٢٣

قوله تعالى: {فانتبذت به مكانا قصيا} أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد؛ قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر؛ لأن اللّه تعالى ذكر الانتباذ الحمل.

وقيل: غير ذلك على ما يأتي:

قوله تعالى: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة} {أجاءها} اضطرها؛ وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه.

وقرأ شبيل ورويت عن عاصم {فاجأها} من المفاجأة. وفي مصحف أبي {فلما أجاءها المخاض}. وقال زهير:

وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ الجمهور {المخاض} بفتح الميم. ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها.

{إلى جذع النخلة} كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة.

{قالت يا ليتني مت قبل هذا} تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين:

أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك.

الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة {يوسف} عليه السلام والحمد للّه.

قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون اللّه فحزنت لذلك، و{قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه. وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي اللّه تعالى عنه:

أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في مَعَد ولا دخل

وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها؛ فقول مريم: {نسيا منسيا} أي حيضة ملقاة. وقرئ {نسيا} بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز {نسئا} بكسر النون. وقرأ نوف البكالي {نسئا} بفتح النون من نسأ اللّه تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرأ بكر بن حبيب {نسا} بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يحر برأسه إلى ناحية بطن مريم؛ قال السدي فذلك قوله: {مصدقا بكلمة من اللّه وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: ٣٩] وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي:

قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس؛

قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر قال عكرمة؛ ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر لخاصة عيسى.

وقيل: ولدته لتسعة.

وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. واللّه أعلم.

﴿ ٢٣