سُورَةُ الْهُمَزَةِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ تِسْعُ آياَتٍ تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة الهمزةتسع آيات مكية _________________________________ ١{ويل لكل همزة لمزة}. فيه مسائل: المسألة الأولى: الويل لفظة الذم والسخط، وهي كلمة كل مكروب يتولون فيدعو بالويل وأصله وي لفلان ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام، وروى أنه جبل في جهنم إن قيل: لم قال: ههنا: {ويل} وفي موضع آخر: {ولكم الويل}؟ قلنان: لأن ثمة قالوا: {أن قالوا إنا كنا ظالمين} فقال: {ولكم الويل} وههنا نكر لأنه لا يعلم كنهه إلا اللّه، وقيل: في ويل إنها كلمة تقبيح، وويس استصغار وويح ترحم، فنبه بهذا على قبح هذا الفعل، واختلفوا في الوعيد الذي في هذه السورة هل يتناول كل من يتمسك بهذه الطريقة في الأفعال الرديئة أو هو مخصوص بأقوام معينين، أما المحققون فقالوا: إنه عام لكل من يفعل هذا الفعل كائنا من كان وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وقال آخرون: إنه مختص بأناس معينين، ثم قال عطاى والكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من ورائه ويطعن عليه في وجهه، وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف، قال الفراء: وكون اللفظ عاما لا ينافي أن يكون المراد منه شخصا معينا، كما أن إنسانا لو قال: لك لا أزورك أبدا فتقول: أنت كل من لم يزرني لا أزوره وأنت إنما تريده بهذه الجملة العامة وهذا هو المسمى في أصول الفقه بتخصيص العام بقرينة العرف. المسألة الثانية: الهمز الكسر قال تعالى: {هماز مشاء} واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم، قال تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة، وقرىء: {ويل لكل همزة لمزة} بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظا أحدها: قال ابن عباس: الهمزة المغتاب، واللمزة العياب وثانيها: قال أبو زيد: الهمزة باليد واللمزة باللسان وثالثها: قال أبو العالية: الهمزة بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب ورابعها: الهمزة جهرا واللمزة سرا بالحاجب والعين وخامسها: الهمزة واللمزة الذي يلقب الناس بما يكرهون وكان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك، لكنه لا يليق بمنصب الرياسة إنما ذلك من عادة السقاط ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا. وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبي صلى اللّه عليه وسلم فنفاه عن المدينة ولعنه وسادسها: قال الحسن: الهمزة الذي يهمز جليسه يكسر عليه عينه واللمزة الذي يذكر أخاه بالسوء ويعيبه وسابعها: عن أبي الجوزاء قال: قلت لابن عباس: {ويل لكل همزة لمزة} من هؤلاء الذين يذمهم اللّه بالويل فقال: هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الناعتون للناس بالعيب. واعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ثم هذا على قسمين فإنه أما أن يكون بالجد كما يكون عند الحسد والحقد، وأما أن يكون بالهزل كما يكون عند السخرية والإضحاك، وكل واحد من القسمين، أما أن يكون في أمر يتعلق بالدين، وهو ما يتعلق بالصورة أو المشي، أو الجلوس وأنواعه كثيرة وهي غير مضبوطة، ثم إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة قد يكون لحاضر، وقد يكون لغائب، وعلى التقديرين فقد يكون باللفظ، وقد يكون بإشارة الرأس والعين وغيرهما وكل ذلك داخل تحت النهي والزجر، إنما البحث في أن اللفظ بحسب اللغة موضوع لماذا، فما كان اللفظ موضوعا له كان منهيا بحسب اللفظ، ومالم يكن اللفظ موضوعا له كان داخلا تحت النهي بحسب القياس الجلي، ولما كان الرسول أعظم الناس منصبا في الدين كان الطعن فيه عظيما عند اللّه، فلا جرم قال: {ويل لكل همزة لمزة}. ٢ثم قال تعالى: {الذى جمع مالا وعدده} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: {الذى} بدل من كل أو نصب على ذم، وإنما وصفه اللّه تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره. المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي وابن عامر جمع بالتشديد والباقون بالتخفيف والمعنى في جمع وجمع واحد متقارب، والفرق أن {جمع} بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا، وأنه لم يجمعه في يوم واحد، ولا في يومين، ولا في شهر ولا في شهرين، يقال: فلان يجمع الأموال أي يجمعها من ههنا وههنا، وأما جمع بالتخفيف، فلا يفيد ذلك، وأما قوله: {مالا} فالتنكير فيه يحتمل وجهين أحدهما: أن يقال:المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال: {المال والبنون زينة الحيواة الدنيا} فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير، فكيف يليق به أن يفتخر بذلك القليل والثاني: أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات. فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به؟ أما قوله: {وعدده} ففيه وجوه أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال: أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر وثانيها: عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال: فلان يعدد فضائل فلان، ولهذا قال السدي: وعدده أي أحصاه يقول: هذا لي وهذا لي يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه وثالثها: عدده أي كثره يقال: في بني فلان عدد أي كثرة، وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معي العدد، والقول الثالث إلى معنى العدة، وقرأ: بعضهم وعدده بالتخفيف وفيه وجهان أحدهما: أن يكون المعنى جمع المال وضبط عدده وأحصاه وثانيهما: جمع ماله وعدد قومه الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والرجل متى كان كذلك كان أدخل في التفاخر. ٣ثم وصفه تعالى بضرب آخر من الجهل فقال: {يحسب أن ماله أخلده}. واعلم أن أخلده وخلده بمعنى واحد ثم في التفسير وجوه أحدها: يحتمل أن يكون المعنى طول المال أمله، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله، يحسب أن ماله تركه خالدا في الدنيا لا يموت وإنما قال: {أخلده} ولم يقل: يخلده لأن المراد يحسب هذا الإنسان أن المال ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ منه، ولذلك ذكره على الماضي. قال الحسن: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت وثانيها: يعمل الأعمال المحكمة كتشييد البنيان بالآجر والجص، عمل من يظن أنه يبقى حيا أو لأجل أن يذكر بسببه بعد الموت وثالثها: أحب المال حبا شديدا حتى اعتقد أنه: إن انتقص مالي أموت، فلذلك يحفظه من النقصان ليبثى حيا، وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل ورابعها: أن هذا تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخر في النعيم المقيم. أما قوله تعالى: {كلا} ففيه وجهان أحدهما: أنه ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده بل العلم والصلاح، ومنه قول علي عليه السلام: مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، والقول الثاني معناه حقا: {لينبذن} واللام في: {لينبذن} جواب القسم المقدر فدل ذلك على حصول معنى القسم في كلا. ٤انظر تفسير الآية:٥ ٥أما قوله تعالى: {لينبذن فى الحطمة * وما أدراك ما الحطمة} فإنما ذكره بلفظ النبذ الدال على إلهانة، لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة، وقرىء لنبذان أي هو وماله ولينبذن بضم الذال أي هو وأنصاره، وأما: {الحطمة} فقال المبرد: إنها النار التي تحطم كل من وقع فيها ورجل حطمة أي شديد الأكل يأتي على زاد القوم، وأصل الحطم في اللغة الكسر، ويقال: شر الرعاء الحطمة، يقال: راع حطمة وحطم بغير هاء كأنه يحطم الماشية أي يكسرها عند سوقها لعنفه، قال المفسرون: الحطمة اسم من أسماء النار وهي الدركة الثانية من دركات النار، وقال مقاتل: هي تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب،وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه كما توضع الخشبة على الركبة فتكسر ثم يرمى به في النار". واعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم ههنا وجوه: أحدها: الاتحاد في الصورة كأنه تعالى يقول: إن كنت همزة لمزة فوراءك الحطمة والثاني: أن الهامز بكسر عين ليضع قدره فيلقيه في الحضيض فيقول تعالى: وراءك الحطمة، وفي الحطم كسر فالحطمة تكسرك وتلقيك في حضيض جهنم لكن الهمزة ليس إلا الكسر بالحاجب، أما الحطمة فإنها تكسر كسرا لا تبقي ولا تذر الثالث: أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس والحطمة أيضا اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم، ويمكن أن يقال: ذكر وصفين الهمز واللمز، ثم قابلهما باسم واحد وقال: خذ واحدا مني بالإثنين منك فإنه يفي ويكفي، فكأن السائل يقول: كيف يفي الواحد بالإثنين؟ فقال: إنما تقول: هذا لأنك لا تعرف هذا الواحد فلذلك قال: {وما أدراك ما الحطمة}. ٦أما قوله تعالى: {نار اللّه} فالإضافة للتفخيم أي هي نار لا كسائر النيران: {الموقدة} التي لا تخمد أبدا أو: {الموقدة} بأمره أو بقدرته ومنه قول علي عليه السلام: عجبا ممن يعصى اللّه على وجه الأرض والنار تسعر من تحته، وفي الحديث: "أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى ابيضت، ثم ألف سنة حتى اسودت فهي الآن سوداء مظلمة". ٧أما قوله تعالى: {التى تطلع على الافئدة}. فاعلم أنه يقال: طلع الجبل واطلع عليه إذا علاه، ثم في تفسير الآية وجهان: الأول: أن النار تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى مماسه، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه. ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق إذ لو احترق لمات، وهذا هو المراد من قوله: {لا يموت فيها ولا يحيى} ومعنى الاطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد والثاني: أن سبب تخصيص الأفئدة بذلك هو أنها مواطن الكفر والعقائد الخبيثة والنيات الفاسدة، واعلم أنه روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إن اللّه تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى. ٨أما قوله تعالى: {إنها عليهم مؤصدة} فقال الحسن: {مؤصدة} أي مطبقة من أصدت الباب وأوصدته لغتان، ولم يقل: مطبقة لأن المؤصدة هي الأبواب المغلقة، والإطباق لا يفيد معنى الباب. واعلم أن الآية تفيد المبالغة في العذاب من وجوه أحدها: أن قوله: {لينبذن} يقتضي أنه موضع له قعر عميق جدا كالبئر وثانيها: أنه لو شاء يجعل ذلك الموضع بحيث لا يكون له باب لكنه بالباب يذكرهم الخروج، فيزيد في حسرتهم وثالثها: أنه قال: {عليهم مؤصدة} ولم يقل: مؤصدة عليهم لأن قوله: {عليهم مؤصدة} يفيد أن المقصود أولا كونهم بهذه الحالة، وقوله مؤصدة عليهم لا يفيد هذا المعنى بالقصد الأول. ٩أما قوله تعالى: {فى عمد ممددة} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قرىء في عمد بضمتين وعمد بسكون الميم وعمد بفتحتين، قال الفراء: عمد وعمد وعمد مثل الأديم والإدم والأدم وإلهاب وإلهب وإلهب، والعقيم والعقم والعقم وقال المبرد وأبو علي: العمد جمع عمود على غير واحد؛ أما الجمع على واحد فهو العمد مثل زبور وزبر ورسول ورسل. المسألة الثانية: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء، يقال: عمود البيت للذي يقوم به البيت. المسألة الثالثة: في تفسير الآية وجهان الأول: أنها عمد أغلقت بها تلك الأبواب كنحو ما تغلق به الدروب، وفي بمعنى الباء أي أنها عليهم مؤصدة بعمد مدت عليها، ولم يقل: بعمد لأنها لكثرتها صارت كأن الباب فيها والقول الثاني: أن يكون المعنى: {إنها عليهم مؤصدة} حال كونهم موثقين: {فى عمد} مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص، اللّهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين. |
﴿ ٠ ﴾