٣قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توبا} فيه مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار، ولهذا الترتيب فوائد: الفائدة الأولى: اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمدا كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ولم سلطت هؤلاء الكفرة علي فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح، أما على قولنا: فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئا بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه اللّه عن أن يستحق عليه أحد شيئا، وأما على قول المعتزلة: ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق، ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه اللّه عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر، ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه الوجه الثاني: أن للسائرين طريقين فمنهم من قال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه بعده، ومنهم من قال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه قبله، ولا شك أن هذا الطريق أكمل، أما بحسب المعالم الحكمية، فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر، و أما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود، فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة، ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل، وإذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولا من الخالق أمرين أحدهما: التسبيح والثاني: التحميد، ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق. واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له، وهي صفات الإكرام، ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام، ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس، وفيه رؤية جود الحق، وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس، ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير اللّه يبقى محروما عن مطالعة حضرة جلال اللّه، فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد الوجه الثالث: أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية، وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل: آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} فقوله ههنا: {فسبح بحمد ربك} إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم: {ونحن نسبح بحمدك} وقوله ههنا: {واستغفره} إشارة إلى قوله تعالى: {ونقدس لك} لأنهم فسروا قوله: {ونقدس لك} أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك والاستغفار يرجع معناه أيضا إلى تقديس النفس، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم، وأما أنت فسبح بحمدي واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني ويحتمل أن يقال: الملائكة كما قالوا: في حق أنفسهم: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال اللّه في حقهم: {ويستغفروا * للذين ءامنوا} فأنت يا محمد استغفر للذين جاؤوا أفواجا كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون: {ربنا فاغفر * للذين * تابوا واتبعوا سبيلك} الوجه الرابع: التسبيح هو التطهير، فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة من الأصنام وكسرها ثم قال: {بحمد ربك} أن ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك، وإعانته وتقويته، ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتيا بالطاعة اللائقة به، بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة، فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته والوجه الخامس: كأنه تعالى يقول يا محمد أما أن تكون معصوما أو لم تكن معصوما فإن كنت معصوما فاشتغل بالتسبيح والتحميد، وإن لم تكن معصوما فاشتغل بالاستغفار فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. المسألة الثانية: في المراد من التسبيح وجهان الأول: أنه ذكر اللّه بالتنزه سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن فقال تنزيه اللّه عن كل سوء وأصله من سبح فإن السابح يسبح في الماء كالطير في الهواء ويضبط نفسه من أن يرسب فيه فيهلك أو يتلوث من مقر الماء ومجراه والتشديد للتبعيد لأنك تسبحه أي تبعده عما لا يجوز عليه، وإنما حسن استعماله في تنزيه اللّه عما لا يجوز عليه من صفات الذات والفعل نفيا وإثباتا لأن السمكة كما أنها لا تقبل النجاسة فكذا الحق سبحانه لا يقبل مالا ينبغي البتة فاللفظ يفيد التنزيه في الذات والصفات والأفعال والقول الثاني: أن المراد بالتسبيح الصلاة لأن هذا اللفظ وارد في القرآن بمعنى الصلاة قال تعالى: {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون} وقال: {فسبح بحمد ربك * قبل طلوع الشمس} والذي يؤكده أن هذه السورة من آخر ما نزل، وكان عليه السلام في آخر مرضه