ÓõæÑóÉõ ÇáäøõæÑö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ÃóÑúÈóÚñ æó ÓöÊøõæäó ÂíóÉð

سورة النور

١

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضي اللّه عنه إلى أهل الكوفة: علموا نساءكم سورة النور.

وقالت عائشة رضي اللّه عنها: لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل.

{وفرضناها} قرئ بتخفيف الراء؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. وبالتشديد: أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة. وقرأ أبو عمرو: {وفرضناها} بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما. والفرض القطع، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه أيضا {فرضناها} فصلناها وبيناها.

وقيل: هو على التكثير؛ لكثرة ما فيها من الفرائض. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة؛ ولذلك سميت السورة من القرآن سورة. قال زهير:

ألم تر أن اللّه أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب

وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها.

وقرئ {سورة} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أنزلناها}؛ قاله أبو عبيدة والأخفش.

وقال الزجاج والفراء والمبرد: {سورة} بالرفع لأنها خبر الابتداء؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة. ويحتمل أن يكون قوله {سورة} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك، ويكون الخبر في قوله {الزانية والزاني}.

وقرئ {سورةً} بالنصب، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها. وقال الشاعر:

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة. وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.

٢

قوله تعالى: {الزانية والزاني} كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها.

وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا؛ فإذا كان ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة {النساء} باتفاق.

قوله تعالى: {مائة جلدة} هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بالسنة تغريب عام؛ على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة؛ لقوله تعالى: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: ٢٥] وهذا في الأمة، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد. ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى هذا كله ممهدا في {النساء} فأغنى عن إعادته، والحمد للّه.

قرأ الجمهور {الزانية والزاني} بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزانية} بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه؛ لأنه عنده كقولك: زيدا اضرب. ووجه الرفع عنده: خبر ابتداء، وتقديره: فيما يتلى عليكم [حكم] الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله {فاجلدوا} لأن المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم اللّه وهو قول جيد وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر: ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء.

ذكر اللّه سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، والزاني كان يكفي منهما؛ فقيل: ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: ٣٨]. ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي. فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان؛ لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان؛ فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم (كفر). فأمره بالكفارة، والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة.

قدمت {الزانية} في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك.

وقيل: لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر.

وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب فصدرها تغليظا لتردع شهوتها وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.

الألف واللام في قول {الزانية والزاني} للجنس، وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد. وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن، وفعله علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه بشراحة وقد مضى في {النساء} بيانه.

وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها.

نص اللّه سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به.

واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة.

وروي ذلك عن عمر وعلى وليس يثبت ذلك عنهما. وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان. وبه قال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب. وقد مضى في {هود} اختيار ما في هذه المسألة، والحمد للّه وحده.

قوله تعالى: {فاجلدوا} دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمر مضارع للشرط. وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء؛ وهكذا {السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: ٣٨].

لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه.

وزاد مالك والشافعي: السادة في العبيد.

قال الشافعي: في كل جلد وقطع.

وقال مالك: في الجلد دون القطع.

وقيل: الخطاب للمسلمين لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.

أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا.

وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: (فوق هذا) فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: (دون هذا) فأتي بسوط قد ركب به ولان. فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلد...) الحديث. قال أبو عمر: هكذا روى الحديث مرسلا جميع رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثله سواء. وقد تقدم في {المائدة} ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام. يريد وسطا.

اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى؛ فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرد، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك. وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد ولكن يترك عليه قميص. قال ابن مسعود: لا يحل في الأمة تجريد ولا مد وبه فال الثوري.

اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء؛ فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما؛ ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك. وينزع عنه الحشو والفرو.

وقال الشافعي: إن كان مده صلاحا مد.

واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود؛ فقال مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير.

وقال الشافعي وأصحابه: يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء؛ وروي عن علي. وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى.

قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل.

واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور: يتقى الرأس. وقال أبو يوسف: يضرب الرأس.

وروي عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس. وضرب عمر رضي اللّه عنه صبيا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام: (البينة وإلا حد في ظهرك) وسيأتي.

الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه.

وبه قال الجمهور، وهو قول علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما. وأتي عمر رضي اللّه عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه. وأتي رضي اللّه عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد فجاء عمر رضي اللّه عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت الرجل كم ضربته؟ فقال ستين؛ فقال: أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة: (أقص عنه بعشرين) يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف.

وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضربا فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح؛ ضرب بين ضربين. هو قول الشافعي رضي اللّه عنه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب؛ وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال الثوري: ضرب الزنى أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج مالك بورود التوقيف عل عدد الجلدات، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له.

احتج أبو حنيفة بفعل عمر، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر؛ لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوي قوة مسائل التوقيف.

الحد الذي أوجب اللّه في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك، رضي اللّه عنهم. وسبب ذلك أنه قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن.

روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ؛ فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها؛ فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها - فكأنه وجد عليه - فقال: يا عبداللّه بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعد...) الحديث. وقد تقدم في المائدة. فانظر قول عثمان للإمام علي: قم فاجلده.

نص اللّه تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة - على ما تقدم في المائدة - فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله.

قال ابن العربي: وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضراوة ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه؛ فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب. وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة؛ ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر. فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات. وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة، لمات كمدا ولم يجالس أحدا؛ وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

قلت: ولهذا المعنى - واللّه أعلم - زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين.

وروى الدارقطني حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبدالرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم. وقال: وحثا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه التراب. قال: ثم أتي أبو بكر رضي اللّه عنه بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ؛ فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبدالرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه؛ فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم. فقال علي: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون؛ قال فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين. ومن هذا المعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم:

(لو تأخر الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا.

في رواية (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم). وروى حامد بن يحيى عن سقيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة؛ ذكره أبو عمرو ولم يذكر سببا.

قوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة} أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقة على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، وهذا قول جماعة أهل التفسير. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: {لا تأخذكم بهما رأفة} قالوا في الضرب والجلد. وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة؛ ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرق الرحمة.

وقرئ {رأفة} بفتح الألف على وزن فعلة. وقرئ {رأفة} على وزن فعالة؛ ثلاث لغات، هي كلها مصادر، أشهرها الأولى؛ من رؤوف إذا رق ورحم. ويقال: رأفة ورآفة؛ مثل كأبة وكآبة. وقد رأفت به ورؤفت به. والرؤوف من صفات اللّه تعالى: العطوف الرحيم.

{في دين اللّه} أي في حكم اللّه؛ كما قال تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف: ٧٦] أي في حكمه.

وقيل: {في دين اللّه} أي في طاعة اللّه وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود.

{إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر} قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى:{إن كنتم تؤمنون باللّه}. وهذا كما تقول لرجل تحضه: إن كنت رجلا فافعل كذا، أي هذه أفعال الرجال.

قوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} قيل: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب. قال مجاهد: رجل فما فوقه إلى ألف. وقال ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على الزنى، وأن هذا باب منه؛ وهو قول مالك والليث والشافعي.

وقال عكرمة وعطاء: لا بد من اثنين؛ وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة. وقال الزهري: ثلاثة، لأنه أقل الجمع. الحسن: واحد فصاعدا، وعنه عشرة. الربيع: ما زاد على الثلاثة. وحجة مجاهد قوله تعالى:

{فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: ١٢٢]، وقوله:

{وإن طائفتان} [الحجرات: ٩]، ونزلت في تقاتل رجلين؛ فكذلك قوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}. والواحد يسمى طائفة إلى الألف؛ وقاله ابن عباس وإبراهيم. وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا، وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم، ودعا جماعة ثم تلا {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.

اختلف في المراد بحضور الجماعة. هل المقصود بها الإغلاط على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يدع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة؛ قولان للعلماء.

روي عن حذيفة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار). وعن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إن أعمال أمتي تعرض علي كل جمعة مرتين فاشتد غضب اللّه على الزناة). وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع اللّه على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك باللّه شيئا إلا خمسة ساحرا أو كاهنا أو عاقا لوالديه أو مدمن خمر أو مصرا على الزنى).

٣

اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل:

الأول: أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين. واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. ويريد بقوله {لا ينكح} أي لا يطأ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع. وردد القصة مبالغة وأخذا كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى؛ فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين، أو من هي أحسن منها من المشركات.

وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء. وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب اللّه تعالى إلا بمعنى التزويج. وليس كما قال؛ وفي القرآن {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: ٢٣٠] وقد بينه النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في {البقرة}. وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، ولكن غير مخلص ولا مكمل. وحكاه الخطابي عن ابن عباس، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية، ويفيد أنه زنى في الجهتين؛ فهذا قول.

الثاني: ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللّه؛ أنكح عناق؟ قال: فسكت عني؛ فنزلت {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك}؛ فدعاني فقرأها علي وقال: (لا تنكحها). لفظ أبي داود، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.

الثالث: أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول وكانت من بغايا الزانيات، وشرطت أن تنفق عليه؛ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية؛ قاله عمرو بن العاصي ومجاهد.

الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكسوة والطعام؛ فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن؛ فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك؛ قال ابن أبي صالح.

الخامس: ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدو والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من اللّه فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة. وقال إبراهيم النخعي نحوه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله).

وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي رضي اللّه عنه بينهما.

قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة.

قلت: وحكى هذا القول الكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية. قال الكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك؛ وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء: إن الآية منسوخة في المشرك خاص دون الزانية.

السادس: أنها منسوخة؛ روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} قال: نسخت هذه الآية التي بعدها {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: ٣٢]؛ وقاله ابن عمرو، قال: دخلت الزانية في أيامى المسلمين. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء.

وأهل الفتيا يقولون: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

وقال الشافعي: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب، إن شاء اللّه هي منسوخة.

قال ابن عطية: وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي.

قال ابن العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه: لا يكون زنى إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنى من الجهتين؛ ويكون تقدير الآية: وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح.

فإن قيل: فإذا زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى؛ فهذا زان نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم.

قلنا: هو زنى من كل جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه. وإن أريد به العقد كان معناه: أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا.

وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان، فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني.

في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته؛ وهذا على أن الآية منسوخة.

وقيل إنها محكمة. وسيأتي.

روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي اللّه عنه فجلدهما مائة جلدة، ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة.

وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي اللّه عنهم. وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة فما سرق حرام وما اشترى حلال.

وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له.

وروي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا. وبهذا أخذ مالك رضي اللّه عنه؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد لأن النكاح له حرمة ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح؛ فيختلط الحرام بالحلال ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.

قال ابن خويز منداد: من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه؛ وذلك كعيب من العيوب واحتج بقوله عليه السلام: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله). قال ابن خويز منداد. وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.

قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها.

وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح.

قوله تعالى: {وحرم ذلك على المؤمنين} أي نكاح أولئك البغايا؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه اللّه تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عناق.

حرم اللّه تعالى الزنى في كتابه؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرت بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد. قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحد على ظاهر قوله {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: ٢].

٤

انظر تفسير الآية:٥

٥

هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير: كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها.

وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة. وقال ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب اللّه تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون.

قوله تعالى: {والذين يرمون} يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة:

وجرح اللسان كجرح اليد

وقال آخر:

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني

ويسمى قذفا ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء؛ أي رماها.

ذكر اللّه تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك. وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع. وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات؛ فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله: {والمحصنات من النساء}. [النساء: ٢٤].

وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى: {والتي أحصنت فرجها} [الأنبياء: ٩١] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء.

وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف علها قذف الرجل زوجته؛ واللّه أعلم. وقرأ الجمهور {المحصنات} بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في {النساء} ذكر الإحصان ومراتبه. والحمد للّه.

للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة من المقذوف وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذابة بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.

اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك: هو قذف.

وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قال مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب:

{إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: ٨٧] أي السفيه الضال فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في {هود}. وقال تعالى في أبي جهل:

{ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: ٤٩]. وقال حكاية عن مريم:

{يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم: ٢٨]؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء، أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك؛ ولذلك قال تعالى:

{وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} [النساء: ١٥٦]، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال تعالى:

{قل من يرزقكم من السموات والأرض قل اللّه وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ:٢٤]؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن اللّه تعالى ورسوله على الهدى ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر رضي اللّه عنه الحطيئة لما قال:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي:

قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

قال: ليت الخطاب كذلك؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة؛ ومثله كثير.

الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم.

وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر: وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك. وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة؛ لا أعلم في ذلك خلافا.

والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى.

وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين. وجلد أبو بكر بن محمد عبداً قذف حرا ثمانين؛ وبه قال الأوزاعي. احتج الجمهور بقول اللّه تعالى: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: ٢٥]. وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى للّه تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم اللّه عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم اللّه عليه. وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر: والذي عليه علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول.

وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله عليه السلام:

(من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) خرجه البخاري ومسلم. وفي بعض طرقه:

(من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه بوم القيامة الحد ثمانون) ذكره الدارقطني. قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير؛ حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو.

قال مالك والشافعي: من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد؛ وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر.

قال مالك: ومن قذف أم الولد حد وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي. وقال الحسن البصري: لا حد عليه.

واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين؛ فقال ابن القاسم: عليه الحد لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد فيه لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا.

الحادية عشرة: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر.

قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه. قال إسحاق: إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد: في حديث علي رضي اللّه عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنت صادق رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك. فقالت: ردوني إلى أهلي غيرى نغرة. قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.

وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد؛ ألا تسمع قوله: وإن كنت كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله.

وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه؛ ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها.

وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبة جلدناك وهذا لأنه من حقوق الناس.

قلت: اختلف هل هو من حقوق اللّه أو من حقوق الآدميين؛ وسيأتي. قال أبو عبيد: قال الأصمعي سألني شعبة عن قول: غيرى نغرة؛ فقلت له: هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت. فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلي جوفه عليه غيظا.

من قذف زوجة من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم حد حدين؛ قاله مسروق. قاله ابن العربي:

والصحيح أنه حد واحد؛ لعموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص واللّه أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي اللّه عنها، هل يقتل أم لا.

قوله تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى؛ رحمة بعباده وسترا لهم. وقد تقدم في سورة {النساء}

من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه اللّه أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقت لم تكن شهادة. وقال عبدالملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين. فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد؛ وبه قال ابن الحسن. ورأى عبدالملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل؛ وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وقوله: {فإذ لم يأتوا بالشهداء} [النور: ١٣] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.

فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا؛ فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود؛ وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن.

وقال مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا. وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون.

فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى؛ فقالت طائفة: يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين. وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي.

وقال الشافعي: إن قال عمدت ليقتل؛ فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد. وقال الحسن البصري: يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل وبه قال ابن شبرمة.

واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق اللّه أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؛

الأول - قول أبي حنيفة.

والثاني: قول مالك والشافعي.

والثالث: قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين اللّه تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحللّه المقذوف.

قوله تعالى {بأربعة شهداء} قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء. وقرأ عبداللّه بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {بأربعة} التنوين {شهداء}.

وفيه أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلا. ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا؛ وفي الحال والتمييز نظر؛ إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور. قال النحاس: ويجوز أن يكون {شهداء} في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.

حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في {النساء} في نص الحديث. وأن تكون في موطن واحد؛ على قول مالك. وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع؛ وقال الزهراوي: عبداللّه بن الحارث، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين.

قوله تعالى: {فاجلدوهم} الجلد الضرب. والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم:

أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف محراق لاعب

{ثمانين} نصب على المصدر. {جلدة} تمييز.

{ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون؛ أي خارجون عن طاعة اللّه عز وجل.

قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} في موضع نصب على الاستثناء. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف {فإن اللّه غفور رحيم}. فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع؛ إلا ما روي الشعبي على ما يأتي. وعامل في فسقه بإجماع.

واختلف الناس في عمله في رد الشهادة؛ فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند اللّه تعالى. وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال.

وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء. ثم اختلفوا في صورة توبته؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه والشعبي وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهكذا فعل عمر؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته؛ فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة.

وقالت فرقة - منها مالك رحمه اللّه تعالى وغيره - : توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله؛ وهو قول ابن جرير. ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق؛ لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء؛ وقد قال اللّه عز وجل: {وإني لغفار لمن تاب} [طه: ٨٢] الآية.

اختلف علماؤنا رحمهم اللّه تعالى متى تسقط شهادة القاذف؛ فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة؛ ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته.

واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز؛ فقال مالك رحمه اللّه تعالى: تجوز في كل شيء مطلقا؛ وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء؛ رواه نافع وابن عبدالحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك؛ وهو قول مطرف وابن الماجشون.

وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله. قال سحنون: من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا؛ وروياه عن مالك. واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.

الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما.

وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.

وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان:

أحدهما: هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو.

السبب الثاني: يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من الوقف. ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب اللّه عز وجل كلا الأمرين؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير مين.

