٣

أما قوله تعالى: {الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى} فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح، فكأن سائلا قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة، فما الدليل على وجود الرب؟ فقال: {الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى} واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم * والدليل عليه ما حكى اللّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام، أنه قال: {الذى خلقنى فهو يهدين} (الشعراء: ٧٨) وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهرون عليهما السلام: {فمن ربكما ياموسى * موسى} (طه: ٤٩)؟

قال موسى عليه السلام: {ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى} (طه: ٥٠)

وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله: {اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق} (العلق: ٢,١) هذا إشارة إلى الخلق،

ثم قال: {اقرأ وربك الاكرم * الذى علمكم * بالقلم} (العلق: ٤,٣)

وهذا إشارة إلى الهداية، ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة، فقال: {الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى} وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيرا لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر، ومشاهدة الإنسان لهاواطلاعه عليها أتم، فلا جرم كانت أقوى في الدلالة،

ثم ههنا مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {خلق فسوى} يحتمل أن يريد به الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوها

أحدها: أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة، على ما قال: {لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم} (التين: ٤) وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه، فقال: {فتبارك اللّه أحسن الخالقين} ،

وثانيها: أن كل حيوان فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط، وغير مستعد لسائر الأعمال،

أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا

وثالثها: أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات،

وأما من حمله على جميع الحيوانات.

قال: المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس، وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب،

وأما من حمله على جميع المخلوقات، قال: المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات، خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفا بوصف الأحكام والإتقان، مبرأ عن الفسخ والاضطراب.

المسألة الثانية: قرأ الجمهور: {قدر} مشددة وقرأ: الكسائي على التخفيف،

أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم،

وأما التخفيف فقال القفال: معناه ملك فهدى وتأويله: أنه خلق فسوى، وملك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد، وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه، ومنهم من قال: هما لغتان بمعنى واحد، وعليه قوله تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون} بالتشديد والتخفيف.

المسألة الثالثة: أن قوله: {قدر} يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السموات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم، وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقدارا معلوما على ما قال: {وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} (الحجر: ٢١) وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات، بل العالم كله من أعلى اعليين إلى أسفل السافلين، تفسير هذه الآية.

وتفصيل هذه الجملة.

أما قوله: {فهدى} فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين، فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى، وقوله: {فهدى} عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدرا لفعل معين، ويحصل من مجموعها تمام المصلحة، وللمفسرين فيه وجوه، قال مقاتل: هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها،

وقال آخرون: هداه للمعيشة ورعاه،

وقال آخرون: هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة، وذلك لأنه جعله حساسا دراكا متمكنا من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال: {إنا هديناه السبيل أما شاكرا وأما كفورا} (الإنسان: ٣) وقال: {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها} (الشمس: ٨,٧)

وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال الفراء: قدر فهدى وأضل، فاكتفى بذكر إحداهما: كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} (النحل: ٨١)

وقال آخرون: الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله: {وإنك لتهدى} (الشورى: ٥٢) أي تدعووقد دعى الكل إلى الإيمان،

وقال آخرون: هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه، ونعوت صمديته، وفردانيته، وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعال محكمة متقنة منتسقة منتظمة، فهي لا محالة تدل على الصانع القديم، وقال قتادة في قوله: {فهدى} إن اللّه تعالى ما أكره عبدا على معصية، ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره بها، ولكن رضي لكم الطاعة، وأمركم بها، ونهاكم عن المعصية، واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين، فمنهم من حمل قوله: {فهدى} على ما يتعلق بالدين كقوله: {وهديناه النجدين} ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا، والأول أقوى، لأن قوله: {خلق فسوى * وقدر} يرجع إلى أحوال الدنيا، ويدخل فيه إكمال العقل والقوى، ثم أتبعه بقوله: {فهدى} أي كلفه ودله على الدين،

﴿ ٣