١٨{كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية}. ثم قال تعالى: {كلا} وفيه وجوه أحدها: أنه ردع لأبي جهل ومنه له عن نهيه عن عبادة اللّه تعالى وأمره بعبادة اللات وثانيها: كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره وثالثها: قال مقاتل: كلا لا يعلم أن اللّه يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم. ثم قال تعالى: {لئن لم ينته} أو عما هو فيه: {لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في قوله: {لنسفعا} وجوه أحدها: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء، وجذبه بشدة، وهو كقوله: {فيؤخذ بالنواصى والاقدام} وثانيها: السفع الضرب، أي لنلطمن وجهه وثالثها: لنسودن وجهه، قال الخليل: تقول للشيء إذا لفحته النار لفحا يسيرا يغير لون البشرة قد سفعته النار، قال: والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها، قال: والسفعة سواد في الخدين. وبالجملة فتسويد الوجه علامة الإذلال وإلهانة ورابعها: لنسمنه قال ابن عباس في قوله: {سنسمه على الخرطوم} إنه أبو جهل خامسها: لنذلنه. المسألة الثانية: قرىء لنسفعن بالنون المشددة، أي الفاعل لهذا الفعل هو اللّه والملائكة، كما قال: {فإن اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} وقرأ: ابن مسعود لأسعفن، أي يقول اللّه تعالى يا محمد. أنا الذي أتولى إهانته، نظيره: {هو الذى أيدك}، {هو الذى أنزل السكينة}. المسألة الثالثة: هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا، وهذا أيضا على وجوه أحدها: ما روى أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل اللّه هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر للّه ساجدا في آخرها ففعل، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا، فقيل له مالك؟ قال: إن بيني وبينه فخلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لالتقمني، وقيل: كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد والثاني: أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي، فلما عاد لا جرم مكنهم اللّه تعالى من ناصيته يوم بدر، روى أنه لما نزلت سورة الرحمن{علم القرءان} قال عليه السلام: لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش، فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول اللّه، فأجلسه عليه السلام، ثم قال: من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود، ثم ثالثا كذلك إلى أن أذن له، وكان عليه السلام يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغرجثته، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا، فقال: يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكيا فقال: ستعلم، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى. فإذا أبو جهل، مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه، ولعل هذا معنى قوله: {سنسمه على الخرطوم} ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي، فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال: "فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال {ءامنت} وهو قد زاد عتوا" ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفا لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه: أحدها: أنه كلب والكلب يجر والثاني: لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث: لتحقيق الوعيد المذكور بقوله: {لنسفعا بالناصية} فتجر تلك الرأس على مقدمها، ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجبريل بين يديه يضحك، ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن، فهذا ما روى في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظا، الخاطىء معنى قوله: {لنسفعا بالناصية}. المسألة الرابعة: الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية، ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد إلهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها، وربما كان يهتم أيضا بتسويدها فأخبره اللّه تعالى أنه يسودها مع الوجه. المسألة الخامسة: أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول: الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولا خاطئة فعلا، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذبا على اللّه تعالى في أنه لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي، وقيل: كذبه أنه قال: أنا أكثر أهل هذا الوادي ناديا، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على اللّه تعال قال اللّه تعالى: {لا يأكله إلا * المؤمنون} والفرق بين الخاطىء والمخطىء أن الخاطىء معاقب مؤاخذ والمخطىء غير مؤاخذ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة}. المسألة السادسة: {ناصية} بدل من الناصية، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة. المسألة السابعة: قرىء ناصية بالرفع والتقدير هي ناصية، وناصية بالنصب وكلاهما على الشتم، واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات، قال: يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي ناديا، فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه، فنزل قوله تعالى: {فليدع ناديه * سندع الزبانية} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قد مر تفسير النادي عند قوله: {وتأتون فى ناديكم المنكر} قال أبو عبيدة: ناديه أي أهل مجلسه، وبالجملة فالمراد من النادي أهل النادي، ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله، وسمى ناديا لأن القوم يندون إليه ندا وندوة، ومنه دار الندوة بمكة، وكانوا يجتمعون فيها للتشاور، وقيل: سمي ناديا لأنه مجلس الندى والجود، ذكر ذلك على سبيل النهكم أي: أجمع أهل الكرم والدفاع في زعمك لينصروك. المسألة الثانية: قال أبو عبيدة والمبرد: واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إذا دفعته وهو متمرد من إنس أو جن، ومثله في المعنى والتقدير عفرية يقال: فلان زبنية عفرية، وقال الأخفش: قال بعضهم واحده الزباني، وقال آخرون: الزابن، وقال آخرون: هذا من الجمع الذي لا واحد له من لفظه في لغة الغرب مثل أبابيل وعباديد وبالجملة فالمراد ملائكة العذابولا شك أنهم مخصوصون بقوة شديدة. وقال مقاتل: هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤسهم في السماء، وقال قتادة: الزبانية هم الشرط في كلام العرب وهم الملائكة الغلاظ الشداد، وملائكة النار سموا الزبانية لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهنم. المسألة الثالثة: في الآية قولان: الأول: أي فليفعل ما ذكره من أنه يدعو أنصاره ويستعين بهم في مباطلة محمد، فإنه لو فعل ذلك فنحن ندعو الزبانية الذين لا طاقة لناديه وقومه بهم، قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة، وقيل: هذا إخبار من اللّه تعالى بأنه يجر في الدنيا كالكلب وقد فعل به ذلك يوم بدر، وقيل: بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه في الآخرة إلى النار القول الثاني: أن في الآية تقديما وتأخيرا أي لنسفعا بالناصية وسندع الزبانية في الآخرة، فليدع هو ناديه حينئذ فليمنعوه. المسألة الرابعة: الفاء في قوله: {فليدع ناديه} تدل على المعجز، لأن هذا يكون تحريضا للكافر على دعوة ناديه وقومه، ومتى فعل الكافر ذلك ترتب عليه دعوة الزبانية، فلما لم يجترىء الكافر على ذلك دل على ظهور معجزة الرسول صلى اللّه عليه وسلم . المسألة الخامسة: قرىء: {*ستدعى} على المجهول، وهذه السير ليست للشك عسى من اللّه واجب الوقوع، وخصوصا عند بشارة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن ينتقم له من عدوه، ولعل فائدة السين هو المراد من قوله عليه السلام: "لأنصرنك ولو بعد حين". |
﴿ ١٨ ﴾