قال علماؤنا: وهذا نظر كلي أصولي. ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما اللّه من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى؛ واللّه أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة؛ قال: وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل اللّه التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ منها قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} [المائدة: ٣٣] إلى قوله {إلا الذين تابوا} [المائدة:٣٤]. ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع؛ وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال: وقوله {أبدا} أي ما دام قاذفا؛ كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدا؛ فإن معناه ما دام كافرا. وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل اللّه توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: {وأولئك هم الفاسقون} تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم. ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب؛ فسقط قولهم، واللّه المستعان.

قال القشيري: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة؛ لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد؛ قال اللّه تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا}. وعند هذا قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين حد؛ لأن الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما.

قلت: هكذا قال ولا خلاف. وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته.

وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد؛ لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.

قوله تعالى: {وأصلحوا} يريد إظهار التوبة.

وقيل: وأصلحوا العمل. {فإن اللّه غفور رحيم} حيث تابوا وقبل توبتهم.

٦

انظر تفسير الآية:١٠

٧

انظر تفسير الآية:١٠

٨

انظر تفسير الآية:١٠

٩

انظر تفسير الآية:١٠

١٠

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} {أنفسهم} بالرفع على البدل. ويجوز النصب على الاستثناء، وعلى خبر {يكن}.

{فشهادة أحدهم أربع شهادات} بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر؛ أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات.

وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {أربع} بالنصب؛ لأن معنى {فشهادة} أن يشهد؛ والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات؛ ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة.

{والخامسة} رفع بالابتداء. والخبر {أن} وصلتها؛ ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبدالرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص {والخامسة} بالنصب، بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة.

الباقون بالرفع على الابتداء، والخبر في {أن لعنة اللّه عليه}؛ أي والشهادة الخامسة قول لعنة اللّه عليه.

في سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى اللّه عليه وسلم بشريك بن سحماء؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(البينة أو حد في ظهرك) قال: يا رسول اللّه، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(البينة وإلا حد في ظهرك) فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن اللّه في أمري ما يبرئ ظهري من الحد؛ فنزلت {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} فقرأ حتى بلغ {من الصادقين} الحديث بكماله.

وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ: يا رسول اللّه، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة واللّه لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه واللّه أغير مني). وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوي على ما ذكرنا، وعزم النبي صلى اللّه عليه وسلم على ضربه حد القذف؛ فنزلت هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت وقيل إنها موجبة؛ ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم؛ فالتعنت وفرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهما، وولدت غلاما كأنه جمل أورق - على النعت المكروه - ثم كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبا. وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية.

وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل؛ وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة قال أبو عبداللّه بن أبي صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ. قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني، شهد أحدا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، رماها بشريك بن السحماء، والسحماء أمه؛ قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني؛ كذلك كان يقول أهل الأخبار.

وقيل: قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم الجمعة {والذين يرمون المحصنات} فقال عاصم بن عدي الأنصاري: جعلني اللّه فداك لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا؛ فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته؛ فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته فقال عليه السلام: (كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي). فخرج عاصم سامعا مطيعا؛ فاستقبله هلال بن أمية يسترجع؛ فقال: ما وراءك؟ فقال: شر وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها؛ وخولة هذه بنت عاصم بن عدي، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه. قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني؛ لكثرة ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته. واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبدة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك إلى المدينة؛ قال الطبري.

وروى الدارقطني عن عبداللّه بن جعفر قال: حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء؛ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما)؛ فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل. في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال: سمعت عبداللّه بن جعفر يقول...... فذكره.

قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} عام في كل رمي، سواء قال: زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس مني؛ فإن الآية مشتملة عليه. ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء؛ وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث.

وقد روي عن مالك مثل ذلك. وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني؛ أو ينفي حملا أو ولدا منها. وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك: إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء؛ هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم. والصحيح. الأول لعموم قوله: {والذين يرمون أزواجهم}.

قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية؛ فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (فاذهب فأت بها) ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته. ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى؛ قاله ابن عمر رضي اللّه عنهم. وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه؛ فنزلت {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآية؛ وذكر الحديث. وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يتعدى ذلك. ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد؛ لعموم قوله تعالى: {والذين يرون المحصنات}.

إذا نفى الحمل فإنه يلتعن؛ لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده.

واختلف علماؤنا في الاستبراء؛ فقال المغيرة ومالك أحد قوليهما: يجزى في ذلك حيضة.

وقال مالك أيضا: لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول؛ لأن براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الأمة، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء اللّه تعالى. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة: لا يُنفى الولد بالاستبراء؛ لأن الحيض يأتي على الحمل. وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز، وقاله المغيرة. وقال: لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم.

اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين. وبه قال الشافعي. ولا لعان بين الرجل وأمته، ولا بينه وبين أم ولده.

وقيل: لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة؛ بخلاف اللعان.

وقد قيل: إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن. والأول تحصيل مذهب مالك وهو الصواب.

وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين؛ وذلك لأن اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه. واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين. وفي قوله: {وجد مع امرأته رجلا}. دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين؛ لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأه من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال: {والذين يرمون أزواجهم} ولم يخص زوجا من زوج. وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة؛ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق؛ فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان أيمان لا شهادات؛ قال اللّه تعالى وهو أصدق القائلين:

{لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة:١٠٧] أي أيماننا. وقال تعالى:

{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إن لرسول اللّه} [المنافقون:١]. ثم قال تعالى:

{اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: ١٦]. وقال عليه السلام: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن).

وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق؛ منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبداللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان). أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها.

وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم.

واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقول: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته. وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنى.

قلنا: هذا يبطل بيمين القسامة فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا؛ والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء.

قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.

واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس؛ فقال مالك والشافعي: يلاعن؛ لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه.

وقال أبو حنيفة: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان، فلا يمكننا إقامة الحد عليه. وقد تقدم هذا المعنى في سورة [مريم] والدليل عليه، والحمد للّه.

قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن؛ ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} وهذا رماها محصنة غير زوجة؛ وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا، كما لو قذف أجنبية.

إذا قذفها بعد الطلاق نظرت؛ فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن. وقال عثمان البتي: لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة.

وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين؛ لأنها ليست بزوج. وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا، بل هذا أولى؛ لأن النكاح قد تقدم وهو يري الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان. وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} الآية، فوجب عليه الحد وبطل ما قال البتي لظهور فساده.

لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها ها هنا بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفي الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما.

إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع؛ وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء. ودليلنا النص الصريح بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لاعن قبل الوضع، وقال: (إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان) فجاءت به على النعت المكروه.

إذا قذف بالوطء في الدبر [لزوجه] لاعن.

وقال أبو حنيفة: لا يلاعن؛ وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد. وهذا فاسد؛ لأن الرمي به فيه معرة وقد دخل تحت عموم قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} وقد تقدم في [الأعراف والمؤمنون] أنه يجب به الحد.

قال ابن العربي: من غريب أمر هذا الرجل أنه قال إذا قذف زوجته وأمها بالزنى: إنه إن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الأم؛ وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئا يحكى، وهذا باطل جدا؛ فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.

إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان.

وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحد عن القاذف، وزنى المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها؛ لأن الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف لا بعده. كما لو قذف مسلما فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط الحد عنه. وأيضا فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة. ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجودا في الابتداء منع صحة اللعان ووجوب الحد فكذلك إذا طرأ في الثاني؛ كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك. وأيضا فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيت القطع واليقين، وقد قال عليه السلام: (ظهر المؤمن حمى)؛ فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع، وباللّه التوفيق.

من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا؛ هو لدفع الحد، وهي لدرء العذاب. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء. وقال ابن الماجشون: لا حد على قاذف من لم تبلغ. قال اللخمي: فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل.

إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود الثلاثة؛

وهو أحد قولي الشافعي.

والقول الثاني أنهم لا يحدون.

وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة. ودليلنا قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} الآية. فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت بأربعة شهداء حد؛ فظاهره يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي، والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود، واللّه أعلم.

إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته. وقال شريح ومجاهد: له أن ينفيه أبدا. وهذا خطأ؛ لأن سكوته بعد العلم به رضى به؛ كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه، واللّه أعلم.

فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال: رجوت أن يكون ريحا يفش أو تسقطه فأستريح من القذف؛ فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك؛ فقد اختلف في ذلك، فنحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه؛ وبهذا قال الشافعي.

وقال أيضا: متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك.

وقال أبو حنيفة: لا أعتبر مدة. وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر فيه أربعون يوما، مدة النفاس. قال ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه، واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ويفكر، هل يجوز له نفيه أو لا. وإنما جعلنا الحد ثلاثة لأنه أول حد الكثرة وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصراة؛ فكذلك ينبغي أن يكون هنا. وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع؛ إذ لا شاهد لهم في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة.

قال ابن القصار: إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانيه - بالهاء - وكذلك الأجنبي لأجنبي، فلست أعرف فيه نصا لأصحابنا، ولكنه عندي يكون قذفا وعلى قائله الحد، وقد زاد حرفا، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يكون قذفا. واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف. والدليل على أنه يكون في الرجل قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه، سواء كان بلفظ أعجمي أو عربي. ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت (بفتح التاء) كان قذفا؛ لأن معناه يفهم منه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله تعالى: {وقال نسوة} صلح أن يكون قول يا زان للمؤنث قذفا. ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم، واللّه أعلم.

يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه فجرى اللعان عليه.

اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان؛ فقال أبو حنيفة: لا حد عليه؛ لأن اللّه تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج اللعان، فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر قياسا.

وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء: إن لم يلتعن الزوج حد؛ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد، فكذلك الزوج إن لم يلتعن. وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا؛ لقوله: إن سكت سكت على غيظ وإن قتلتُ قُتلت وإن نطقتُ جُلدت.

واختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده؛ فقال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن؛ لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد، وأما رفع الفراش ونفي الولد فلا بد فيه من اللعان.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه؛ لقوله تعالى: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم}.

البداءة في اللعان بما بدأ اللّه به، وهو الزوج؛ وفائدته درء الحد عنه ونفي النسب منه؛ لقوله عليه السلام: (البينة وإلا حد في ظهرك). ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه اللّه تعالى.

وقال أبو حنيفة: يجزى. وهذا باطل؛ لأنه خلاف القرآن، وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به، بل المعنى لنا؛ لأن المرأة إذا بدأت باللعان فتنفي ما لم يثبت وهذا لا وجه له.

وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن: قل أشهد باللّه لرأيتها تزني ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي. وإن شئت فلت: لقد زنت وما وطئتها بعد زناها. يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات، فإن نكل عن هذه الأيمان أو عن شيء منها حد. وإذا نفى حملا قال: أشهد باللّه لقد استبرأتها وما وطئتها بعد، وما هذا الحمل مني، ويشير إليه؛ فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل يمين منها: وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها. ثم يقول في الخامسة:

علي لعنة اللّه إن كنت من الكاذبين، وإن شاء قال: إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها. فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد. فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت باللّه أربعة أيمان، تقول فيها: أشهد باللّه إنه لكاذب أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه علي وذكر عني. وإن كانت حاملا قالت: وإن حملي هذا منه. ثم تقول في الخامسة:

وعلي غضب اللّه إن كان صادقا، أو إن كان من الصادقين في قول ذلك. ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع: أشهد باللّه إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى. ويقول في الخامسة:

علي لعنة اللّه إن كنت كاذبا فيما رميت به من الزنى. وتقول هي: أشهد باللّه إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى. وتقول في الخامسة:

علي غضب اللّه إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى.

وقال الشافعي: يقول الملاعن أشهد باللّه إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يوعظه الإمام ويذكره اللّه تعالى ويقول: إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة اللّه؛ فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه، ويقول: إن قولك وعلي لعنة اللّه إن كنت من الكاذبين موجبا؛ فإن أبى تركه يقول ذلك: لعنة اللّه علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى. احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول: إنها موجبة.

اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، هل يحد أم لا؛ فقال مالك: عليه اللعان لزوجته، وحد للمرمي. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه.

وقال الشافعي: لا حد عليه؛ لأن اللّه عز وجل لم يجعل على من رمى زوجته بالزنى إلا حدا واحدا بقول: {والذين يرمون أزواجهم}، ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه وبين من لم يذكر؛ وقد رمى العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال بن أمية؛ فلم يحد واحد منهما.

قال ابن العربي: وظاهر القرآن لنا؛ لأن اللّه تعالى وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين، ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق الآية. وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه؛ وحد القذف لا يقيمه الإمام إلا بعد المطالبة إجماعا منا ومنه.

إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعا تفرقا وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه، ولو خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما. ولا خلاف في أنه لا يكن اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام. وقد استحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر. وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها مثل ما تلتعن به المسلمة.

قال مالك أصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده؛ وهو قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما؛ وهو قول الثوري؛ لقول ابن عمر: فرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المتلاعنين؛ فأضاف الفرقة إليه، ولقوله عليه السلام: (لا سبيل لك عليها).

وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته، التعنت أو لم تلتعن. قال: وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير؛ وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى. ولما كان لعان الزوج ينفي الولد ويسقط الحد رفع الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق. وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة؛ على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان، ولم يستحسنه قبل ذلك؛ فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما. وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري، وحكاه اللخمي عن محمد بن أبي صفرة. ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة. واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في كتاب اللّه تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، وبقول عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها؛ فطلقها ثلاثا، قال: ولم ينكر النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك عليه ولم يقل له لم قلت هذا، وأنت لا تحتاج إليه؛ لأن باللعان قد طلقت. والحجة لمالك في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام: (لا سبيل لك عليها). وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عنها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم وإنما كان تنفيذا لما أوجب اللّه تعالى بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة.

ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا، فإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف. وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد، وقال: قد تفرقا بلعنة من اللّه.

وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء؛ وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبدالعزيز بن أبي سلمة، وقالوا: يعود النكاح حلالا كما لحق به الولد؛ لأنه لا فرق بين شيء من ذلك. وحجة الجماعة قوله عليه السلام: (لا سبيل لك عليها)؛ ولم يقل إلا أن تكذب نفسك.

وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال: فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا.

ورواه الدارقطني، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا). وروي عن علي وعبداللّه قالا: مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان. عن علي: أبدا.

اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء:

عدد الألفاظ: وهو أربع شهادات على ما تقدم.

والمكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.

والوقت: وذلك بعد صلاة العصر.

وجمع الناس: وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا؛ فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان.

من قال: إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما، فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الآخر. ومن قال: لا يقع إلا بتفريق الإمام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الآخر.

وعلى قول الشافعي: إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا.

قال ابن القصار: تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ؛ وهو مذهب المدونة: فإن اللعان حكم تفريق الطلاق، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق. وفي مختصر ابن الجلاب: لا شيء لها؛ وهذا على أن تفريق اللعان فسخ.

١١

انظر تفسير الآية:٢٢

١٢

انظر تفسير الآية:٢٢

١٣

انظر تفسير الآية:٢٢

١٤

انظر تفسير الآية:٢٢

١٥

انظر تفسير الآية:٢٢

١٦

انظر تفسير الآية:٢٢

١٧

انظر تفسير الآية:٢٢

١٨

انظر تفسير الآية:٢٢

١٩

انظر تفسير الآية:٢٢

٢٠

انظر تفسير الآية:٢٢

٢١

انظر تفسير الآية:٢٢

٢٢

قوله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} {عصبة} خبر {إن}. ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم}. وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان اللّه عليها، وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا.

وأخرجه البخاري تعليقا، وحديثه أتم. قال: وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال: حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل اللّه بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت ابني فيمن حدّث الحديث قالت: وما ذاك؟ قالت كذا وكذا. قالت عائشة: سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالت نعم. قالت: وأبو بكر؟ قالت نعم فخرت مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (ما شأن هذه؟) فقلت: يا رسول اللّه، أخذتها الحمى بنافض. قال: (فلعل في حديث تُحُدث به) قالت نعم. فقعدت عائشة فقالت: واللّه، لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه واللّه المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل اللّه عذرها. قالت: بحمد اللّه لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبداللّه الحميدي: كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى اللّه عليه وسلم بلا خلاف. وللبخاري من حديث عبيداللّه بن عبداللّه بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ {إذ تلقونه بألسنتكم} وتقول: الولق الكذب.

قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها. قال البخاري: وقال معمر بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع.

وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبدالملك: أبلغك أن عليا كان فيمن قذف؟ قال: قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان عليٌّ مُسَلًّما في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه: قال كنت عند الوليد بن عبدالملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب؟ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبداللّه بن أبي.

وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة: والذي تولى كبره منهم عبداللّه بن أبي.

قوله تعالى: {بالإفك} الإفك الكذب. والعصبة ثلاثة رجال؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة: أربعون رجلا. مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى. فنبه اللّه تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم}؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر.

لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل: إنا للّه وإنا إليه راجعون؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة.

وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبداللّه بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال: واللّه ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال:

تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر

فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاؤوا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأهدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر؛ على ما يأتي واللّه أعلم. وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة.

وقيل: كان حصورا لا يأتي النساء؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة. وقيل: كان له ابنان؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في ابنيه: (لهما أشبه به من الغراب بالغراب). وقوله في الحديث: واللّه ما كشف كنف أنثى قط؛ يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي اللّه عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.

قوله تعالى: {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} يعني ممن تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبداللّه؛ وجهل الغير؛ قال عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبدالملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة؛ كما قال اللّه تعالى.

وفي مصحف حفصة {عصبة أربعة}.

قوله تعالى: {والذي تولى كبره منهم} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب {كُبره} بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد؛ لأن العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا؛ أي أكبره.

روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي: لعل العذاب العظيم الذي أوعده اللّه به ذهاب بصره؛ رواه عنها مسروق.

وروي عنها أنه عبداللّه بن أبي؛ وهو الصحيح، وقال ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبدالبر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله:

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينا ومنصبا  نبي الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب اللّه خيمها وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت أني قلته  فلا رفعت سوطي إلي أناملي

فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول اللّه زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها  تقاصر عنها سورة المتطاول

وقد روي أنه لما أنشدها: حصان رزان؛ قالت له: لست كذلك؛ تريد أنك وقعت في الغوافل. وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه؛ واللّه أعلم.

وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا، وهل جلد الحد أم لا؛ فاللّه أعلم أي ذلك كان فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري: والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حد النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحاب الإفك؛ على قولين:

أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده اللّه أن يقيمها بإخباره عنها؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم.

قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن اللّه عز وجل يقول: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} أي على صدق قولهم: {فاجلدوهم ثمانين جلدة}.

والقول الثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حد أهل الإفك عبداللّه بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:

لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

وابن سلول ذاق في الحد خزية  كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

وآذوا رسول اللّه فيها فجلدوا مخازي تبقى عمموها وفضحوا

فصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

قلت: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبداللّه بن أبي.

روى أبو داود عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: لما نزل عذري قام النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي {ثمانين ثمانين}.

قال علماؤنا. وإنما لم يحد عبداللّه بن أبي لأن اللّه تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن اللّه تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي اللّه عنها وبكذب كل من رماها؛ فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف؛ كما قال اللّه تعالى: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند اللّه هم الكاذبون}. وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم في الحدود (إنها كفارة لمن أقيمت عليه)؛ كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه؛ كما في صحيح مسلم. واللّه أعلم.

قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} هذا عتاب من اللّه سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا. قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه؛ قال المهدوي. و{لولا} بمعنى هلا.

وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد.

وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت: لا واللّه قال: فعائشة واللّه أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب اللّه تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.

قوله تعالى: {بأنفسهم} قال النحاس: معنى {بأنفسهم} بإخوانهم. فأوجب اللّه على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.

قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.

قوله تعالى: {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} هذا توبيخ لأهل الإفك. و{لولا} بمعنى هلا؛ أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.

{فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند اللّه هم الكاذبون} أي هم في حكم اللّه كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم اللّه تعالى؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة.

قلت: ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه؛ وليس لنا من سريرته شيء اللّه يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى اللّه عز وجل.

قوله تعالى: {فضل} رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب {لولا} لأنه قد ذكر مثله بعد؛ قال اللّه عز وجل {ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لمسكم} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من اللّه تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة: الأخذ في الحديث؛ وهو الذي وقع عليه العتاب؛ يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.

قوله تعالى: {إذ تلقَّونه بألسنتكم} قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبي وابن مسعود {إذ تتلقونه} من التلقي، بتاءين.

وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام؛ وهذا أيضا من التلقي.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء.

وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء؛ وهذه قراءة قلقة؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ {فلا تناجوا. ولا تنابزوا} لأن دونه الألف الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي اللّه عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - {إذ تلقَّونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه؛ فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي.

قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع؛ يقال: جاءت الإبل تلق؛ أي تسرع. قال:

لما رأوا جيشا عليهم قد طرق جاؤوا بأسراب من الشأم ولق

إن الحصين زلق وزملق جاءت به عنس من الشأم تلق

يقال: رجل زلق وزملق؛ مثال هُدَبِد، وزمالق وزملق (بتشديد الميم) وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ قال الراجز:

إن الحصين زلق وزملق

والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات؛ فهو مشترك.

قوله تعالى: {وتقولون بأفواهكم ما} مبالغة وإلزام وتأكيد. والضمير في {تحسبونه} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و{هينا} أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم.

{وهو عند اللّه} في الوزر {عظيم}. وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) أي بالنسبة إليكم.

قوله تعالى: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم اللّه أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين اللّه لكم الآيات واللّه عليم حكيم} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا اللّه تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و{أن} مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن ونحوه.

{إن كنتم مؤمنين} توقيف وتوكيد؛ كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.

قوله تعالى: {يعظكم اللّه أن تعودوا لمثله} يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ لما في ذلك من إذاية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عرضه وأهله؛ وذلك كفر من فاعله.

قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل لأن اللّه تعالى يقول: {يعظكم اللّه أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل.

قال ابن العربي: قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي اللّه عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: {إن كنتم مؤمنين} في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام:

(لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه). ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله:

(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) حقيقة.

قلنا: ليس كما زعمتم؛ فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها اللّه تعالى فكل من سبها بما برأها اللّه منه مكذب للّه، ومن كذب اللّه فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها اللّه منه لكان جزاؤه الأدب.

قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} أي تفشو؛ يقال: شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه؛ أي ظهر وتفرق.

{في الذين آمنوا} أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي اللّه عنهما. والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح.

وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السيء.

{لهم عذاب أليم في الدنيا} أي الحد. وفي الآخرة عذاب النار؛ أي للمنافقين، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة. وقال الطبري: معناه إن مات مصرا غير تائب.

قوله تعالى: {واللّه يعلم} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء.

{وأنتم لا تعلمون} روي من حديث أبي الدرداء أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط اللّه حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود اللّه أن يقام فقد عاند اللّه حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة اللّه تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع عل رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على اللّه تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب اللّه تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} الآية.

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} يعني مسالكه ومذاهبه؛ المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة هو ما بين القدمين. والخطوة (بالفتح) المصدر؛ يقال: خطوت خطوة، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة. وقرأ الجمهور {خطوات} بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور {ما زكى} بتخفيف الكاف؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا.

وقيل: {ما زكى} أي ما صلح؛ يقال: زكا يزكو زكاء؛ أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم. وقال الكسائي: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} معترض، وقوله: {ما زكى منكم من أحد أبدا} جواب لقوله أولا وثانيا: {ولولا فضل اللّه عليكم}.

قوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة} الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي اللّه عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف.

وقيل: اسمه عوف، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي اللّه عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل؛ ومر على يمينه، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: واللّه لا نصل من تكلم في شأن عائشة؛ فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته غابر الدهر.

روي في الصحيح أن اللّه تبارك وتعالى لما أنزل: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: واللّه لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة؛ فأنزل اللّه تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} إلى قوله {ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم}.

قال عبداللّه بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب اللّه تعالى؛ فقال أبو بكر: واللّه إني لأحب أن يغفر اللّه لي؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.

في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال؛ لأن اللّه تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان؛ وكذلك سائر الكبائر؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك باللّه، قال اللّه تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: ٦٥].

من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه؛ كما تقدم في [المائدة].

ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبّد ذلك أنها جُرحة في شهادته؛ ذكره الباجي في المنتقى.

قوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل} {ولا يأتل} معناه يحلف؛ وزنها يفتعل، من الألية وهي اليمين؛ ومنه قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} وقد تقدم في {البقرة}.

وقالت فرقة: معناه يقصر؛ من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه؛ ومنه قوله تعالى: {لا يألونكم خبالا} [آل عمران: ١١٨].

قوله تعالى: {ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم} تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو اللّه عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: (من لا يرحم لا يرحم).

قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب اللّه تعالى، من حيث لطف اللّه بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.

وقيل. أرجى آية في كتاب اللّه عز وجل قوله تعالى:

{وبشر المؤمنين بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا} [الأحزاب: ٤٧].

وقد قال تعالى في آية أخرى:

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} [الشورى: ٢٢]؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله تعالى:

{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: ٥٣]. وقوله تعالى:

{اللّه لطيف بعباده} [الشورى: ١٩]. وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب اللّه عز وجل:

{ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: ٥]؛ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.

قوله تعالى: {أن تؤتوا} أي ألا يؤتوا، فحذف {لا}؛ كقول القائل:

فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا

ذكره الزجاج. وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا}.

{وليعفو} من عفا الربع أي درس فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.

٢٣

قوله تعالى: {المحصنات} تقدم في {النساء}. وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا، وقد بيناه أول السورة والحمد للّه.

واختلف فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال سعيد بن جبير: هي في رماة عائشة رضوان اللّه عليها خاصة.

وقال قوم: هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما. ولا تنفع التوبة. ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل اللّه له توبة؛ لأنه قال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - إلى قوله - إلا الذين تابوا} فجعل اللّه لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة؛ قاله الضحاك.

وقيل هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب.

وقيل: نزلت في عائشة، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة.

وقيل: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات؛ فدخل في هذا المذكر والمؤنث؛ واختاره النحاس.

وقيل: نزلت في مشركي مكة؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر.

قوله تعالى: {لعنوا في الدنيا والآخرة}

قال العلماء: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبه العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وعلى قول من قال: هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبداللّه بن أبيّ وأشباهه. وعلى قول من قال: نزلت في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في الآخرة عذاب عظيم؛ ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله. وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون؛ إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.

٢٤

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قراءة العامة بالتاء، واختاره أبو حاتم. وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف {يشهد} بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل، والمعنى: يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان.

وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به. {وأيديهم وأرجلهم} أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا.

٢٥

قوله تعالى: {يومئذ يوفيهم اللّه دينهم الحق} أي حسابهم وجزاؤهم.

وقرأ مجاهد {يومئذ يوفيهم اللّه دينهم الحق} برفع {الحق} على أنه نعت للّه عز وجل. قال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع؛ ليكون نعتا للّه عز وجل، وتكون موافقة لقراءة أبيّ، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبيّ {يوفيهم اللّه الحق دينهم}.

قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضي؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبيّ كذا جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفيهم اللّه الحق دينهم، يكون {دينهم} بدلا من الحق. وعلى قراءة {دينهم الحق} يكون {الحق} نعتا لدينهم، والمعنى حسن؛ لأن اللّه عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق؛ كما قال عز وجل: {وهل نجازي إلا الكفور} [سبأ: ١٧]؛ لأن مجازاة اللّه عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل.

{ويعلمون أن اللّه هو الحق المبين} اسمان من أسمائه سبحانه. وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في الكتاب الأسنى.

٢٦

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ قال ابن زيد: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.

وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن: وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية. ودل على صحة هذا القول

{أولئك مبرؤون مما يقولون} أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات.

وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} [النور: ٣] الآية؛ فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد.

{أولئك مبرؤون مما يقولون} يعني به الجنس.

وقيل: عائشة وصفوان فجمع كما قال: {فإن كان له إخوة} [النساء: ١١] والمراد أخوان؛ قاله الفراء.

و{مبرؤون} يعني منزهين مما رموا به. قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه اللّه على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها اللّه على لسان ابنها عيسى صلوات اللّه عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها اللّه تعالى بالقرآن؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها اللّه بكلامه من القذف والبهتان.

وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي اللّه عنها قالت:

(لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتزوجني ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي صلى اللّه عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما؛ تعني قوله تعالى: {لهم مغفرة ورزق كريم} وهو الجنة.

٢٧

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ...} لما خصص اللّه سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه).

وقد اختلف في تأويله فقال بعض العلماء: ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا} [النحل: ١٢٦] ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب اللّه تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: (قم فاقطع لسانه) وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره.

وقال بعضهم: لا ضمان عليه ولا قصاص؛ وهو الصحيح إن شاء اللّه تعالى لحديث أنس على ما يأتي.

سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول اللّه، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل عليّ وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن؛ فأنزل اللّه تعالى: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة}[النور: ٢٩].

مد اللّه سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس، وهو الاستئذان.

قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى واللّه أعلم الاستئذان؛ وكذا في قراءة أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير {حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها}.

وقيل: إن معنى {تستأنسوا} تستعلموا؛ أي تستعلموا من في البيت. قال مجاهد: بالتنحنح أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك. وقال معناه الطبري؛ ومنه قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا} [النساء: ٦] أي علمتم. وقال الشاعر:

آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء

قلت: وفي سنن ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدالرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا: يا رسول اللّه، هذا السلام، فما الاستئذان؟ قال: (يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت).

قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان؛ كما قال مجاهد ومن وافقه.

وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير {حتى تستأنسوا} خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو {حتى تستأذنوا}.

وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {حتى تستأنسوا}، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس؛ وقد قال عز وجل:

{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: ٤٢]، وقال تعالى:

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: ٩].

وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والمعنى: حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم.

قال ابن عطية. ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن {تستأنسوا} متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبي صلى اللّه عليه وسلم: أستأنس يا رسول اللّه؛ وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى اللّه عليه وسلم، فكيف يخطّئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا.

قلت: قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم. واللّه أعلم.

السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. قال ابن وهب قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل؛ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا؛ ثم ينصرف من بعد الثلاث.

وإنما قلنا: إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبي موسى الأشعري، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري، ثم أبيّ بن كعب. وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص صريح؛ فإن فيه: فقال - يعني عمر - ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع).

وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لخادمه:

(أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل) فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي صلى اللّه عليه وسلم فدخل. وذكره الطبري وقال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة: (قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل؟...) الحديث.

وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة: ادخل بسلام؛ فأعاد فأعادت، فقال لها: قولي أدخل. فقالت ذلك فدخل؛ فتوقف لما قالت: بسلام؛ لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك.

قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم: إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا. وإذا كان الغالب هذا؛ فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه؛ فينبغي للمستأذن أن ينصرف؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به؛ كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال: (لعلنا أعجلناك... ) الحديث.

وروى عقيل عن ابن شهاب قال: أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى سعد بن عبادة فقال: (السلام عليكم) فلم يردوا، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (السلام عليكم) فلم يردوا، فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف؛ فخرج سعد في أثره حتى أدركه، فقال: وعليك السلام يا رسول اللّه، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد واللّه سمعنا؛ فأنصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع سعد حتى دخل بيته. قال ابن شهاب:

فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك؛ رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول حدثني محمد بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في منزلنا فقال: (السلام عليكم ورحمة اللّه) قال فرد سعد ردا خفيا، قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام... الحديث، أخرجه أبو داود وليس فيه قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك.

قال أبو داود: ورواه عمر بن عبدالواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد.

روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس.

قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها؛ واللّه أعلم. روى أبو داود عن عبداللّه بن بسر قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: (السلام عليكم السلام عليكم) وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.

فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن، وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قُف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إيذن له وبشره بالجنة). هكذا رواه عبدالرحمن بن أبي الزناد وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد؛ فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبدالرحمن بن نافع عن أبي موسى. وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم كذلك؛ وإسناده الأول أصح، واللّه اعلم.

وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك؛ فقد روى أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: كانت أبواب النبي صلى اللّه عليه وسلم تقرع بالأظافير؛ ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه.

روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبداللّه رضي اللّه عنهما قال: استأذنت على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (من هذا)؟ فقلت أنا، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (أنا أنا)! كأنه كره ذلك.

قال علماؤنا: إنما كره النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك لأن قوله أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وأبو موسى؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب. ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليكم أيدخل عمر؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري... الحديث.

ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت أنا؛ فقال: يا هذا ما لي صديق يقال له أنا ثم خرج إليّ فقال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبداللّه قال: أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال: (من هذا)؟ فقلت أنا؛ فقال: (أنا أنا) كأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كره قولي هذا، أو قوله هذا. وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت أنا؛ فقال: لا يعلم الغيب إلا اللّه. قال الخطيب: سمعت علي بن المحسن القاضي يحكي عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا؟ فقال الذي على الباب أنا، يقول الشيخ: أنا هم دق.

ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة؛ كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبي عبدالملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت أندرون. وترجم عليه باب الاستئذان بالفارسية. وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أندرون، فلقبه أهل المدينة الدراوردي.

روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى اللّه عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال: (ارجع فقل السلام عليكم) وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية.

وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له). وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا قال الرجل أدخل؟ ولم يسلم فقل لا حتى تأتي بالمفتاح؛ فقلت السلام عليكم؟ قال نعم.

وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة: أما بعينك فقد دخلت وأما باستك فلم تدخل.

ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (رسول الرجل إلى الرجل إذنه)؛ أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول، يبينه قوله عليه السلام: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن). أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة.

فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول: أدخل؟ فإن أذن لك وإلا رجعت.

هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها، إلا أنك تسلم إذا دخلت. قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا: تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها. وأما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. قال ابن القاسم قال مالك: ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما.

وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال (نعم) قال: إني أخدمها؟ قال: (استأذن عليها) فعاوده ثلاثا؛ قال (أتحب أن تراها عريانة)؟ قال لا؛ قال: (فاستأذن عليها) ذكره الطبري.

فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد؛ فقال علماؤنا: يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات، للّه السلام. رواه ابن وهب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وسنده ضعيف. وقال قتادة: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين؛ فإنه يؤمر بذلك. قال: وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم.

قال ابن العربي: والصحيح ترك السلام والاستئذان، واللّه أعلم.

قلت: قول قتادة حسن.

٢٨

قوله تعالى: {فإن لم تجدوا فيها أحدا} الضمير في {تجدوا فيها} للبيوت التي هي بيوت الغير. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: معنى قوله: {فان لم تجدوا فيها أحدا} أي لم يكن لكم فيها متاع. وضعف الطبري هذا التأويل، وكذلك هو في غاية الضعف؛ وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع.

ورأى لفظة {المتاع} متاع البيت، الذي هو البسط والثياب؛ وهذا كله ضعيف. والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث؛ التقدير: يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا؛ كما فعل عليه السلام مع سعد، وأبو موسى مع عمر رضي اللّه عنهما. فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا. وأسند الطبري عن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع وأنا مغتبط؛ لقوله تعالى: {هو أزكى لكم}.

سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه.

فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال:

(من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق)

وروي في الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه؛ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل اللّه الإذن من أجل البصر). وروي عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح).

إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير. وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي اللّه عنهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: {واللّه بما تعملون عليم} توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور.

٢٩

روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر، فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن؛ فنزلت هذه الآية، أباح اللّه تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات فإذا زالت العلة زال الحكم.

اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت؛ فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة. قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، وفيها متاع لهم؛ أي استمتاع بمنفعتها. وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة ويبينه قول مالك. وهذا على القول بأنها غير متملكة، وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة. وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيساريات. قال الشعبي: لأنهم جاؤوا بيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلم. وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط؛ ففي هذا أيضا متاع. وقال جابر بن زيد: ليس يعني بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة؛ أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع. قال أبو جعفر النحاس: وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة. والمتاع في كلام العرب: المنفعة؛ ومنه أمتع اللّه بك. ومنه {فمتعوهن} [الأحزاب: ٤٩].

قلت: واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال: أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات وهي الفناتق، أي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة؛ وكل يؤتي على وجهه من بابه. وأما قول ابن زيد والشعبي فقول وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكلون بدفع الناس.

٣٠

قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر؛ يقال: غض بصره يغضه غضا؛ قال الشاعر:

فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقال عنترة.

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

ولم يذكر اللّه تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرم دون المحلل.

وفي البخاري: وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك؛ يقول اللّه تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} وقال قتادة: عما لا يحل لهم؛ {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} [النور: ٣١] خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه.

قوله تعالى: {من أبصارهم} {من} زائدة؛ كقوله: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: ٤٧].

وقيل: {من} للتبعيض؛ لأن من النظر ما يباح.

وقيل: الغض النقصان؛ يقال: غض فلان من فلان أي وضع منه؛ فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص.

{فمن} صلة للغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة.

البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله؛ وقد قال صلى اللّه عليه وسلم:

(إياكم والجلوس على الطرقات) فقالوا: يا رسول اللّه، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال:

(فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه) قالوا: وما حق الطريق يا رسول اللّه؟ قال:

(غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). رواه أبو سعيد الخدري، خرجه البخاري ومسلم. وقال صلى اللّه عليه وسلم لعلي:

(لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية).

وروى الأوزاعي قال: حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت، فقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال: ظلمت عينك، فاستغفر اللّه وتب، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. قال الأوزاعي: وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي اللّه عنه. وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبداللّه قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نظرة الفجاءة؛ فأمرني أن أصرف بصري. وهذا يقوي قول من يقول: إن {من} للتبعيض؛ لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها؛ فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج؛ لأنها تملك. ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته؛ وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها.

قوله تعالى: {ويحفظوا فروجهم} أي يستروها عن أن يراها من لا يحل.

وقيل: {ويحفظوا فروجهم} أي عن الزنى؛ وعلى هذا القول لو قال: {من فروجهم} لجاز. والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام.

وروى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول اللّه، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:

(احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك). قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال:

(إن استطعت ألا يراها فافعل). قلت: فالرجل يكون خاليا؟ فقال:

(اللّه أحق أن يستحيا منه من الناس). وقد ذكرت عائشة رضي اللّه عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحالها معه فقالت: ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك مني.

بهذه الآية حرم العلماء نصا دخول الحمام بغير مئزر.

وقد روي عن ابن عمر أنه قال: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة. وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة. فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض أو النفاس أو مرض يلحقهن؛ والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن، فقد روى أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول: لقيني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد خرجت من الحمام فقال:

(من أين يا أم الدرداء)؟ فقالت من الحمام؛ فقال:

(والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل).

وخرج أبو بكر البزار عن طاوس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(احذروا بيتا يقال له الحمام). قالوا: يا رسول اللّه، ينقي الوسخ؟ قال: (فاستتروا). قال أبو محمد عبدالحق: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب؛ على أن الناس يرسلونه عن طاوس، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد، وكذلك ما خرجه الترمذي.

قلت: أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين؛ لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم، حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه. هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي من أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط

الأول: ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير عن الرحضاء.

الثاني: أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.

الثالث: أن يستر عورته بإزار صفيق.

الرابع: أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور.

الخامس: أن يغير ما يرى من منكر برفق، يقول: استتر سترك اللّه

السادس: إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته. وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا.

السابع: أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس.

الثامن: أن يصب الماء على قدر الحاجة.

التاسع: إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه.

العاشر: أن يتذكر به جهنم. فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر. ذكر الترمذي أبو عبداللّه في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبداللّه بن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(اتقوا بيتا يقال له الحمام). قيل: يا رسول اللّه، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار فقال:

(إن كنتم لا بد فاعلين فادخلوه مستترين). وخرج من حديث أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام - وذلك لأنه إذا دخله سأل اللّه الجنة واستعاذ به من النار - وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس). وذلك لأنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة. قال أبو عبداللّه: فهذا لأهل الغفلة، صير اللّه هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم؛ فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى إن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كتفلة عوقب بها مجرم أو مسيء قد كان استوجب القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا.

قوله تعالى: {ذلك أزكى لهم} أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام.

{إن اللّه خبير} أي عالم. {بما يصنعون} تهديد ووعيد.

٣١

قوله تعالى: {وقل للمؤمنات} خص اللّه سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد؛ فإن قوله {قل للمؤمنين} يكفي؛ لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن. وظهر التضعيف في {يغضضن} ولم يظهر في {يغضوا} لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة، وهما في موضع جزم جوابا. وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب؛ كما أن الحُمى رائد الموت. وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:

ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف

وفي الخبر (النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه اللّه الحلاوة في قلبه).

وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر؛ فإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر. وعن خالد بن أبي عمران قال: لا تتبعن النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرة نغل منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به.

فأمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل؛ فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها؛ وقصدها منه كقصده منها.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(إن اللّه كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر...) الحديث.

وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت صغيرة. وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري.

وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل ينظر إليها. وقال عليه السلام:

(الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق). والمذاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا؛ مأخوذ من المذي.

وقيل: هو إرسال الرجال إلى النساء؛ من قولهم: مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى. وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي؛ فلا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له؛ أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد؛ فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.

روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لها ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم: (احتجبا) فقالتا: إنه أعمى، قال: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه).

فإن قيل: هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه. وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب؛ كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة. ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك؛ ثم قال:

(تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك).

قلنا: قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط؛ وأما العورة فلا. فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}، وتكون {من} للتبعيض كما هي في الآية قبلها.

قال ابن العربي: وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى ببت ابن أم مكتوم لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أمر شريك؛ إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد؛ فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها في ذلك، واللّه أعلم.

أمر اللّه سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى، ما يظهر من الزينة؛

واختلف الناس في قدر ذلك؛ فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه.

وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب.

وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ؛ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس.

وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

(لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها هنا) وقبض على نصف الذراع.

قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك. فـ {ما ظهر} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.

قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي اللّه عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال لها:

(يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا) وأشار إلى وجهه وكفيه. فهذا أقوى من جانب الاحتياط؛ ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، واللّه الموفق لا رب سواه.

وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك؛ وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها.

الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة؛ فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية؛ لما فيه من المنافع وطرق العلوم.

وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب؛ ومنه قوله تعالى: {خذوا زينتكم} [الأعراف: ٣١]. وقال الشاعر:

يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل

من الزينة ظاهر وباطن؛ فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم والأجانب؛ وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم اللّه تعالى في هذه الآية، أو حل محلهم.

واختلف في السوار؛ فقالت عائشة: هي من الزينة الظاهرة لأنها في اليدين. وقال مجاهد: هي من الزينة الباطنة، لأنها خارج عن الكفين وإنما تكون في الذراع.

قال ابن العربي: وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.

قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} قرأ الجمهور بسكون اللام التي هي للأمر. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل؛ لأن الأصل في لام الأمر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضد وفخذ.

و{يضربن} في موضع جزم بالأمر، إلا أنه بني على حالة واحدة إتباعا للماضي عند سيبويه. وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر.

قال النقاش: كما يصنع النبط؛ فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك؛ فأمر اللّه تعالى بليّ الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها.

روى البخاري عن عائشة أنها قالت: رحم اللّه نساء المهاجرات الأول؛ لما نزل: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن أزرهن فاختمرن بها. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبدالرحمن رضي اللّه عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك؛ فشقته عليها وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر.

الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطي به رأسها؛ ومنه اختمرت المرأة وتخمرت، وهي حسنة الخِمرة. والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص؛ وهو من الجوب وهو القطع.

ومشهور القراءة ضم الجيم من {جيوبهن}. وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء؛ كقراءتهم ذلك في: بيوت وشيوخ. والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ويقولون: بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال الزجاج: يجوز على أن تبدل من الضمة كسرة؛ فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز.

وقال مقاتل: {على جيوبهن} أي على صدورهن؛ يعني على مواضع جيوبهن.

في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر. وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف رضوان اللّه عليهم؛ على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم.

وقد ترجم البخاري رحمة اللّه تعالى عليه (باب جيب القميص من عند الصدر وغيره) وساق حديث أبي هريرة قال: ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثُديّهما وتراقيهما... ) الحديث، وقد تقدم بكماله، وفيه: قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول بإصبعيه هكذا في جيبه؛ فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع. فهذا يبين لك أن جيبه عليه السلام كان في صدره؛ لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه. وهذا استدلال حسن.

قوله تعالى: {لبعولتهن} والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب؛ ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم في جبريل: (إذا ولدت الأمة بعلها) يعني سيدها؛ إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها وكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق إذ كان العتق حاصلا لها من سببه؛ قاله ابن العربي.

قلت: ومنه قوله عليه السلام في مارية: (أعتقها ولدها) فنسب العتق إليه. وهذا من أحسن تأويلات هذا الحديث. واللّه أعلم.

مسألة: فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذة ونظرا. ولهذا المعنى بدأ بالبعولة؛ لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال اللّه تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون: ٥ - ٦].

اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج المرأة؛ على قولين:

أحدهما: يجوز؛ لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى.

وقيل: لا يجوز؛ لقول عائشة رضي اللّه عنها في ذكر حالها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك مني) والأول أصح، وهذا محمول على الأدب؛

قال ابن العربي. وقد قال أصبغ من علمائنا: يجوز له أن يلحسه بلسانه. وقال ابن خويز منداد: أما الزوج والسيد فيجوز له أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه. وكذلك المرأة يجوز أن تنظر إلى عورة زوجها، والأمة إلى عورة سيدها.

قلت: وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (النظر إلى الفرج يورث الطمس) أي العمى، أي في الناظر.

وقيل: إن الولد بينهما يولد أعمى. واللّه أعلم.

لما ذكر اللّه تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر. فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها. وتختلف مراتب ما يبدى لهم؛ فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج.

وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضي اللّه عنهما أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل. قال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهي قوله تعالى: {لا جناح عليهن في آبائهن} [الأحزاب: ٥٥]. وقال في سورة النور: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية. فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية أخرى.

قوله تعالى: {أو أبناء بعولتهن} يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث؛ كبني البنين وبني البنات. وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لآباء الآباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن وإن سفلوا. وكذلك أبناء البنات وإن سفلن؛ فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات. وكذلك أخواتهن، وهم من ولد الآباء والأمهات أو أحد الصنفين. وكذلك بنو الأخوة وبنو الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بني الأخوات وبني بنات الأخوات. وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم، وقد تقدم في {النساء}.

والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم. وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم. وقال عكرمة: لم يذكرهما في الآية لأنهما تبعان لأبنائهما.

قوله تعالى: {أو نسائهن} يعني المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم؛ فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها؛ فذلك قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن}.

وكان ابن جريج وعبادة بن نسي وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها؛ ويتأولون {أو نسائهن}.

وقال عبادة بن نسي: وكتب عمر رضي اللّه عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين؛ فامنع من ذلك، وحل دونه؛ فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل

وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود اللّه وجهها يوم تبيض الوجوه.

وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية؛ لئلا تصفها لزوجها. وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء. فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها؛ وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام وأهل الكفر، ولما ذكرناه. واللّه أعلم.

قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات. وهو قول جماعة من أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي اللّه عنهما.

وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته.

وقال أشهب: سئل مالك أتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي؟ فقال نعم، إذا كان مملوكا لها أو لغيرها؛ وأما الحر فلا. وإن كان فحلا كبيرا وَغْداً تملكه، لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها.

قال أشهب قال مالك: ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض؛ قال اللّه تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم}.

وقال أشهب عن مالك: ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج. وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية {أو ما ملكت أيمانهن} إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول مجاهد وعطاء.

وروى أبو داود عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها؛ فلما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ما تلقى من ذلك قال: (إنه لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك).

قوله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال} أي غير أولي الحاجة والإربة الحاجة، يقال: أربت كذا آرب أربا. والإرب والإربة والمأربة والأرب: الحاجة؛ والجمع مأرب؛ أي حوائج. ومنه قوله تعالى: {ولي فيها مآرب أخرى} [طه: ١٨] وقد تقدم وقال طرفة:

إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا تقدم يوما ثم ضاعت مآربه

واختلف الناس في معنى قوله: {أو التابعين غير أولي الإربة} فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء.

وقيل الأبله.

وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم؛ وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن.

وقيل العنين.

وقيل الخصي.

وقيل المخنث.

وقيل الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك. وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء. وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة: بادية ابنة غيلان، أمر بالاحتجاب منه.

أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة.

قال أبو عمر: ذكر عبدالملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قال قلت لمالك: إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان: (أن مخنثا يقال له هيت) وليس في كتابك هيت؟ فقال مالك: صدق، هو كذلك وغربه النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها.

قال حبيب وقلت لمالك: وقال سفيان في الحديث: إذا قعدت تبنت، وإذا تكلمت تغنت.

قال مالك: صدق، هو كذلك. قال أبو عمر: ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة (أن مخنثا يدعى هيتا) فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام، لا ابن عيينة ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث (إن مخنثا يدعى هيتا) وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث: إذا قعدت تبنت وإذا تكلمت تغنت، هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة، وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكي عن مالك أنه كذلك، فصارت رواية عن مالك، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا، واللّه أعلم.

وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به. ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبداللّه بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها وأمه عاتكة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسمع: إن فتح اللّه عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنت وإن تكلمت تغنت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم:

تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نزف

بين شكول النساء خلقتها قصد فلا جبلة ولا قضف

تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنقصف

فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: (لقد غلغلت النظر إليها يا عدو اللّه). ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى. قال: فلما افتتحت الطائف تزوجها عبدالرحمن بن عوف فولدت له منه بريهة؛ في قول الكلبي. ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد.

وقيل: إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه. قال: وكان هيت مولى لعبداللّه بن أبي أمية المخزومي، وكان له طُوَيس أيضا، فمن ثم قبل الخنث.

قال أبو عمر: يقال بادية بالياء وبادنة بالنون، والصواب فيه عندهم بالياء، وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء.

وصف التابعين بـ {غير} لأن التابعين غير مقصودين بأعيانهم، فصار اللفظ كالنكرة. و{غير} لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة. وإن شئت قلت هو بدل.