يقول: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" جعل يلجلجها في صدره وما يقبض بها لسانه، ثم قال بعضهم: عني به صلاة الشكر صلاها يوم الفتح ثمان ركعات" وقال آخرون: هي صلاة الضحى، وقال آخرون: صلي ثمان ركعات أربعة للشكر وأربعة الضحى وتسمية الصلاة بالتسبيح لما أنها لا تنفك عنه وفيه تنبيه: على أنه يجب تنزيه صلاتك عن أنواع النقائص في الأقوال والأفعال، واحتج أصحاب القول الأول بالأخبار الكثيرة الواردة في ذلك، روت عائشة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول: سبحانك اللّهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك، وقالت أيضا: كان الرسول يقول كثيرا في ركوعه سبحانك اللّهم وبحمدك اللّهم اغفر لي وعنها أيضا كان نبي اللّه في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلى قال سبحان اللّه وبحمده فقلت يا رسول اللّه إنك تكثر من قولة سبحان اللّه وبحمده قال: إني أمرت بها، وقرأ:: {إذا جاء نصر اللّه} وعن ابن مسعود: "لما نزلت هذه السورة كان عليه السلام يكثر أن يقول: سبحانك اللّهم وبحمدك اللّهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور" وروى أنه قال: "إني لأستغفر اللّه كل يوم مائة مرة". المسألة الثانية: الآية تدلى على فضل التسبيح والتحميد حيث جعل كافيا في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح، ولم لا يكون كذلك وقوله: "الصوم لي" من أعظم الفضائل للصوم فإنه أضافه إلى ذاته، ثم إنه جعل صدف الصلاة مساويا للصوم في هذا التشريف: {وأن المساجد للّه} فهذا يدل على أن الصلاة أفضل من الصوم بكثيرثم إن الصلاة صدف للأذكار ولذلك قال: {ولذكر اللّه أكبر} وكيف لا يكون كذلك، والثناء عليه مما مدحه معلوم عقلا وشرعا أما كيفية الصلاة فلاسبيل إليها إلا بالشرع ولذلك جعلت الصلاة كالمرصعة من التسبح والتكبير. فإن قيل: عدم وجوب التسبيحات يقتضي أنها أقل درجة من سائر أعمال الصلاة. قلنا الجواب عنه من وجوه: أحدها: أن سائر أفعال الصلاة مما لا يميل القلب إليه فاحتيج فيها إلى الإيجاب أما التسبيح والتهليل فالعقل داع إليه والروح عاشق عليه فاكتفى بالحب الطبيعي ولذلك قال: {والذين ءامنوا أشد حبا}، وثانيها: أن قوله: {فسبح} أمر والأمر المطلق للوجوب عند الفقهاء، ومن قال: الأمر المطلق للندب قال: إنه ههنا للوجوب بقرينة أنه عطف عليه الاستغفار والاستغفار واجب ومن حق العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه وثالثها: أنها لو وجبت لكان العقاب الحاصل بتركها أعظم إظهارا لمزيد تعظيمها فترك الإيجاب خوفا من هذا المحذور. المسألة الرابعة: أما الحمد فقد تقدم تفسيره، وأما تفسير قوله: {فسبح بحمد ربك} فذكروا فيه وجوها: أحدها: قال صاحب الكشاف أي قل: {سبحان اللّه * والحمد للّه} متعجبا مما أراك من عجيب أنعامه أي اجمع بينهما تقول: شربت الماء باللبن إذا جمعت بينهما خلطا وشربا وثانيها: أنك إذا حمدت اللّه فقد سبحته لأن التسبيح داخل في الحمد لأن الثناء عليه والشكر له لا بد وأن يتضمن تنزيهه عن النقائص لأنه لا يكون مستحقا للثناء إلا إذا كان منزها عن النقص ولذلك جعل مفتاح القرآن بالحمد للّه وعند فتح مكة قال: الحمد للّه الذي نصر عبده، ولم يفتتح كلامه بالتسبيح فقوله: {فسبح بحمد ربك} معناه سبحه بواسطة أن تحمده أي سبحه بهذا الطريق وثالثها: أن يكون حالا، ومعناه سبح حامدا كقولك: اخرج بسلاحك أي متسلحا ورابعها: يجوز أن يكون معناه سبح مقدرا أن تحمد بعد التسبيح كأنه يقول: لا يتأتى لك الجمع لفظا فاجمعهما نية كما أنك يوم النحر تنوي الصلاة مقدرا أن تنحر بعدها، فيجتمع لك الثوابان في تلك الساعة كذا ههنا وخامسها: أن تكون هذه الباء هي التي في قولك: فعلت هذا بفضل اللّه، أي سبحه بحمد اللّه وإرشاده وإنعامه، لا بحمد غيره، ونظيره في حديث الإفك قول عائشة: "بحمد اللّه لا بحمدك" والمعنى: فسبحه بحمده، فإنه الذي هداك دون غيره، ولذلك روى أنه عليه السلام كان يقول: "الحمد للّه على الحمد للّه" وسادسها: روى السدي بحمد ربك، أي بأمر ربك وسابعها: أن تكون الباء صلة زائدة، ويكون التقدير: سبح حمد ربك، ثم فيه احتمالات أحدها: اختر له أطهر المحامد وأزكاها والثاني: طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة، والتوسل بذكرها إلى الأغراض الدنيوية الفاسدة والثالث: طهر محامد ربك عن أن تقول: جئت بها كما يليق به. وإليه الإشارة بقوله: {وما قدروا اللّه حق قدره} وثامنها: أي ائت بالتسبيح بدلا عن الحمد الواجب عليك، وذلك لأن الحمد إنما يجب في مقابلة النعم، ونعم اللّه علينا غير متناهية، فحمدها لا يكون في وسع البشر، ولذلك قال: {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} فكأنه تعالى يقول: أنت عاجز عن الحمد، فأت بالتسبيح والتنزيه بدلا عن الحمد وتاسعها: فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الثاني، ولا يتصور أيضا أن يؤتى بهما معا، فنظيره من ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب، وجب