين:

الجواب هو قوله: {فملاقيه} وقوله: { يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا} (الإنشقاق: ٦) معترض، وهو كقول القائل إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر، فكذا ههنا. والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله

ورابعها: أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل: {وحقت يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} {إذا السماء انشقت} (الإنشقاق: ١) وقامت القيامة

وخامسها: قال الكسائي: إن الجواب في قوله: {فأما من أوتى كتابه} (الإنشقاق: ٧) واعترض في الكلام قوله: {وحقت يأيها الإنسان إنك كادح} والمعنى إذا السماء انشقت، وكان كذا وكذا{فمن أوتى كتابه بيمينه} (الإسراء: ٧١) فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا، ونظيره قوله تعالى: {فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم} (البقرة: ٣٨)،

وسادسها: قال القاضي: إن الجواب ما دل عليه قوله: {إنك كادح} كأنه تعالى قال: يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم

أما قوله: {القرءان خلق الإنسان}

ففيه قولان:

الأول: أن المراد جنس الناس كما يقال: أيها الرجل،وكلكم ذلك الرجل، فكذا ههنا.

وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس، قال القفال: وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك

والثاني: أن المراد منه رجل بعينه،

وههنا فيه قولان:

الأول: أن المراد به محمد صلى اللّه عليه وسلم والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات اللّه وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى اللّه بهذا العمل وهو غير ضائع عنده الثاني: قال ابن عباس: هو أبي بن خلف، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء الرسول عليه السلام، والإصرار على الكفر، والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة، ولأن قوله: {فأما من أوتى كتابه بيمينه} (الإنشقاق: ٧)

{وأما من أوتى كتابه وراء ظهره} (الإنشقاق: ١٠) كالنوعين له، وذلك لا يتم إلا إذا كان جنسا،

أما قوله: {إنك كادح} فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه،

أما قوله: {إلى ربك} ففيه ثلاثة أوجه

أحدها: إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب، ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة، وذلك معقول، فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم، فكما صح أن يقال: يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم، فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصا عن الكدح والظلمة فنرجوا من فضل اللّه أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك

وثانيهما: قال القفال: التقدير إنك كادح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى ههنا

وثالثها: يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي، فكأنه قال: ساع بعملك {إلى ربك}

أما قوله تعالى: {فملاقيه} ففيه قولان:

الأول: قال الزجاج: فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه،

وقال آخرون: الضمير عائد إلى الكدح، إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة، فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية: {فأما من أوتى كتابه بيمينه}.

أما قوله تعالى: {فأما من أوتى كتابه بيمينه}.

فالمعنى فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} وسوف من اللّه واجب وهو كقول القائل: اتبعني فسوف نجد خيرا، فإنه لا يريد به الشك، وإنما يريد ترقيق الكلام.والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله، ويعرف أن الطاعة منها هذه، والمعصية هذه، ثم يثاب على الطاعة ويتجاوز عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة، ولا يقال له: لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه ولا بالحجة عليه.

فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذرا ولا حجة فيفتضح،

ثم إنه عند هذا الحساب اليسير يرجع إلى أهله مسرورا فائزا بالثواب آمنا من العذاب، والمراد من أهله أهل الجنة من الحور العين أو من زوجاته وذرياته إذا كانوا مؤمنين، فدلت هذه الآية على أنه سبحانه أعد له ولأهله في الجنةما يليق به من الثواب، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: اللّهم حاسبني حسابا يسيرا، قلت وما الحساب اليسير؟ قال: ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش في الحساب فقد هلك" وعن عائشة قالت: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من نوقش الحساب فقد هلك" فقلت: يا رسول اللّه إن اللّه يقول: {فأما من أوتى كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا} قال: "ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب" وفي قوله: يحاسب إشكال لأن المحاسبة تكون بين اثنين، وليس في القيامة لأحد قبل ربه مطالبة فيحاسبه

وجوابه: أن العبد يقول: إلهي فعلت المعصية الفلانية، فكأن ذلك بين الرب والعبد محاسبة والدليل على أنه تعالى خص الكفار بأنه لا يكلمهم، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين والعبد يكلمه فكانت المكالمة محاسبة.

﴿ ٩