والقول فيها كالقول في {غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: ٧]. وقرأ عاصم وابن عامر {غير} بالنصب فيكون استثناء؛ أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم. ويجوز أن يكون حالا؛ أي والذين يتبعونهن عاجزين عنهن؛ قاله أبو حاتم. وذو الحال ما في {التابعين} من الذكر.

قوله تعالى: {أو الطفل} اسم جنس بمعنى الجمع، والدليل على ذلك نعته {بالذين}. وفي مصحف حفصة {أو الأطفال} على الجمع. ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم.

و{يظهروا} معناه يطلعوا بالوطء؛ أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن.

وقيل: لم يبلغوا أن يطيقوا النساء؛ يقال: ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت على كذا أي قهرته.

والجمهور على سكون الواو من {عورات} لاستثقال الحركة على الواو. وروي عن ابن عباس فتح الواو؛ مثل جفنة وجفنات. وحكى الفراء أنها لغة قيس {عورات} بفتح الواو. النحاس: وهذا هو القياس؛ لأنه ليس بنعت، كما تقول: جفنة وجفنات؛ إلا أن التسكين أجود في {عورات} وأشباهه، لأن الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت ألفا؛ فلو قيل هذا لذهب المعنى.

اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين:

أحدهما: لا يلزم؛ لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح.

والآخر يلزمه؛ لأنه قد يشتهي وقد تشتهي أيضا هي فإن راهق فحكمه حكم البالغ وجوب الستر. ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبي، والصحيح بقاء الحرمة؛ قاله ابن العربي.

أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما.

وقال أكثر العلماء في الرجل: من سرته إلى ركبته عورة؛ لا يجوز أن ترى. وقد مضى في {الأعراف} القول في هذا مستوفى.

قال أصحاب الرأي: عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة.

ابن العربي: وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة، واللّه تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصا العبد منهم، فما لنا ولذلك هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد. وقد تأول بعض الناس قوله: {أو ما ملكت أيمانهن} على الإماء دون العبيد؛ منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون بالنساء هذا بعيد جدا وقد قيل: إن التقدير أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال؛ حكاه المهدوي.

قوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن} أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها؛ فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر. أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت؛ فنزلت هذه الآية. وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها؛ قاله الزجاج.

من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه. ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله من الرجال، إن فعل ذلك تعجبا حرم فإن العجب كبيرة. وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز.

قال مكي رحمه اللّه تعالى: ليس في كتاب اللّه تعالى آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.

قوله تعالى: {وتوبوا} أمر. ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين وقد مضى الكلام فيها في {النساء} وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك. والمعنى: وتوبوا إلى اللّه فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق اللّه تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال.

قرأ الجمهور {أيه} بفتح الهاء. وقرأ ابن عامر بضمها؛ ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها. وضعف أبو علي ذلك جدا وقال: آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في {اللّهم} لاقترانها بالكلمة في كلام طويل. والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة. وأنشد الفراء:

يا أيه القلب اللجوج النفس أفق عن البيض الحسان اللعس

اللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح؛ يقال: شفة لعساء، وفتية ونسوة لعس. وبعضهم يقف {أيه}. وبعضهم يقف {أيها} بالألف؛ لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على {محلي} من قوله تعالى: {غير محلي الصيد} [المائدة: ١]. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في {يا أيه الساحر}. {يا أيه الثقلان}.

٣٢

وَأَنكِحُوا اْلأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ... هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح؛ أي زوجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف؛ والخطاب للأولياء.

وقيل للأزواج. والصحيح الأول؛ إذ لو أراد الأزواج لقال {وأنكحوا} بغير همز، وكانت الألف للوصل. وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولي؛ وهو قول أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: إذا زوجت الثيب أو البكر نفسها بغير ولي كفء لها جاز. وقد مضى هذا في {البقرة} مستوفى.

اختلف العلماء في هذا الأمر على ثلاثة أقوال؛ فقال علماؤنا: يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر وزوال خشية العنت عنه. وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم. وإن لم يخش شيئا وكانت الحال مطلقة فقال الشافعي: النكاح مباح.

وقال مالك وأبو حنيفة: هو مستحب. تعلق الشافعي بأنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب.

وتعلق علماؤنا بالحديث الصحيح: (من رغب عن سنتي فليس مني).

قوله تعالى: {الأيامى منكم} أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء؛ واحدهم أيم. قال أبو عمرو: أيامى مقلوب أيايم. واتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها، بكرا كانت أو ثيبا؛ حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما. تقول العرب: تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج. وفي حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(أنا وامرأة سفعاء الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا أو يغنيهم اللّه من فضله كهاتين في الجنة). وقال الشاعر:

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم

ويقال: أيم بين الأيمة. وقد آمت هي، وإمت أنا. قال الشاعر:

لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمي أن تئيم كما إمت

قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم؛ وأكثر ما يكون ذلك في النساء، وهو كالمستعار في الرجال. وقال أمية بن أبي الصلت:

للّه در بني علي أيم منهم وناكح

وقال قوم: هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور: ٣]. وقد بيناه في أول السورة والحمد للّه.

المقصود من قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} الحرائر والأحرار؛ ثم بين حكم المماليك فقال: {والصالحين من عبادكم وإمائكم}.

وقرأ الحسن {والصالحين من عبيدكم}، وعبيد اسم للجمع. قال الفراء: ويجوز {وإماءكم} بالنصب، يرده على {الصالحين} يعني الذكور والإناث؛ والصلاح الإيمان.

وقيل: المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين فيجوز تزويجهم، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب؛ كما قال {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} [النور: ٣٣]. ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيرا، ولكن الخطاب ورد في الترغيب واستحباب، وإنما يستحب كتابة من فيه خير.

أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح؛ وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما. قال مالك: ولا يجوز ذلك إذا كان ضررا.

وروي نحوه عن الشافعي، ثم قال: ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح. وقال النخعي: كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب.

تمسك أصحاب الشافعي فقالوا: العبد مكلف فلا يجبر على النكاح؛ لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية، وإنما تتعلق به المملوكية فيما كان حظا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة، بخلاف الأمة فإنه له حق المملوكية في بضعها ليستوفيه؛ فأما بضع العبد فلا حق له فيه، ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها. هذه عمدة أهل خراسان والعراق، وعمدتهم أيضا الطلاق، فإنه يملكه العبد بتملك عقده. ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد؛ ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع. والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد، هو يراها ويقيمها للعبد.

قوله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله} رجع الكلام إلى الأحرار؛ أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة؛ {إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله}. وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا اللّه واعتصاما من معاصيه. وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح؛ وتلا هذه الآية. وقال عمر رضي اللّه عنه: عجبي ممن لا يطلب الغني في النكاح، وقد قال اللّه تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله}.

وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أيضا. ومن حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ثلاثة كلهم حق على اللّه عونه المجاهد في سبيل اللّه والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء). أخرجه ابن ماجه في سننه.

فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغني؛

قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد.

وقد قيل: يغنيه؛ أي يغني النفس. وفي الصحيح (ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس).

وقد قيل: ليس وعد لا يقع فيه خلف، بل المعنى أن المال غاد ورائح، فارجوا الغنى.

وقيل: المعنى يغنهم اللّه من فضله إن شاء؛ كقوله تعالى:

{فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} [الأنعام: ٤١]، وقال تعالى:

{يبسط الرزق لمن يشاء} [الشورى: ١٢].

وقيل: المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم اللّه بالحلال ليتعففوا عن الزنى.

هذه الآية دليل على تزويج الفقير، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال؛ فإن رزقه على اللّه. وقد زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه؛ وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسرا، أو طرأ الإعسار بعد ذلك لأن الجوع لا صبر عليه؛ قال علماؤنا.

وقال النقاش: هذه الآية حجة على من قال: إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة؛ لأن اللّه تعالى قال: {يغنهم اللّه} ولم يقل يفرق. وهذا انتزاع ضعيف، وليس هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا. فأما من تزوج موسرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما؛ قال اللّه تعالى: {وإن يتفرقا يغن اللّه كلا من سعته} [النساء: ١٣٠]. ونفحات اللّه تعالى مأمولة في كل حال موعود بها.

٣٣

انظر تفسير الآية:٣٤

٣٤

قوله تعالى: {وليستعفف الذين} الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه؛ كالمحجور - قولا واحدا - والأمة والعبد؛ على أحد قولي العلماء.

و{استعفف} وزنه استفعل؛ ومعناه طلب أن يكون عفيفا؛ فأمر اللّه تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف. ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله؛ فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء. وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ثلاثة كلهم حق على اللّه عز وجل عونهم المجاهد في سبيل اللّه والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء).

قوله تعالى: {لا يجدون نكاحا} أي طول نكاح؛ فحذف المضاف. وقيل: النكاح ها هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة؛ كاللحاف اسم لما يلتحف به. واللباس اسم لما يلبس فعلى هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين؛ وحملهم على هذا قوله تعالى: {حتى يغنيهم اللّه من فضله} فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به. وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف؛ وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر، كما قدمناه، واللّه تعالى أعلم.

من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء؛ كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة اللّه تعالى.

وفي الخبر (خيركم الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد). وقد تقدم جواز نكاح الإماء عند عدم الطول للحرة في {النساء} والحمد للّه. ولما لم يجعل اللّه له من العفة والنكاح درجة دل على أن ما عداهما محرم ولا يدخل فيه ملك اليمين لأنه بنص آخر مباح وهو قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهم} فجاءت فيه زيادة ويبقى على التحريم الاستمناء ردا على أحمد. وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه وقد تقدم هذا في [المؤمنون].

قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب} {الذين} في موضع رفع. وعند الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل؛ لأن بعده أمرا. ولما جرى ذكر العبيد والإماء فيما سبق وصل به أن العبد إن طلب الكتاب فالمستحب كتابته؛ فربما يقصد بالكتابة أن يستقل ويكتسب ويتزوج إذا أراد، فيكون أعف له. قيل: نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له صبح –

وقيل صبيح - طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى؛ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها، وقتل بحنين في الحرب؛ ذكره القشيري وحكاه النقاش. وقال مكي: هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة. وعلى الجملة فإن اللّه تعالى أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه خيرا.

الكتاب والمكاتبة سواء؛ مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين، لأنها معاقدة بين السيد وعبده؛ يقال: كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة، كما يقال: قاتل قتالا ومقاتلة. فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع.

وقيل: الكتاب ها هنا هو الكتاب المعروف الذي يكتب فيه الشيء وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابا. فالمعنى يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم.

معنى المكاتبة في الشرع: هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما عليه؛ فإذا أداه فهو حر. ولها حالتان:

الأولى: أن يطلبها العبد ويجيبه السيد؛ فهذا مطلق الآية وظاهرها.

الثانية: أن يطلبها العبد ويأباها السيد؛ وفيها قولان:

الأول: لعكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم وجماعة أهل الظاهر أن ذلك واجب على السيد.

وقال علماء الأمصار: لا يجب ذلك. وتعلق من أوجبها بمطلق الأمر، وأفعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره.

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبري. واحتج داود أيضا بأن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك الكتابة وهو مولاه فأبى أنس؛ فرفع عمر عليه الدرة، وتلا: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا}، فكاتبه أنس. قال داود: وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله. وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن. وكذلك لو قال له أعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك بإجماع، فكذلك الكتابة؛ لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض. وقولهم: مطلق الأمر يقتضي الوجوب صحيح، لكن إذا عري عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه؛ فعلق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخيرية. وإذا قال العبد: كاتبني؛ وقال السيد: لم أعلم فيك خيرا؛ وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه ويعول عليه. وهذا قوي في بابه.

واختلف العلماء في قوله تعالى: {خيرا} فقال ابن عباس وعطاء: المال. مجاهد: المال والأداء. والحسن والنخعي: الدين والأمانة.

وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون هو القوة على الاكتساب والأداء. وعن الليث نحوه، وهو قول الشافعي.

وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة والخير. قال الطحاوي: وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال.

والمعنى عندنا: إن علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم. وقال أبو عمر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالا، وإنما يقال: علمت فيه الخير والصلاح والأمانة؛ ولا يقال: علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال.

قلت: وحديث بريرة يرد قول من قال: إن الخير المال؛ على ما يأتي.

اختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له؛ فكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: أتأمرني أن آكل أوساخ الناس؛ ونحوه عن سلمان الفارسي.

وروى حكيم بن حزام فقال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد: أما بعد فإنه مَن قِبَلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس. وكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق. ورخص في ذلك مالك وأبو حنيفة والشافعي.

وروي عن علي رضي اللّه عنه أن ابن التياح مؤذنه قال له: أكاتب وليس لي مال؟ قال نعم؛ ثم حض الناس على الصدقة عليّ؛ فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي، فأتيت عليا فقال: اجعلها في الرقاب.

وقد روي عن مالك كراهة ذلك، وأن الأمة التي لا حرفة لها يكره مكاتبتها لما يؤدي إليه من فسادها. والحجة في السنة لا فيما خالفها.

روى الأئمة عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين كل سنة أوقية، فأعينيني.. .) الحديث. فهذا دليل على أن للسيد أن يكاتب عبده وهو لا شيء معه؛ ألا ترى أن بريرة جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن تؤدي منها شيئا؛ كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا؛ أخرجه البخاري وأبو داود.

وفي هذا دليل على جواز كتابة الأمة، وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، ولم يسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم هل لها كسب أو عمل واصب أو مال، ولو كان هذا واجبا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بعث مبينا معلما صلى اللّه عليه وسلم. وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأول في قوله تعالى: {إن علمتم فيهم خيرا} أن المال الخير، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة. واللّه أعلم.

الكتابة تكون بقليل المال وكثيره، وتكون على أنجم؛ لحديث بريرة. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد للّه. فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلا نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد.

قال الشافعي: لا بد فيها من أجل؛ وأقلها ثلاثة أنجم.

واختلفوا إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد.

وقال الشافعي: لا تجوز على نجم واحد، ولا تجوز حالة البتة، وإنما ذلك عتق على صفة؛ كأنه قال: إذا أديت كذا وكذا فأنت حر وليست كتابة. قال ابن العربي:

اختلف العلماء والسلف في الكتابة إذا كانت حالة على قولين، واختلف قول علمائنا كاختلافهم. والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة؛ كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية، وكما فعلت الصحابة؛ ولذلك سميت كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها، فقد استوسق الاسم والأثر، وعضده المعنى؛ فإن المال إن جعله حالا وكان عند العبد شيء فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة لا عقد كتابة.

وقال ابن خويز منداد: إذا كاتبه على مال معجل كان عتقا على مال، ولم تكن كتابة. وأجاز غيره من أصحابنا الكتابة الحالة وسماها قطاعة، وهو القياس؛ لأن الأجل فيها إنما هو فسحة للعبد في التكسب. ألا ترى أنه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه. وتجوز الكتابة الحالة؛ قاله الكوفيون.

قلت: لم يرد عن مالك نص في الكتابة الحالة؛ والأصحاب يقولون: إنها جائزة، ويسمونها قطاعة.

وأما قول الشافعي إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح؛ لأنه لو كان صحيحا لجاز لغيره أن يقول: لا يجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأنها أقل النجوم التي كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بريرة، وعلم بها النبي صلى اللّه عليه وسلم وقضى فيها، فكان بصواب الحجة أولى.

روى البخاري عن عائشة أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين...) الحديث. كذا قال الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين.

وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق...) الحديث. وظاهر الروايتين تعارض، غير أن حديث هشام أولى لاتصاله وانقطاع حديث يونس؛ لقول البخاري: وقال الليث حدثني يونس؛ ولأن هشاما أثبت في حديث أبيه وجده من غيره، واللّه أعلم.

المكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء؛ لقوله عليه السلام: (المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم).

أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وروي عنه أيضا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد).

وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري.

وروي ذلك عن ابن عمر من وجوه، وعن زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة، لم يختلف عنهم في ذلك رضي اللّه عنهم.

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء. قال مالك: وكل من أدركنا ببلدنا يقول ذلك. وفيها قول آخر روي عن علي أنه إذا أدى الشطر فهو غريم؛ وبه قال النخعي.

وروي ذلك عن عمر رضي اللّه عنه، والإسناد عنه بأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، خير من الإسناد عنه بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه؛ فال أبو عمر. وعن علي أيضا يعتق منه بقدر ما أدى. وعنه أيضا أن العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه. وقال ابن مسعود: إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم؛ وهذا قول شريح. وعن ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة دينار فأدى العبد المائة التي هي قيمته عتق؛ وهو قول النخعي أيضا. وقول سابع: إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقي الربع فهو غريم ولا يعود عبدا قاله عطاء بن أبي رباح، رواه ابن جريج عنه. وحكي عن بعض السلف أنه بنفس عقد الكتابة حر، وهو غريم بالكتابة ولا يرجع إلى الرق أبدا. وهذا القول يرده حديث بريرة لصحته عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وفيه دليل واضح على أن المكاتب عبد، ولولا ذلك ما بيعت بريرة، ولو كان فيها شيء من العتق ما أجاز بيع ذلك؛ إذ من سنته المجمع عليها ألا يباع الحر. وكذلك كتابة سلمان وجويرية؛ فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا الكتابة. وهي حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء. وقد ناظر علي بن أبي طالب زيد بن ثابت في المكاتب؛ فقال لعلي: أكنت راجمه لو زنى، أو مجيزا شهادته لو شهد؟ فقال علي لا. فقال زيد: هو عبد ما بقي عليه شيء.

