٦٧

{وإذ قال موسى لقومه إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين}

قوله تعالى: {إن اللّه يأمركم} حكي عن أبي عمرو أنه قرأ {يأمركم} بالسكون، وحذف الضمة من الراء لثقلها. قال أبو العباس المبرد: لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب، وإنما الصحيح عن أبي عمرو انه كان يختلس الحركة.

{أن تذبحوا} في موضع نصب بـ {يأمركم} أي بأن تذبحوا.

{بقره} نصب {تذبحوا}. وقد تقدم معنى الذبح فلا معنى لإعادته.

قوله تعالى: {أن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} مقدم في التلاوة وقوله {قتلتم نفسا} مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله: {قتلتم} في النزول مقدما، والأمر بالذبح مؤخرا. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن اللّه أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويكون {وإذ قتلتم} مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا، لأن الواو لا توجب الترتيب. ونظيره في التنزيل في قصة نوج بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين} إلى قوله {إلا قليل} [هود: ٤]. فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله: {وقال اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها} [هود: ٤١]. فذكر الركوب متأخرا في الخطاب، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى: {الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما} [هود: ١٩]. وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله في القرآن كثير.

لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخير في البقر. وقيل: الذبح أولى، لأنه الذي ذكره اللّه، ولقرب المنحر من المذبح. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح مما ينحر. وكره مالك ذلك. وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه. وسيأتي في سورة {المائدة} أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة: ٣] مستوفى إن شاء اللّه تعالى. قال الماوردي: وإنما أمروا - واللّه أعلم - بذبح بقرة دون غيرها، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة، وليس بعلة في جواب السائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.

قوله تعالى: {بقرة} البقرة اسم للأنثى، والثور اسم للذكر مثل ناقه وجمل وامرأة ورجل. وقيل: البقرة واحد البقر، الأنثى والذكر سواء. واصله من قولك: بقر بطنه، أي شقه، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لأبى جعفر محمد بن علي زين العابدين، لأنه بقر العلم وعرف أصله، أي شقه. والبقيرة: ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين. وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد (فبقر الأرض). قال شمر: بقر نظر موضع الماء، فرأى الماء تحت الأرض. قال الأزهري: البقر اسم للجنس وجمعه باقر. ابن عرفة: يقال بقير وباقر وبيقور. وقرأ عكرمة وابن يعمر {إن الباقر}. والثور: واحد الثيران. والثور: السيد من الرجال. والثور القطعة من الأقط. والثور: الطحلب. وثور: الجبل. وثور: قبيلة من العرب. وفي الحديث:

(ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق) يعني انتشاره، يقال: ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق وفي الحديث: (من أراد العلم فليثور القرآن). قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به.

قوله تعالى: {قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال، لهم: {إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: ٦٧] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل: اسمه عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسول اللّه بين أظهرنا، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو اللّه فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده، قالوا: أتتخذنا هزؤا؟ والهزء: اللعب والسخرية، وقد تقدم.

وقرأ الجحدري {أيتخذنا} بالياء، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله: {أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} [البقرة: ٦٧] لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه السلام، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء. والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل، كما جهلوا في قولهم: أتتخذنا هزؤا، لمن يخبرهم عن اللّه تعالى، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله. ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته، وقال: إن اللّه يأمرك بكذا: أتتخذنا هزؤا؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى اللّه عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه اللّه. وكما قال له الآخر: اعدل يا محمد وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدين.

{هزوا} مفعول ثان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة. وجعلها حفص واوا مفتوحة، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل، كقوله: {السفهاء ولكن}. ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد، فتقول: هزؤا، كما قرأ أهل الكوفة، وكذلك {ولم يكن له كفؤا أحد}. وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل، نحو العسر واليسر والهزء.

ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب، ورسل ورسل، وعون وعون. وأما قوله تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءا} [الزخرف: ١٥] فليس مثل هزء وكفء، لأنه على فعل، من الأصل. على ما يأتي في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

مسألة: في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين اللّه ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد. وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده. قال ابن خويز منداد: وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيداللّه بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيداللّه فقال: جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش؟ فقال له: لا تجهل أيها القاضي فقال له عبيداللّه: وابن وجدت المزاج جهلا فتلا عليه هذه الآية، فأعرض عنه عبيداللّه، لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء، وليس أحدهما من الآخر بسبيل.

﴿ ٦٧