٨ثم قال تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اتفقوا على أن جواب لو محذوف، وأنه ليس قوله: {لترون الجحيم} جواب لو ويدل عليه وجهان أحدهما: أن ما كان جواب لو فنفيه إثبات، وإثباته نفي، فلو كان قوله: {لترون الجحيم} جوابا للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية، وذلك باطل، فإن هذه الرؤية واقعة قطعا، فإن قيل: المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا، ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا: ترك الظاهر خلاف الأصل والثاني: أن قوله: {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} إخبار عن أمر سيقع قطعا، فعطفه على مالا يوجد ولا يقع قبيح في النظم، واعلم أن ترك الجواب في مثل هذا المكان أحسن، يقول الرجل للرجل: لو فعلت هذا أي لكان كذا، قال اللّه تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} ولم يجيء له جواب وقال: {ولو ترى * إذا * وقفوا على ربهم} إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في جواب لو وجوها أحدها: قال الأخفش: {لو تعلمون علم اليقين} ما ألهاكم التكاثر وثانيها: قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وثالثها: أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم، وكأنه قال: {لو * علمتم * علم اليقين} لفعلتم مالا يوصف ولا يكتنه، ولكنكم ضلال وجهلة، وأما قوله: {لترون الجحيم} فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفا بثم تغليظا للتهديد وزيادة في التهويل. المسألة الثانية: أنه تعالى أعاد لفظ كلا وهو للزجر، وإنما حسنت الإعادة لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر، كأنه تعالى قال: لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضررا آخر، وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم، وكان الحسن رحمه اللّه يجعل معنى {كلا} في هذا الموضع بمعنى حقا كأنه قيل حقا: {لو تعلمون علم اليقين}. المسألة الثالثة: في قوله: {علم اليقين} وجهان أحدهما: أن معناه علما يقينا فأضيف الموصوف إلى الصفة، كقوله تعالى: {ولدار الاخرة} وكما يقال: مسجد الجامع وعام الأول والثاني: أن اليقين ههنا هو الموت والبعث والقيامة، وقد سمي الموت يقينا في قوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين، وزال الشك فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر اللّه، وقد يقول الإنسان: أنا أعلم علم كذا أي أتحققه، وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب، لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال: علمت علم كذا. المسألة الرابعة: العلم من أشد البواعث على العمل، فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعدا وعظة، وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة، كما ذكر أن ذا القرنين لما دخل الظلمات (وجد خرزا)، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر، ثم الأخذون كانوا في الغم أي لما لم يأخذوا أكثر مما أخذواوالذين لم يأخذوا كانوا أيضا في الغم، فهكذا يكون أحوال أهل القيامة. المسألة الخامسة: في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر، وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلا له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملا ثم الويل له. المسألة السادسة: في تكرار الرؤية وجوه أحدها: أنه لتأكيد الوعيد أيضا لعل القوم كانوا يكرهون سماع الوعيد فكرر لذلك ونون للتأكيد تقتضي كون تلك الرؤية اضطرارية، يعني لو خليتم ورأيكم ما رأيتموها لكنكم تحملون على رؤيتها شئتم أم أبيتم وثانيها: أن أولهما الرؤية من البعيد: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا} وقوله: {وبرزت الجحيم لمن يرى} والرؤية الثانية إذا صاروا إلى شفير النار وثالثها: أن الرؤية الأولى عند الورود والثانية عند الدخول فيها، قيل: هذا التفسير ليس بحسن لأنه قال: {ثم لتسئلن} والسؤال يكون قبل الدخول ورابعها: الرؤية الأولى للوعد والثانية المشاهدة وخامسها: أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة فيكون ذكر الرؤية مرتين عبارة عن تتابع الرؤية واتصالها لأنهم مخلدون في الجحيم فكأنه قيل لهم: على جهة الوعيد، لئن كنتم اليوم شاكين فيها غير مصدقين بها فسترونها رؤية دائمة متصلة فتزول عنكم الشكوك وهو كقوله: {ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت * إلى * قوله *فارجع البصر * كرتين} بمعنى لو أعدت النظر فيها ما شئت لم تجد فطورا ولم يرد مرتين فقط، فكذا ههنا، إن قيل: ما فائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين؟ قلنا: لأنهم في المرة الأولى رأوا لهبا لا غير، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التفريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة. المسألة السابعة: قراءة العامة لترون بفتح التاء، وقرىء بضمها من رأيته الشيء، والمعنى أنهم يحشرون إليها فيرونها، وهذه القراءة تروي عن ابن عامر والكسائي كأنهما أرادا لترونها فترونها، ولذلك قرأ الثانية: {ثم لترونها} بالفتح، وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها رأوها وفي قراءة العامة الثانية تكرير للتأكيد ولسائر الفوائد التي عددناها، واعلم أن قراءة العامة أولى لوجهين الأول: قال الفراء: قراءة العامة أشبه بكلام العرب لأنه تغليظ، فلا ينبغي أن الجحيم لفظه الثاني: قال أبو علي المعنى في: {لترون الجحيم} لترون عذاب الجحيم، ألا ترى أن الجحيم يراها المؤمنون أيضا بدلالة قوله: {وإن منكم إلا واردها} وإذا كان كذلك كان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها يدل على هذا قوله: {إذ يرون العذاب} وقوله: {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} وهذا يدل على أن لترون أرجح من لترون. قوله تعالى: {ثم لتسئلن يومئذ عن} فيه قولان: المسألة الأولى: في أن الذي يسأل عن النعيم من هو؟ فيه قولان: أحدهما: وهو الأظهر أنهم الكفار، قال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ويدل عليه وجهان الأول: ما روى أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية، قال يا رسول اللّه: أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب أن تكون من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما ذلك للكفار، ثم قرأ: {وهل * نجزى إلا الكفور} والثاني: وهو أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه، وذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة اللّه تعالى والاشتغال بشكره، فاللّه تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سببا لسعادتهم هو كان من أعظم أسباب الشقاء لهم في الآخرة. والقول الثاني: أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث، روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له: ألم نصحح لك جسمك ونروك من المار البارد" وقال محمود بن لبيد: لما نزلت هذه السورة قالوا: يا رسول اللّه عن أبي نعيم: نسأل؟ إنما هما الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: "إن ذلك سيكون" وروى عن عمر أنه قال: أي نعيم نسأل عنه يا رسول اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : "ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار" وقريب منه: "من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" وروى أن شابا أسلم في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعلمه رسول اللّه سورة ألهاكم ثم زوجه رسول اللّه امرأة فلما دخل عليها ورآى الجهاز العظيم والنعيم الكثير خرج وقال: لا أريد ذلك فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عنه فقال: ألست علمتني: {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم}وأنا لا أطيق الجواب عن ذلك. وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال: هل علي من النعمة شيء؟ قال: الظل والنعلان والماء البارد. وأشهر الأخبار في هذا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة إلى المسجد، فلم يلبث أن جاء أبو بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع، قال: واللّه ما أخرجني إلا الذي أخرجك، ثم دخل عمر فقال: مثل ذلك، فقال: قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم، فدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الباب وسلم ثلاث مرات فلم يجب أحد فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرجت امرأته تصيح كنا نسمع صوتك لكن أردنا أن تزيد من سلامك فقال لها: خيرا، ثم قالت: بأبي أنت وأمي إن أبا الهيثم خرج يستعذب لنا الماء، ثم عمدت إلى صاع من شعير فطحنته وخبزته ورجع أبو الهيثم فذبح عناقا وأتاهم بالرطب فأكلوا وشربوا فقال عليه الصلاة والسلام: "هذا من النعيم الذي تسألون عنه" وروى أيضا: "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره وماله وشبابه وعمله" وعن معاذ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "أن العبد ليسأل يوم القيامة حتى عن كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، عن لمس ثوب أخيه" واعلم أن الأولى أن يقال: السؤال يعم المؤمن والكافر، لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع. المسألة الثانية: ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوها أحدها: ما روى أنه خمس: شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق وثانيها: قال ابن مسعود: إنه الأمن والصحة والفراغ وثالثها: قال ابن عباس: إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب ورابعها: قال بعضهم: الانتفاع بإدراك السمع والبصر وخامسها: قال الحسن بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن وسادسها: قال ابن عمر: إنه الماء البارد وسابعها: قال الباقر: إنه العافية، ويروى أيضا عن جابر الجعفي قال: دخلت على الباقر فقال: ما تقول أرباب التأويل في قوله: {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم}؟ فقلت: يقولون الظل والماء البارد فقال: لو أنك أدخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وأسقيته ماء باردا أتمن عليه؟ فقلت: لا، قال: فاللّه أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه، فقلت: ما تأويله؟ قال: النعيم هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنعم اللّه به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة، أما سمعت قوله تعالى: {لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا} الآية القول الثامن: إنما يسألون عن الزائد مما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن. والتاسع: وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الألف واللام يفيدان الاستغراق وثانيها: أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية اللّه تعالى وثالثها: أنه تعالى قال: {خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم} والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا ههنا ورابعها: أن النعيم التام كالشيء الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل، كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه. واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة، ومنها متصلة ومنفصلة، ومنها دينية ودنيوية، وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة، وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى: {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} واستعن في معرفة نعم اللّهعليك في صحة بدنك بالأطباء، ثم هم أشد الخلق غفلة، وفي معرفة نعم اللّه عليك بخلق السموات والكواكب بالمنجمين، وهم أشد الناس جهلا بالصانع، وفي معرفة سلطان اللّه بالملوك، ثم هم أجهل الخلق، وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته، ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود، ومنه قول ابن السماك للرشيد: أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك؟ فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين؛ أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره، قال تعالى: {أن أفيضوا علينا من الماء} أو لأن السورة نزلت في المترفين، وهم المختصون بالماء البارد والظل، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لا بد منه (أولا)، وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون مصروفا إلى طاعة اللّه لا إلى معصيته، فيكون السؤال واقعا عن الكل، ويؤكده ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به" فكل النعيم من اللّه تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام. المسألة الثالثة: اختلفوا في أن هذا السؤال أين يكون؟. فالقول الأول: أن هذا السؤال إنما يكون في موقف الحساب، فإن قيل: هذا لا يستقيم، لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن مشاهدة جهنم بقوله: {ثم لتسئلن} وموقف السؤال متقدم على مشاهدة جهنم؟ قلنا: المراد من قوله: {ثم} أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة، وهو كقوله: {فك رقبة * أو إطعام فى يوم ذى مسغبة} إلى قوله: {ثم كان من الذين ءامنوا}. القول الثاني: أنهم إذا دخلوا النار سئلوا عن النعيم توبيخا لهم، كما قال: {كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها} وقال: {ما سلككم فى سقر} ولا شك أن مجيء الرسول نعمة من اللّه، فقد سئلوا عنه بعد دخولهم النار، أو يقال: إنهم إذا صاروا في الجحيم وشاهدوها، يقال لهم: إنما حل بكم هذا العذاب لأنكم في دار الدنيا اشتغلتم بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة الفائزين بالدرجات، فيكون ذلك من الملائكة سؤالا عن نعيمهم في الدنيا، واللّه سبحانه وتعالى أعلم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
﴿ ٨ ﴾