أن يقول: اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع، كذا قال: {فسبح بحمد ربك} ليقعا معا، فيصير حامدا مسبحا في وقت واحد معا وعاشرها: أن يكون المراد سبح قلبكأي طهر قلبك بواسطة مطالعة حمد ربك، فإنك إذا رأيت أن الكل من اللّه، فقد طهرت قلبك عن الالتفات إلى نفسك وجهدك، فقوله: {فسبح} إشارة إلى نفي ما سوى اللّه تعالى، وقوله: {بحمد ربك} إشارةإلى رؤية كل الأشياء من اللّه تعالى. المسألة الخامسة: في قوله: {واستغفره} وجوهأحدها: لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه، ويسأل اللّه أن ينصره، فلما سمع: {إذا جاء نصر اللّه} استبشر، لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة، فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين اللّه وأمره بأن يستغفر للداخلين لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام، لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم؟ ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول: إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئا من تلك الأمتعة باعه منه، سواء كان المشتري عدوا أو وليا، فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكيا أو مدنيا، ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم} أي أمرني أن استغفر لكم فلا يجوز أن يردني وثالثها: أن قوله: {واستغفره} أما أن يكون المراد واستغفر اللّه لنفسك أو لأمتك، فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا فمن قال: صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوها: أحدها: أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيرة وثانيها: لزمه الاستغفار ليصير الاستغفار جابرا للذنب الصغير فلا ينتقض من ثوابه شيء أصلا، وأما من قال: ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوها: أحدها: أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف اللّه بأنه غفار وثانيها: تعبده اللّه بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في عبادته، وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه وثالثها: أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل ورابعها: أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة، فليستغفر اللّه لأجل ذلك وخامسها: الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك لأن السائر إلى اللّه إذا وصل إلى مقام في العبودية، ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصرا فيستغفر اللّه عنه، ولما كانت مراتب السير إلى اللّه غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية، أما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضا ظاهر، لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم، وهكذا إذا قلنا: المراد ههنا أن يستغفر لنفسه ولأمته. المسألة السادسة: في الآية إشكال، وهو أن التوبة مقدمة على جميع الطاعات، ثم الحمد مقدم على التسبيح، لأن الحمد يكون بسبب الإنعام، والإنعام كما يصدر عن المنزه فقد يصدر عن غيره، فكان ينبغي أن يقع الابتداء بالاستغفار، ثم بعده يذكر الحمد، ثم بعده يذكر التسبيح، فما السبب في أن صار مذكورا على العكس من هذا الترتيب؟ وجوابه: من وجوه أولها: لعله ابتدأ بالأشرف، فالأشرف نازلا إلى الأخس فالأخس، تنبيها على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق وثانيها: فيه تنبيه على أن التسبيح والحمد الصادر عن العبد إذا صار مقابلا بجلال اللّه وعزته صار عين الذنب، فوجب الاستغفار منه وثالثها: للتسبيح والحمد إشارة إلى التعظيم لأمر اللّه، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق(اللّه)، والأول كالصلاة، والثاني كالزكاة، وكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة، فكذا ههنا. المسألة السابعة: الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه الإعلان بالتسبيح والاستغفار، وذلك من وجوه أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بإبلاغ السورة إلى كل الأمة حتى يبقى نقل القرآن متواترا، وحتى نعلم أنه أحسن القيام بتبليغ الوحي، فوجب عليه الإتيان بالتسبيح والاستغفار على وجه الإظهار ليحصل هذا الغرض وثانيها: أنه من جملة المقاصد أن يصير الرسول قدوة للأمة حتى يفعلوا عند النعمة والمحنة، ما فعله الرسول من تجديد الشكر والحمد عند تجديد النعمة وثالثها: أن الأغلب في الشاهد أن يأتي بالحمد في ابتداء الأمر، فأمر اللّه رسوله بالحمد والاستغفار دائما، وفي كل حين وأوان ليقع الفرق بينه وبين غيره، ثم قال: واستغفره حين نعيت نفسه إليه ليفعل الأمة عند اقتراب آجالهم مثل ذلك. المسألة الثامنة: في الآية سؤالات أحدها: وهو أنه قال: {إنه كان توبا} على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وثانيها: هلا قال: غفارا كما قاله: في سورة نوح وثالثها: أنه قال: {نصر اللّه} وقال: {فى