وقد روى النسائي عن علي وابن عباس رضي اللّه عنهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسم أنه قال:

(المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما أدى ويرث بقدر ما عتق منه). وإسناده صحيح. وهو حجة لما روي عن علي، ويعتضد بما رواه أبو داود عن نبهان مكاتب أم سلمة قال سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه). وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. إلا أنه يحتمل أن يكون خطابا مع زوجاته، أخذا بالاحتياط والورع في حقهن؛ كما قال لسودة: (احتجبي منه) مع أنه قد حكم بأخوتها له، وبقوله لعائشة وحفصة: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه) يعني ابن أم مكتوم، مع أنه قال لفاطمة بنت قيس: (اعتدي عند ابن أم مكتوم) وقد تقدم هذا المعنى.

أجمع العلماء على أن المكاتب إذا حل عليه نجم من نجومه أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحال أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك ثابتين.

قال مالك: ليس للعبد أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال فذلك إليه. وقال الأوزاعي: لا يمكن من تعجيز نفسه إذا كان قويا على الأداء.

وقال الشافعي: له أن يعجز نفسه، علم له مال أو قوة على الكتابة أو لم يعلم؛ فإذا قال: قد عجزت وأبطلت الكتابة فذلك إليه.

وقال مالك: إذا عجز المكاتب فكل ما قبضه منه سيده قبل العجز حل له، كان من كسبه أو من صدقة عليه. وأما ما أعين به على فكاك رقبته فلم يف ذلك بكتابته كان لكل من أعانه الرجوع بما أعطى أو تحلل منه المكاتب. ولو أعانوه صدقة لا على فكاك رقبته فذلك إن عجز حل لسيده ولو تم به فكاكه وبقيت منه فضلة. فإن كان بمعنى الفكاك ردها إليهم بالحصص أو يحللونه منها. هذا كله مذهب مالك فيما ذكر ابن القاسم.

وقال أكثر أهل العلم: إن ما قبضه السيد منه من كتابته، وما فضل بيده بعد عجزه من صدقة أو غيرها فهو لسيده، يطيب له أخذ ذلك كله. هذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما وأحمد بن حنبل، ورواية عن شريح. وقال الثوري: يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب؛ وهو قول مسروق والنخعي، ورواية عن شريح.

وقالت طائفة: ما قبض منه السيد فهو له، وما فضل بيده بعد العجز فهو له دون سيده؛ وهذا قول بعض من ذهب إلى أن العبد يملك. وقال إسحاق: ما أعطي بحال الكتابة رد على أربابه.

حديث بريرة على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدمت.

واختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك. وقد ترجم البخاري (باب بيع المكاتب إذا رضي). وإلى جواز بيعه للعتق إذا رضي المكاتب بالبيع ولو لم يكن عاجزا، ذهب ابن المنذر والداودي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر، وبه قال ابن شهاب وأبو الزناد وربيعة غير أنهم قالوا: لأن رضاه بالبيع عجز منه.

وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال؛ وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: بيعه جائز وأما بيع كتابته فغير جائزة.

وأجاز مالك بيع الكتابة؛ فإن أداها عتق وإلا كان رقيقا لمشتري الكتابة. ومنع من ذلك أبو حنيفة؛ لأنه بيع غرر.

واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة.

وقالت طائفة: يجوز بيع المكاتب على أن يمضي في كتابته؛ فإن أدى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه، ولو عجز فهو عبد له. وبه قال النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور. وقال الأوزاعي: لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه؛ وهو قول أحمد وإسحاق. قال أبو عمر: في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضي بالبيع ولم يكن عاجزا عن أداء نجم قد حل عليه؛ بخلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز؛ لأن بريرة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم، ولا أخبرت بأن النجم قد حل عليها، ولا قال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم أعاجزة أنت أم هل حل عليك نجم. ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلا بالعجز عن أداء ما قد حل لكان النبي صلى اللّه عليه وسلم قد سألها أعاجزة هي أم لا، وما كان ليأذن في شرائها إلا بعد علمه صلى اللّه عليه وسلم أنها عاجزة ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها. وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئا. ولا أعلم في هذا الباب حجة أصح من حديث بريرة هذا، ولم يرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم شيء يعارضه، ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها. استدل من منع من بيع المكاتب بأمور: منها أن قالوا إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وأن قولها كاتبت أهلي معناه أنها راودتهم عليها، وقدروا مبلغها وأجلها ولم يعقدوها. وظاهر الأحاديث خلاف هذا إذا تؤمل مساقها.

وقيل: إن بريرة عجزت عن الأداء فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة، وحينئذ صح البيع؛ إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق العبد والسيد عليه؛ لأن الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف. وقال سحنون: لا بد من السلطان؛ وهذا إنما خاف أن يتواطأ على ترك حق اللّه تعالى. ويدل على صحة أنها عجزت ما روي أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا؛ فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت. فظاهر هذا أن جميع كتابتها أو بعضها استحق عليها؛ لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، واللّه أعلم. هذه التأويلات أشبه ما لهم وفيها من الدخل ما بيناه. وقال ابن المنذر: ولا أعلم حجة لمن قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول لعل بريرة عجزت.

قال الشافعي: وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه.

المكاتب إذا أدى كتابته عتق ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد. كذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته، يعتقون بعتقه ويرقون برقه؛ لأن ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتبارا بالحر وكذلك ولد المكاتبة، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط.

قوله تعالى: {وآتوهم من مال اللّه الذي آتاكم} هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم - أعني أيدي السادة - أو يحطوا عنهم شيئا من مال الكتابة.

قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته. وقد وضع ابن عمر خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفا. واستحسن علي رضي اللّه عنه أن يكون ذلك ربع الكتابة. قال الزهراوي:

روي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. واستحسن ابن مسعود والحسن بن أبي الحسن ثلثها. وقال قتادة: عشرها. ابن جبير: يسقط عنه شيئا، ولم يحده؛ وهو قول الشافعي، واستحسنه الثوري.

قال الشافعي: والشيء أقل شيء يقع عليه اسم شيء، ويجبر عليه السيد ويحكم به الحاكم على الورثة إن مات السيد.

ورأى مالك رحمه اللّه تعالى هذا الأمر على الندب، ولم ير لقدر الوضعية حدا. احتج الشافعي بمطلق الأمر في قوله {وآتوهم}، ورأى أن عطف الواجب على الندب معلوم في القرآن ولسان العرب كما قال تعالى: {إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} [النحل: ٩٠] وما كان مثله.

قال ابن العربي: وذكره قبله إسماعيل بن إسحاق القاضي، جعل الشافعي الإيتاء واجبا، والكتابة غير واجبة؛ فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا، وهذا لا نظير له، فصارت دعوى محضة.

فإن قيل: يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه، منها المتعة.

قلنا: عندنا لا تجب المتعة فلا معنى لأصحاب الشافعي. وقد كاتب عثمان بن عفان عبده وحلف ألا يحطه...، في حديث طويل.

قلت: وقد قال الحسن والنخعي وبريدة إنما الخطاب بقوله {وآتوهم} للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين، وأن يعينوهم في فكاك رقابهم.

وقال زيد بن أسلم: إنما الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم؛ وهو الذي تضمنه قوله تعالى {وفي الرقاب}.

وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئا عن مكاتبه. ودليل هذا أنه لو أراد حط شيء من نجوم الكتابة لقال وضعوا عنهم كذا.

إذا قلنا: إن المراد بالخطاب السادة فرأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه، مبادرة إلى الخير خوفا ألا يدرك آخرها. ورأى مالك رحمه اللّه تعالى وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم. وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة. وهذا قول عبداللّه بن عمر وعلي. وقال مجاهد: يترك له من كل نجم.

قال ابن العربي: والأقوى عندي أن يكون في آخرها؛ لأن الإسقاط أبدا إنما يكون في أخريات الديون.

المكاتب إذا بيع للعتق رضا منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه لم يجب عليه أن يعطيه من ثمنه شيئا، سواء باعه لعتق أو لغير عتق، وليس ذلك كالسيد يؤدي إليه مكاتب كتابته فيؤتيه منها أو يضع عنه من آخرها نجما أو ما شاء؛ على ما أمر اللّه به في كتابه لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يأمر موالي بريرة بإعطائها مما قبضوا شيئا، وإن كانوا قد باعوها للعتق.

اختلفوا في صفة عقد الكتابة؛ فقال ابن خويز منداد: صفتها أن يقول السيد لعبده كاتبتك على كذا وكذا من المال، في كذا وكذا نجما، إذا أديته فأنت حر. أو يقول له أد إلي ألفا في عشرة أنجم وأنت حر. فيقول العبد قد قبلت ونحو ذلك من الألفاظ؛ فمتى أداها عتق. وكذلك لو قال العبد كاتبني، فقال السيد قد فعلت، أو قد كاتبتك.

قال ابن العربي: وهذا لا يلزم لأن لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له؛ فإن ذكره فحسن، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه. ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، وقد ذكرنا من أصوله جملة، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، واللّه الموفق للّهداية.

في ميراث المكاتب؛ واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال

[فمذهب مالك] أن المكاتب إذا هلك وترك مالا أكثر مما بقي عليه من كتابته وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم، ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته؛ لأن حكمهم كحكمه، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالا، ولا يعتقون إلا بعتقه، ولو أدى عنهم ما رجع بذلك عليهم؛ لأنهم يعتقون عليه؛ فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله.

والقول الثاني: أنه يؤدى عنه من مال جميع كتابته، وجعل كأنه قد مات حرا، ويرثه جميع ولده وسواء في ذلك من كان حرا قبل موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنهم كتابتهم.

روي هذا القول عن علي وابن مسعود ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي، وإليه ذهب إسحاق.

والقول الثالث: أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته؛ لأنه لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا وماله لسيده، فلا يصح عتقه بعد موته؛ لأنه محال أن يعتق عبد بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعوا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدوا عتقوا لأنهم كانوا فيها تبعا لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا.

هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبدالعزيز والزهري وقتادة.

قوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا} روي عن جابر بن عبداللّه وابن عباس رضي اللّه عنهم أن هذه الآية نزلت في عبداللّه بن أبيّ، وكانت له جاريتان

إحداهما تسمى معاذة

والأخرى مسيكة، وكان يكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد فشكتا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين. ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي صلى اللّه عليه وسلم في زوجها. وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبداللّه بن أبيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه عز وجل {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء - إلى قوله - غفور رحيم}. {إن أردن تحصنا} راجع إلى الفتيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الإكراه. وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزني. فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه.

وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فقال: إنما ذكر اللّه تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه؛ فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصلوه. وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين؛

فقال بعضهم قوله: {إن أردن تحصنا} راجع إلى الأيامى، قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنا.

وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: {إن أردن} ملغى، ونحو ذلك مما يضعف واللّه الموفق.

قوله تعالى: {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} أي الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها والولد يسترق فيباع.

وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها. {ومن يكرههن} أي يقهرهن.

{فإن اللّه من بعد إكراههن غفور} لهن {رحيم} بهن.

وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبداللّه وابن جبير {لهن غفور} بزيادة لهن. وقد مضى الكلام في الإكراه في {النحل} والحمد للّه. ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه.

٣٥

النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالبصر. واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه: كلام له نور. ومنه: الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر:

نسب كأن عليه من شمس الضحا نورا ومن فلق الصباح عمودا

والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. وقال:

فإنك شمس والملوك كواكب

وقال آخر:

هلا خصصت من البلاد بمقصد قمر القبائل خالد بن يزيد

وقال آخر:

إذا سار عبد اللّه من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها

فيجوز أن يقال: للّه تعالى نور من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام. وهذا كله محال على اللّه تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف في موضعه من علم الكلام. ثم إن قولهم متناقض؛ فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك، وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور؛ وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام. والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية، وقول عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد

(اللّهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض). وقال عليه السلام وقد سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: (رأيت نورا). إلى غير ذلك من الأحاديث.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن؛ كما يقال: الملك نور أهل البلد؛ أي به قوام أمرها وصلاح جملتها؛ لجريان أموره على سنن السداد. فهو في الملك مجاز، وهو في صفة اللّه حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا؛ لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك وتعالى لا رب غيره. قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منور السموات والأرض. وكذا قال الضحاك والقرظي. كما يقولون: فلان غياثنا؛ أي مغيثنا. وفلان زادي؛ أي مزودي. قال جرير:

وأنت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريق

أي ذو ورق. وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض. أبيّ بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس: المعنى اللّه هادي أهل السموات والأرض. والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل.

قوله تعالى: {مثل نوره} أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن؛ والدلائل تسمى نورا. وقد سمى اللّه تعالى كتابه نورا فقال:

{وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [النساء: ١٧٤] وسمى نبيه نورا فقال:

{قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين} [المائدة: ١٥]. وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى اللّه تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها. وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مثل نور اللّه الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس؛ فمثل نور اللّه في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. والمشكاة: الكوة في الحائط غير النافذة؛ قال ابن جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء. والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء؛ وهو على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر:

كأن عينيه مشكاتان في حجر قيضا اقتياضا بأطراف المناقير

وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: هي القنديل.

وقال {في زجاجة} لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج. والمصباح: الفتيل بناره {كأنها كوكب دري} أي في الإنارة والضوء. وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور. قال الضحاك: الكوكب الدري هو الزهرة.

قوله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة} أي من زيت شجرة، فحذف المضاف. والمبارة المنماة؛ والزيتون من أعظم الثمار نماء، والرمان كذلك. والمعنى يقتضي ذلك. وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبدشمس:

ليت شعري مسافر بن أبي عمـ رو وليت يقولها المحزون

بورك الميت الغريب كما بو رك نبع الرمان والزيتون

وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها. وقال ابن عباس: في الزيتونة منافع، يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وتفله، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة، حتى الرماد يغسل به الإبريسم. وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبيا بالبركة؛ منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه قال: (اللّهم بارك في الزيت والزيتون). قاله مرتين.

قوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} اختلف العلماء في قوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم: الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت لأن لها سترا. والغربية عكسها؛ أي أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وهو أجود لزيتها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية. وقال الطبري عن ابن عباس: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها؛ فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب.

قال ابن عطية: وهذا قول لا يصح عن ابن عباس لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها وذلك مشاهد في الوجود. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه اللّه تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. الثعلبي: وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا؛ لأنها بدل من الشجرة، فقال {زيتونة}.

وقال ابن زيد: إنها من شجر الشأم؛ فإن شجر الشأم لا شرقي ولا غربي، وشجر الشأم هو أفضل الشجر، وهي الأرض المباركة، و{شرقية} نعت {لزيتونة} و{لا} ليست تحول بين النعت والمنعوت، {ولا غربية} عطف عليه.

قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} مبالغة في حسنه وصفائه وجودته.

{نور على نور} أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور. واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون فكذلك براهين اللّه تعالى واضحة وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه؛ كإرساله الرسل وإنزاله الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر. ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده، وذكر تفضله لعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان. وقرأ عبداللّه بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبدالرحمن السلمي {اللّه نور} بفتح النون والواو المشددة.

واختلف المتأولون في عود الضمير في {نوره} على من يعود؛ فقال كعب الأحبار وابن جبير: هو عائد على محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ أي مثل نور محمد صلى اللّه عليه وسلم.

قال ابن الأنباري: {اللّه نور السموات والأرض} وقف حسن، ثم تبتدئ {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} على معنى نور محمد صلى. وقال أبي بن كعب وابن جبير أيضا والضحاك: هو عائد على المؤمنين. وفي قراءة أبيّ {مثل نور المؤمنين}.

وروي أن في قراءته {مثل نور المؤمن}.

وروي أن فيها {مثل نور من آمن به}. وقال الحسن: هو عائد على القرآن والإيمان. قال مكي: وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله: {والأرض}.

قال ابن عطية: وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل فعلى من قال: الممثل به محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهو قول كعب الحبر؛ فرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو المشكاة أو صدره والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي، والملائكة رسل اللّه إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي. ومن قال: الممثل به المؤمن، وهو قول أبيّ؛ فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها. قال أبيّ: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات. ومن قال: إن الممثل به هو القرآن والإيمان؛ فتقدير الكلام: مثل نوره الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة؛ أي كهذه الجملة. وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين؛ لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان.

وقالت طائفة: الضمير في {نوره} عائد على اللّه تعالى. وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي والمهدوي، وقد تقدم معناه. ولا يوقف على هذا القول على {الأرض}.

