٢

فأما قوله: {وأنت حل} فالمراد منه أمور

أحدها: وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به، كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها

وثانيها: الحل بمعنى الحلال، أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام اللّه تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك، عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيدا أو يعضوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له

وثالثها: قال قتادة: {البلد وأنت حل} أي لست بآثم، وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت، وذلك أن اللّه تعالى فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء، فقتل عبد اللّه بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابةوغيرهما، وحرم دار أبي سفيان، ثم قال: "إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها، ولا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد.

فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول اللّه فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال إلا الإذخر".

فإن قيل: هذه السورة مكية، وقوله: {وأنت حل} إخبار عن الحال، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟

قلنا: قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلا، كقوله تعالى: {إنك ميت} (الزمر: ٣٠) وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهذا من اللّه أحسن، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع

ورابعها: {وأنت حل بهاذا البلد} أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيما منك لهذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر باللّه، وتكذيب الرسل

وخامسها: أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد، ثم قال: {وأنت حل بهاذا البلد} أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحةوهذا هو المراد بقوله تعالى: {هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم} (الجمعة: ٢)

وقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: ١٢٨)

وقوله: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} (يونس: ١٦)

فيكون الغرض شرح منصب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكونه من هذا البلد.

﴿ ٢