دين اللّه} فلم لم يقل: بحمد اللّه بل قال: {بحمد ربك} والجواب: عن الأول من وجوه أحدها: أن هذا أبلغ كأنه يقول: ألست أثنيت عليكم بأنكم: {خير أمة أخرجت للناس} ثم من كان دونكم كنت أقبل توبتهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة، وفلق البحر ونتق الجبل، ونزول المن والسلوى عصوا ربهم. وأتوا بالقبائح، فلما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلا للتوبة ممن دونكم أفلا أقبلها منكم وثانيها: منذ كثير كنت شرعت في قبول توبة العصاة والشروع ملزم على قبول النعمان فكيف في كرم الرحمن وثالثها: كنت توابا قبل أن آمركم بالاستغفار أفلا أقبل وقد أمرتكم بالاستغفار ورابعها: كأنه إشارة إلى تخفيف جنايتهم أي لستم بأول من جنى وتاب بل هو حرفتي، والجناية مصيبة للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها: كأنه نظير ما يقال: لقد أحسن اللّه فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي والجواب: عن السؤال الثاني من وجوه أحدها: لعله خص هذه الأمة بزيادة شرف لأنه لا يقال في صفات العبد غفار، ويقال: تواب إذا كان آتيا بالتوبة، فيقول تعالى: كنت لي سميا من أول الأمر أنت مؤمن، وأنا مؤمن، وإن كان المعنى مختلفا فتب حتى تصير سميا لي آخر الأمر، فأنت تواب، وأنا تواب، ثم إن التواب في حق اللّه، هو أنه تعالى يقبل التوبة كثيرا فنبه على أنه يجب على العبد أن يكون إتيانه كثيرا وثانيها: إنما قيل: توابا لأن القائل قد يقول: أستغفر اا وليس بتائب، ومنه قوله: "المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزىء بربه" إن قيل: فقد يقول: أتوب، وليس بتائب، قلنا: فإذا يكون كاذبا، لأن التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذبا فيه، فصار تقدير الكلام، واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، وكذا خواتيم الأعمال، وروى أنه لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار والجواب: عن السؤال الثالث أنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرتين وذكر اسم الفعل مرتين أحدهما: الرب والثاني: التواب، ولما كانت التربية تحصل أولا والتوابية آخرا، لا جرم ذكر اسم الرب أولا واسم التواب آخرا. المسألة التاسعة: الصحابة اتفقوا على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم روى أن العباس عرف ذلك وبكى فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ما يبكيك فقال: نعيت إليك نفسك فقال: الأمر كما تقول، وقيل: إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا" روى أن عمر كان يعظم ابن عباس ويقربه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبدالرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا، وفي أبنائنا من هو مثله؟ فقال: لأنه ممن قد علمتم قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول اللّه: {إذا جاء نصر اللّه} وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم: أمر اللّه نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه، فقلت: ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلومونني عليه بعدما ترون، وروى أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال: "إن عبدا خيره اللّه بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء اللّه" فقال السائل: وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى؟ الجواب: من وجوه أحدها: قال بعضهم: إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير وثانيها: أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا دل ذلك على حصول الكال والتمام، وذلك يعقبه الزوال كما قيل: إذا تم شيء دنا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم وثالثها: أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وأنه غير جائز ورابعها: قوله: {واستغفره} تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر، ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة وخامسها: كأنه قيل له: كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته، وهو النصر والفتح والاستيلاء، واللّه تعالى وعدك بقوله: {والاخرة خير * لك من الأولى} فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية. المسألة العاشرة: ذكرناأن الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة. وأما الذين قالوا: إنها نزلت بعد فتح مكة، فذكر الماوردي أنه عليه السلام لم يلبث بعد نزول هذه السورة إلا ستين يوما مستديما للتسبيح والاستغفار، وقال مقاتل: عاش بعدها حولا ونزل: {اليوم أكملت لكم دينكم} فعاش بعده ثمانين يوما ثم نزل آية الكلالة، فعاش بعدها همسين يوما، ثم نزل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ثم نزل: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه} فعاش بعدها أحد عشر يوما وفي رواية أخرى عاش بعدها سبعة أيام، واللّه أعلم كيف كان ذلك. |
﴿ ٣ ﴾