قال المهدوي: الهاء للّه عز وجل؛ والتقدير: اللّه هادي أهل السموات والأرض، مثل هداه في قلوب المؤمنين كمشكاة؛

وروي ذلك عن ابن عباس. وكذلك قال زيد بن أسلم، والحسن: إن الهاء للّه عز وجل. وكان أبيّ وابن مسعود يقرآنها {مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة}. قال محمد بن علي الترمذي: فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره قلب المؤمن، وتصديقه في آية أخرى يقول: {أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر: ٢٢].

واعتل الأولون بأن قالوا: لا يجوز أن يكون الهاء للّه عز وجل؛ لأن اللّه عز وجل لا حدّ لنوره. وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمر الدوري الألف من {مشكاة} وكسر الكاف التي قبلها. وقرأ نصر بن عاصم {زجاجة} بفتح الزاي و{الزجاجة} كذلك، وهي لغة. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم {دري} بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله دريء مهموز، فعيل من الدرء وهو الدفع، وخففت الهمزة. ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها: الدراري، بغير همز فلعلهم خففوا الهمزة، والأصل من الدرء الذي هو الدفع. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم {دريء} بالهمز والمد، وهو فعيل من الدرء؛ بمعنى أنها يدفع بعضها بعضا. وقرأ الكسائي وأبو عمرو {دريء} بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع؛ مثل السكير والفسيق. قال سيبويه: أي يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه. قال النحاس: وضعف أبو عبيد قراءة أبي عمرو والكسائي تضعيفا شديدا، لأنه تأولها من درأت أي دفعت؛ أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق. وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب؛ ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من بني آدم. ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبي عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك: كوكب مندفع بالنور؛ كما يقال: اندرأ الحريق أن اندفع. وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا. وقال الجوهري في الصحاح: ودرأ علينا فلان يدرأ دروءا أي طلع مفاجأة. ومنه كوكب دريء، على فعيل؛ مثل سكير وخمير؛ لشدة توقده وتلألئه. وقد درأ الكوكب دروءا.

قال أبو عمرو بن العلاء: سألت رجلا من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟ قال: الدريء، وكان من أفصح الناس. قال النحاس: فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا قالوا: هي لحن لا تجوز، لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعيل. وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعيل وإنما هو فعول، مثل سبوح، أبدل من الواو ياء؛ كما قالوا: عتي.

قال أبو جعفر النحاس: وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشده؛ لأن هذا لا يجوز البتة، ولو جاز ما قال لقيل في سبوح سبيح، وهذا لا يقوله أحد، وليس عتي من هذا، والفرق بينهما واضح بين؛ لأنه ليس يخلو عتي من إحدى جهتين: إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما، لأن الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفا في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء. وإن كان عتي واحدا كان بالواو أولى، وجاز قلبها لأنها طرف، والواو في فعول ليست طرفا فلا يجوز قلبها. قال الجوهري: قال أبو عبيد إن ضممت الدال قلت دري، يكون منسوبا إلى الدر، على فعلي ولم تهمزه لأنه ليس في كلام العرب فعيل. ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولا مثل سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر. وحكى الأخفش عن بعضهم {دريء} من درأته، وهمزها وجعلها على فعيل مفتوحة الأول. قال: وذلك من تلألئه. قال الثعلبي:

وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء {دريء} بفتح الدال مهموزا. قال أبو حاتم: هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل؛ فإن صح عنهما فهما حجة. {يوقد} قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص {يوقد} بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال.

وقرأ الحسن والسلمي وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري {توقد} مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف، واختارها أبو حاتم وأبو عبيد. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان؛ لأنهما جميعا للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف؛ لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. و{توقد} فعل ماض من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد.

وقرأ نصر بن عاصم {توقد} والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدل عليها. وقرأ الكوفيون {توقد} بالتاء يعنون الزجاجة. فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة.

قوله تعالى: {من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية} تقدم القول فيه.

{يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور} على تأنيث النار. وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ {ولو لم يمسسه نار} بالياء. قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث عنده. وقال ابن عمر: المشكاة جوف محمد صلى اللّه عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله اللّه تعالى في قلبه يوقد شجرة مباركة؛ أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته؛ فأوقد اللّه تعالى في قلب محمد صلى اللّه عليه وسلم النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام. وقال محمد بن كعب: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلوات اللّه عليهم أجمعين؛ سماه اللّه تعالى مصباحا كما سماه سراجا فقال: {وداعيا إلى اللّه بإذنه وسراجا منيرا} [الأحزاب: ٤٦] يوقد من شجرة مباركة وهي آدم عليه السلام، بورك في نسله وكثر منه الأنبياء والأولياء.

وقيل: هي إبراهيم عليه السلام، سماه اللّه تعالى مباركا لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه. {لا شرقية ولا غربية} أي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما. وإنما قال ذلك لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي فبل المشرق.

{يكاد زيتها يضيء} أي يكاد محاسن محمد صلى اللّه عليه وسلم تظهر للناس قبل أن أوحى اللّه تعالى إليه.

{نور على نور} نبي من نسل نبي. وقال الضحاك: شبه عبدالمطلب بالمشكاة وعبداللّه بالزجاجة والنبي صلى اللّه عليه وسلم بالمصباح كان في قلبهما، فورث النبوة من إبراهيم.

{من شجرة} أي شجرة التقى والرضوان وعشيرة الهدى والإيمان، شجرة أصلها نبوة، وفرعها مروءة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: ومن غريب الأمر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه اللّه تعالى لإبراهيم ومحمد ولعبدالمطلب وابنه عبداللّه؛ فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، فشبه عبدالمطلب بالمشكاة فيها القنديل وهو الزجاجة، وشبه عبداللّه بالقنديل وهو الزجاجة؛ ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما، وكأنه كوكب دري وهو المشتري

{يوقد من شجرة مباركة} يعني إرث النبوة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة، يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية.

{يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} يقول: يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحي إليه.

{نور على نور} إبراهيم ثم محمد صلى اللّه عليه وسلم. قال القاضي: وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه.

قلت: وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول، وأن هذا مثل ضربه اللّه تعالى لنوره، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه لأن الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عرف اللّه إلا اللّه وحده، قاله ابن العربي.

قال ابن عباس: هذا مثل نور اللّه وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار زاد ضوءه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم زاده هدى على هدى ونورا على نور؛ كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة: {هذا ربي}، من قبل أن يخبره أحد أن له ربا؛ فلما أخبره اللّه أنه ربه زاد هدى، فقال له ربه:

{أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: ١٣١].

ومن قال إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال: كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص فالمصباح القرآن والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة لسانه وفهمه والشجرة المباركة شجرة الوحي.

{يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ.

{نور على نور} يعني أن القرآن نور من اللّه تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور. ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز وأنه لا يناله إلا من أراد اللّه هداه فقال:

{يهدي اللّه لنوره من يشاء ويضرب اللّه الأمثال للناس} أي يبين الأشباه تقريبا إلى الأفهام.

{واللّه بكل شيء عليم} أي بالمهدي والضال.

وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يخلص نور اللّه تعالى من دون السماء فضرب اللّه تعالى ذلك مثلا لنوره.

٣٦

انظر تفسير الآية:٣٨

٣٧

انظر تفسير الآية:٣٨

٣٨

قوله تعالى: {في بيوت أذن اللّه أن ترفع} الباء في {بيوت} تضم وتكسر؛ وقد تقدم.

واختلف في الفاء من قول {في} فقيل: هي متعلقة {بمصباح}.

وقيل: بـ{يسبح له}؛ فعلى هذا التأويل يوقف على {عليم}. قال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب؛ كأنه قال وهي في بيوت.

وقال الترمذي الحكيم محمد بن علي: {في بيوت} منفصل، كأنه يقول: اللّه في بيوت أذن اللّه أن ترفع؛ وبذلك جاءت الأخبار أنه

(من جلس في المسجد فإنه يجالس ربه). وكذا ما جاء في الخبر فيما يحكى عن التوراة

(أن المؤمن إذا مشى إلى المسجد قال اللّه تبارك اسمه عبدي زارني وعلي قراه ولن أرضى له قرى دون الجنة).

قال ابن الأنباري: إن جعلت {في} متعلقة بـ{يسبح} أو رافعة للرجال حسن الوقف على قوله {واللّه بكل شيء عليم} [البقرة: ٢٨٢]. وقال الرماني: هي متعلقة بـ{يوقد} وعليه فلا يوقف على {عليم}.

فإن قيل: فما الوجه إذا كان البيوت متعلقة بـ{يوقد} في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت، ولا يكون مشكاة واحدة إلا في بيت واحد.

قيل: هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح: التوحيد ويختم بالجمع؛ كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: ١] ونحوه.

وقيل: رجع إلى كل واحد من البيوت.

وقيل: هو كقوله تعالى: {وجعل القمر فيهن نورا} [نوح:١٦] وإنما هو في واحدة منها.

واختلف الناس في البيوت هنا على خمسة أقوال:

الأول - أنها المساجد المخصوصة للّه تعالى بالعبادة، وأنها تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن.

الثاني: هي بيوت بيت المقدس؛ عن الحسن أيضا.

الثالث: بيوت النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ عن مجاهد أيضا.

الرابع: هي البيوت كلها؛ قاله عكرمة. وقوله: {يسبح له فيها بالغدو والآصال} يقوي أنها المساجد.

وقول خامس: أنها المساجد الأربعة التي لم يبنها إلا نبي: الكعبة وبيت أريحا ومسجد المدينة ومسجد قباء؛ قال ابن بريدة. وقد تقدم ذلك في [التوبة].

قلت: الأظهر القول الأول؛ لما رواه أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من أحب اللّه عز وجل فليحبني ومن أحبني فليحب أصحابي ومن أحب أصحابي فليحب القرآن ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإنها أفنية اللّه أبنيته أذن اللّه في رفعها وبارك فيها ميمونة ميمون أهلها محفوظة محفوظ أهلها هم في صلاتهم واللّه عز وجل في حوائجهم هم في مساجدهم واللّه من ورائهم).

قوله تعالى: {أذن اللّه أن ترفع} {أذن} معناه أمر وقضي. وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر؛ فإن اقترن بذلك أمر وإنقاذ كان أقوى.

و{ترفع} قيل: معناه تبنى وتعلى؛ قال مجاهد وعكرمة. ومنه قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} [البقرة:١٢٧] وقال صلى اللّه عليه وسلم:

(من بنى مسجدا من ماله بني اللّه له بيتا في الجنة).

وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تحض على بنيان المساجد. وقال الحسن البصري وغيره: معنى {ترفع} تعظم، ويرفع شأنها، وتطهر من الأنجاس والأقذار؛ ففي الحديث (إن المسجد لينزوي من النجاسة كما ينزوي الجلد من النار ).

وروى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه:

(من أخرج أذى من المسجد بنى اللّه له بيتا في الجنة).

وروي عن عائشة قالت: أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور وأن تطهر وتطيب.

إذا قلنا: إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش؟ اختلف في ذلك؛ فكرهه قوم وأباحه آخرون. فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس وقتادة عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(لا تقوم الساعة حتى تتباهى الناس في المساجد). أخرجه أبو داود. وفي البخاري - وقال أنس: (يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا).

وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.

وروى الترمذي الحكيم أبو عبداللّه في نوادر الأصول من حديث أبي الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم). احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد واللّه تعالى أمر بتعظيمها في قوله: {في بيوت أذن اللّه أن ترفع} يعني تعظم.

وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم بالساج وحسنه. قال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب.

وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه نقش مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته قبل خلافته، ولم ينكر عليه أحد ذلك. وذكر أن الوليد بن عبدالملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات.

وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه.

ومما تصان عنه المساجد وتنزه عنه الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغير ذلك على ما نبينه؛ وذلك من تعظيمها. وقد صح من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في غزوة تبوك:

(من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يأتين المساجد). وفي حديث جابر بن عبداللّه عن النبي صلى اللّه عليه سلم قال:

(من أكل من هذه البقلة الثوم) وقال مرة:

(من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في خطبته:

(ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ولا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا). خرجه مسلم في صحيحه.

قال العلماء: وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى به ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيها عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه لسوء صناعته، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه. وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة حتى تزول. وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها، من أكل الثوم وما في معناه، مما له رائحة كريهة تؤذي الناس. ولذلك جمع بين البصل والثوم والكراث، وأخبر أن ذلك مما يتأذى به. قال أبو عمر بن عبدالبر: وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبدالملك بن هشام رحمه اللّه أفتى في رجل شكاه جيرانه واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشوور فيه؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشاهد معهم الصلاة إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه، فذاكرته يوما أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول؛ فاستدل بحديث الثوم، وقال: هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد.

قلت: وفي الآثار المرسلة {إن الرجل ليكذب الكذبة فيتباعد عنه الملك من نتن ريحه}. فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقول بالباطل فإن ذلك يؤذي.

أكثر العلماء على أن المساجد كلها سواء؛ لحديث ابن عمر. وقال بعضهم: إنما خرج النهي على مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أجل جبريل عليه السلام ونزوله فيه؛ ولقوله في حديث جابر:

(فلا يقربن مسجدنا). والأول أصح، لأنه ذكر الصفة في الحكم وهي المسجدية، وذكر الصفة في الحكم تعليل.

وقد روى الثعلبي بإسناده عن أنس رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(يأتي اللّه يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجائب بيض قوائها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون وأنبياء مرسلون فينادي ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم) وفي التنزيل: {إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه} [التوبة: ١٨]. وهذا عام في كل مسجد. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) إن اللّه تعالى يقول: {إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر}) [التوبة: ١٨]. وقد تقدم.

وتصان المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الاشتغال؛ لقوله صلى اللّه عليه وسلم للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر:

(لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له). أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له). وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن. وكذا جاء مفسرا من حديث أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: مه مه؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(لا تزرموه دعوه). فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر اللّه والصلاة وقراءة القرآن).

أو كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. خرجه مسلم. ومما يدل على هذا من الكتاب قول الحق: {ويذكر فيها اسمه}. وقوله صلى اللّه عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السلمي:

(إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن). أو كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه، وحسبك وسمع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت! وكان خلف بن أيوب جالسا في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء فقام وخرج من المسجد وأجابه؛ فقيل له في ذلك فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا، فكرهت أن أتكلم اليوم.

روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة. قال: وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس حديث عبداللّه بن عمر وحديث حسن. قال محمد بن إسماعيل: رأيت محمدا وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب. وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد؛ وبه يقول أحمد وإسحاق.

وروي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام أتى على قوم يتبايعون في المسجد فجعل رداءه مخراقا، ثم جعل يسعى عليهم ضربا ويقول: يا أبناء الأفاعي، اتخذتم مساجد اللّه أسواقا هذا سوق الآخرة.

قلت: وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع. وهذا إذا كان بأجرة، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والوسخ؛ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر صلى اللّه عليه وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال:

(جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وأجمروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر).

في إسناده العلاء بن كثير الدمشقي مولى بني أمية، وهو ضعيف عندهم؛ ذكره أبو أحمد بن عدي الجرجاني الحافظ. وذكر أبو أحمد أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين فرأى خياطا في ناحية المسجد فأمر بإخراجه؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه يكنس المسجد ويغلق الأبواب ويرش أحيانا. فقال عثمان: إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(جنبوا صناعكم من مساجدكم). هذا حديث غير محفوظ، في إسناده محمد بن مجيب الثقفي، وهو ذاهب الحديث.

قلت: ما ورد في هذا المعنى وإن كان طريقه لينا فهو صحيح معنى؛ يدل على صحته ما ذكرناه قبل.

قال الترمذي: وقد روي عن بعض أهل العالم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد.

وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد.

قلت: أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا. والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على اللّه عز وجل أو على رسوله صلى اللّه عليه وسلم أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها؛ كقول القائل:

طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا وذريني لست أبغي غير ربي أحدا

فهو أنسي وجليسي ودعي الناس فما إن تجدي من دونه ملتحدا

وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك؛ لقوله تعالى: {قي بيوت أذن اللّه أن ترفع}. وقد يجوز إنشاده في المسجد؛ كقول القائل:

كفحل العداب القرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا

وقول الآخر:

إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز؛ لأنه خال عن الفواحش والكذب. وسيأتي ذكر الأشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في {الشعراء} إن شاء اللّه تعالى.

وقد روي الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: ذكر الشعراء عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال:

(هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح). وفي الباب عن عبداللّه بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ذكره في السنن.

قلت: وأصحاب الشافعي يأثرون هذا الكلام عن الشافعي وأنه لم يتكلم به غيره؛ وكأنهم لم يقفوا على الأحاديث في ذلك. واللّه أعلم.

وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضي مصلحة للرافع صوته دعي عليه بنقيض قصده؛ لحديث بريرة المتقدم، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها اللّه عليك فإن المساجد لم تبن لهذا). وإلى هذا ذهب مالك وجماعة، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره.

وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت في الخصومة والعلم؛ قالوا: لأنهم لا بد لهم من ذلك. وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم: لا بد لهم من ذلك، ممنوع، بل لهم بد من ذلك لوجهين: أحدهما: بملازمة الوقار والحرمة، وبإحضار ذلك بالبال والتحرز من نقيضه. والثاني: أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعا يخصه، كما فعل عمر حيث بنى رحبة تسمي البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا - يعني في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فليخرج إلى هذه الرحبة. وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، ولذلك بنى البطيحاء خارجه.

وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له فجائز؛ لأن في البخاري - وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عكل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فكانوا في الصفة، وقال عبدالرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة فقراء.

وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم.

لفظ البخاري: وترجم [باب نوم المرأة في المسجد] وأدخل حديث عائشة في قصة السوداء التي اتهمها أهلها بالوشاح، قالت عائشة: وكان لها خباء في المسجد أو حفش...) الحديث. ويقال: كان مبيت عطاء بن أبي رباح في المسجد أربعين سنة.

روى مسلم عن أحمد أو عن أبي أسيد قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللّهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللّهم إني أسألك من فضلك). خرجه أبو داود كذلك؛ إلا أنه زاد بعد قوله:

(إذا دخل أحدكم المسجد: فليسلم وليصل على النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم ليقل اللّهم افتح لي...) الحديث.

وروى ابن ماجه عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دخل المسجد قال:

(باسم اللّه والسلام على رسول اللّه اللّهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم اللّه والصلاة على رسول اللّه اللّهم اغفر لي ذنوبي وأفتح لي أبواب رحمتك وفضلك).

وروى عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وليقل اللّهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى اللّه عليه وسلم وليقل اللّهم اعصمني من الشيطان الرجيم).

وخرج أبو داود عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له بلغني أنك حدثت عن عبداللّه بن عمرو بن العاصي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال:

(أعوذ باللّه العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) قال نعم. قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم.

روى مسلم عن أبي قتادة أن رسول اللّه صلى عليه وسلم قال:

(إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) وعنه قال: دخلت المسجد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس، قال فجلست فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس)؟ فقلت: يا رسول اللّه، رأيتك جالسا والناس جلوس. قال:

(فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين).

قال العلماء: فجعل صلى اللّه عليه وسلم للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت، وهو ألا يجلس حتى يركع. وعامة العلماء على أن الأمر بالركوع على الندب والترغيب. وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب؛ وهذا باطل، ولو كان الأمر على ما قالوه لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ، ولا قائل به فيما أعلم، واللّه أعلم.

فإن قيل: فقد روى إبراهيم بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين فإن اللّه جاعل من ركعتيه في بيته خيرا)، وهذا يقتضي التسوية بين المسجد والبيت.

قيل: هذه الزيادة في الركوع عند دخول البيت لا أصل لها؛ قال ذلك البخاري. وإنما يصح في هذا حديث أبي قتادة الذي تقدم لمسلم، وإبراهيم هذا لا أعلم روى عنه إلا سعد بن عبدالحميد، ولا أعلم له إلا هذا الحديث الواحد؛ قاله أبو محمد عبدالحق.

روى سعيد بن زبان حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند رضي اللّه عنه قال: حمل تميم - يعني الداري - من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاما يقال له أبو البزاد فقام فنشط المقط وعلق القناديل وصب فيها الماء والزيت وجحل فيها الفتيل؛ فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بها تزهر؛ فقال: (من فعل هذا)؟ قالوا: تميم الداري يا رسول اللّه؛ فقال:

(نورت الإسلام نور اللّه عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها). قال نوفل بن الحارث: لي ابنة يا رسول اللّه تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت؛ فأنكحه إياها. زبان (بفتح الزاي والباء وتشديدا بنقطة واحدة من تحتها) ينفرد بالتسمي به سعيد وحده، فهو أبو عثمان سعيد بن زبان بن قائد بن زبان بن أبي هند، وأبو هند هذا مولى ابن بياضة حجام النبي صلى اللّه عليه وسلم. والمقط: جمع المقاط، وهو الحبل، فكأنه مقلوب القماط. واللّه أعلم.

وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: أول من أسرج في المساجد تميم الداري.

وروي عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلون عليه ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه وإن كنس غبار المسجد نقد الحور العين).

قال العلماء: ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع فيه، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد.

قوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال} اختلف العلماء في وصف اللّه تعالى المسبحين؛ فقيل: هم المراقبون أمر اللّه، الطالبون رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر اللّه شيء من أمور الدنيا. وقال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا. ورأى سالم بن عبداللّه أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال: هؤلاء الذين أراد اللّه بقول: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه}.

وروي ذلك عن ابن مسعود. وقرأ عبداللّه بن عامر وعاصم في رواية أبي بكر عنه والحسن {يسبح له فيها} بفتح الباء على ما لم يسم فاعله. وكان نافع وابن عمر وأبو عمرو وحمزة يقرؤون {يسبح} بكسر الباء؛ وكذلك روى أبو عمرو عن عاصم. فمن قرأ {يسبح} بفتح الباء كان على معنيين:

أحدهما أن يرتفع {رجال} بفعل مضمر دل عليه الظاهر؛ بمعنى يسبحه رجال؛ فيوقف على هذا على {الآصال}. وقد ذكر سيبويه مثل هذا. وأنشد:

ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح

المعنى: يبكيه ضارع. وعلى هذا تقول: ضرب زيد عمرو؛ على معنى ضربه عمرو. والوجه الآخر: أن يرتفع {رجال} بالابتداء، والخبر {في بيوت}؛ أي في بيوت أذن اللّه أن ترفع رجال. و{يسبح له فيها} حال من الضمير في {ترفع}؛ كأنه قال: أن ترفع؛ مسبحا له فيها، ولا يوقف على {الآصال} على هذا التقدير. ومن قرأ {يسبح} بكسر الباء لم يقف على {الآصال}؛ لأن {يسبح} فعل للرجال، والفعل مضطر إلى فاعله ولا إضمار فيه. وقد تقدم القول في {الغدو والآصال} في آخر {الأعراف} والحمد للّه وحده.

قوله: {يسبح له فيها} قيل: معناه يصلي. وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة؛ ويدل عليه قوله: {بالغدو والآصال}، أي بالغداة والعشي.

وقال أكثر المفسرين: أراد الصلاة المفروضة؛ فالغدو صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين؛ لأن اسم الآصال يجمعها.

روى أبو داود عن أبي أمامة أن رسول اللّه صلى عليه وسلم قال:

(من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحا لا ينصبه إلا إياه فأجره المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين). وخرج عن بريدة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللّه له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح). في غير الصحيح من الزيادة

(كما أن أحدكم لو زار من يحب زيارته لاجتهد في كرامته)؛ ذكره الثعلبي. وخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت اللّه ليقضي فريضة من فرائض اللّه كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة). وعنه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللّهم ارحمه اللّهم اغفر له اللّهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه).

في رواية: ما يحدث؟ قال: (يفسو أو يضرط). وقال حكيم بن زريق: قيل لسعيد بن المسيب أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ فقال: من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان؛ والجلوس في المسجد أحب إلي لأن الملائكة تقول: اللّهم اغفر له اللّهم أرحمه اللّهم تب عليه. وروي عن الحكم بن عمير صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(كونوا في الدنيا أضيافا واتخذوا المساجد بيوتا وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا التفكر والبكاء ولا تختلف بكم الأهواء. تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون). وقال أبو الدرداء لابنه: ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(إن المساجد بيوت المتقين ومن كانت المساجد بيته ضمن اللّه تعالى له الروح والراحة والجواز على الصراط).

وكتب أبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب: أن عليك بالمساجد فالزمها؛ فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء. وقال أبو إدريس الخولاني: المساجد مجالس الكرام من الناس.

وقال مالك بن دينار: بلغني أن اللّه تبارك وتعالى يقول:

(إني أهم بعذاب عبادي فأنظر إلى عمار المساجد وجلساء القرآن وولدان الإسلام فيسكن غضبي). وروي عنه عليه السلام أنه قال:

(سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحبها فلا تجالسوهم فليس للّه بهم حاجة).

وقال ابن المسيب: من جلس في مسجد فإنما يجالس ربه، فما حقه أن يقول إلا خيرا. وقد مضى من تعظيم المساجد وحرمتها ما فيه كفاية. وقد جمع بعض العلماء في ذلك خمس عشرة خصلة، فقال: من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوسا، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يسل فيه سهما ولا سيفا، ولا يطلب فيه ضالة، ولا يرفع فيه صوتا بغير ذكر اللّه تعالى، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصل، ولا يبصق، ولا يتنخم، ولا يتمخط فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن ينزه عن النجاسات والصبيان والمجانين، وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر اللّه تعالى ولا يغفل عنه. فإذا فعل هذه الخصال فقد أدى حق المسجد، وكان المسجد حرزا له وحصنا من الشيطان الرجيم. وفي الخبر

(أن مسجدا ارتفع بأهله إلى السماء يشكوهم إلى اللّه لما يتحدثون فيه من أحاديث الدنيا). وروي الدارقطني عن عامر الشعبي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر موت الفجأة). هذا يرويه عبدالكبير بن المعافي عن شريك عن العباس بن ذريح عن الشعبي عن أنس. وغيره يرويه عن الشعبي مرسلا، واللّه أعلم. وقال أبو حاتم: عبدالكبير بن معافي ثقة كان يعد من الأبدال. وفي البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلما). وخرج مسلم عن أنس قال قال وسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها). وعن أبي ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن).

وخرج أبو داود عن الفرج بن فضالة عن أبي سعد الحميري قال: رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على الحصير ثم مسحه برجله؛ فقيل له: لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول اللّه صلى عليه وسلم يفعله. فرج بن فضالة ضعيف، وأيضا فلم يكن في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حصر. والصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما بصق على الأرض ودلكه بنعله اليسرى، ولعل واثلة إنما أراد هذا فحمل الحصير عليه.

لما قال تعالى: {رجال} وخصهم بالذكر دل على أن النساء لا حظ لهن في المساجد؛ إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل. روى أبو داود عن عبداللّه رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها).

قوله تعالى: {لا تلهيهم} أي لا تشغلهم.

{تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه} خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة. فإن قيل: فلم كرر ذكر البيع والتجارة تشمله. قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقول:

{ولا بيع}. نظيره قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [الجمعة: ١١] قال الواقدي. وقال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون.

{عن ذكر اللّه} اختلف في تأويله؛ فقال عطاء: يعني حضور الصلاة؛ وقال ابن عباس، وقال: المكتوبة.

وقيل عن الأذان؛ ذكره يحيى بن سلام.

وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى؛ أي يوحدونه ويمجدونه. والآية نزلت في أهل الأسواق؛ قال ابن عمر. قال سالم: جاز عبداللّه بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال: فيهم نزلت: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع} الآية. وقال أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه.

وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم، أحدهما بياعا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعا، وإن كان بالأرض لم يرفعه. وكان الآخر قينا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان؛ فأنزل اللّه تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من اقتدى بهما.

قوله تعالى: {وإقام الصلاة} هذا يدل على أن المراد بقوله {عن ذكر اللّه} غير الصلاة؛ لأنه يكون تكرارا. يقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل إقواما فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها؛ ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، ووزن زنة، فلا يجوز حذف الهاء، لأنك قد حذفت واوا؛ لأن الأصل وعد وعدة، ووزن وزنة، فإن أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء:

إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف.

وروي من حديث أنس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(يأتي اللّه يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو أنبياء مرسلون فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم). وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال:

(يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، يعمرون مساجدهم وهي من ذكر اللّه خراب، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود) يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا.

قوله تعالى: {وإيتاء الزكاة} قيل: الزكاة المفروضة؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة اللّه تعالى والإخلاص؛ إذ ليس لكل مؤمن مال.

{يخافون يوما} يعني يوم القيامة. {تتقلب فيه القلوب والأبصار} يعني من هوله وحذر الهلاك. والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم. فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج. وأ

ما تقلب الأبصار فالزرق بعد الكحل والعمى بعد البصر. وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم.

وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين؛ وذلك مثل قوله تعالى: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق:٢٢] فما كان يراه في الدنيا غيا يراه رشدا؛ إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة.

وقيل: تقلب على جمر جهنم كقوله تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار} [الأحزاب: ٦٦]، {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} [الأنعام: ١١٠]. في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار.

وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة.

وقيل إن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال.

{ليجزيهم اللّه أحسن ما عملوا} فذكر الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازي عليها لأمرين:

أحدهما: أنه ترغيب، فاقتصر على ذكر الرغبة.

الثاني: أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر؛ فكانت صغائرهم مغفورة. {ويزيدهم من فضله} يحتمل وجهين:

أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها.

الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء.

{واللّه يرزق من يشاء بغير حساب} أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه؛ إذ لا نهاية لعطائه.

وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببناء مسجد قباء، فحضر عبداللّه بن رواحة فقال: يا رسول اللّه، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: (نعم يا ابن رواحة) قال: وصلى فيها قائما وقاعدا؟ قال: (نعم يا ابن رواحة) قال: ولم يبت للّه إلا ساجدا؟ قال: (نعم يا ابن رواحة كف عن السجع فما أعطي عبد شرا من طلاقة في لسانه)؛ ذكره الماوردي.

٣٩

قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} لما ضرب مثل المؤمن ضرب مثل الكافر. قال مقاتل: نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبدشمس، كان يترهب متلمسا للدين، فلما خرج صلى اللّه عليه وسلم كفر. أبو سهل: في أهل الكتاب. الضحاك: في أعمال الخير للكافر؛ كصلة الرحم ونفع الجيران. والسراب: ما يرى نصف النهار في اشتداد الحر، كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض. والآل الذي يكون ضحا كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء. وسمي السراب سرابا لأنه يسرب أي يجري كالماء. ويقال: سرب الفحل أي مضى وسار في الأرض. ويسمي الآل أيضا، ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به العطشان. قال الشاعر:

فكنت كمهريق الذي في سقائه لرقراق آل فوق رابية صلد

وقال آخر:

فلما كففنا الحرب كانت عهودهم لمع سراب بالفلا متألق

وقال امرؤ القيس:

ألم أنض المطي بكل خرق أمق الطول لماع السراب

والقيعة جمع القاع؛ مثل جيرة وجار؛ قاله الهروي وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد؛ حكاه النحاس. والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب. وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان.

قال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض؛ والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها؛ والقيعة مثل القاع، وهو أيضا من الواو. وبعضهم يقول: هو جمع.

{يحسبه الظمآن} أي العطشان. {ماء} أي يحسب السراب ماء.

{حتى إذا جاءه لم يجده شيئا} مما قدره ووجد أرضا لا ماء فيها. وهذا مثل ضربه اللّه تعالى للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على اللّه تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر؛ أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد صاحب السراب إلا أرضا لا ماء فيها؛ فهو يهلك أو بموت.

{ووجد اللّه عنده} أي وجد اللّه بالمرصاد.

{فوفاه حسابه} أي جزاء عمله. قال امرؤ القيس:

فولى مدبرا يهوي حثيثا وأيقن أنه لاقى الحسابا

وقيل: وجد وعد اللّه بالجزاء على عمله.

وقيل: وجد أمر اللّه عند حشره؛ والمعنى متقارب.

وقرئ {بقيعات}. المهدوي: ويجوز أن تكون الألف مشبعة من فتحه العين. ويجوز أن تكون مثل رجل عزه وعزهاة، للذي لا يقرب النساء. ويجوز أن يكون جمع قيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف.

وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة {الظمآن} بغير همز، والمشهور عنهما الهمز؛ يقال: ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن خففت الهمزة قلت الظمان. وقوله: {والذين كفروا} ابتداء {أعمالهم} ابتداء ثان. والكاف من {كسراب} الخبر، والجملة خبر عن {الذين}.

ويجوز أن تكون {أعمالهم} بدلا من {الذين كفروا}؛ أي وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف.

٤٠

قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي} ضرب تعالى مثلا آخر للكفار أي أعمالهم كسراب بقيعة أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بالظلمات فـ {أو} للإباحة حسبما تقدم من القول في {أو كصيب} [البقرة: ١٩].

وقال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضا من أعمالهم وقد قال تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: ٢٥٧] أي من الكفر إلى الإيمان وقال أبو علي: {أو كظلمات} أو كذي ظلمات ودل على هذا المضاف قوله تعالى: {إذا أخرج يده} فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر. وقال ابن عباس في رواية: هذا مثل قلب الكافر.

{في بحر لجي} قيل: هو منسوب اللجة، وهو الذي لا يدرك قعره. واللجة معظم الماء، والجمع لجج. والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه؛ ومنه ما روي عن النبي أنه قال: (من ركب البحر إذا التج فقد برئت منه الذمة). والتج الأمر إذا عظم واختلط. وقوله تعالى: {حسبته لجة} [النمل: ٤٤] أي ما له عمق. ولججت السفينة أي خاضت اللجة (بضم اللام). فأما اللجة (بفتح اللام) فأصوات الناس يقول: سمعت لجة الناس أي أصواتهم وصخبهم. قال أبو النجم:

في لجة أمسك فلانا عن فل

والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت.

{يغشاه موج} أي يعلو ذلك البحر اللجي موج.

{من فوقه موج} أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب؛ فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب.

وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج؛ فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من وجهين:

أحدهما: أنه قد غطى النجوم التي يهتدي بها.

الثاني: الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه.

{ظلمات بعضها فوق بعض} قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير {سحاب ظلمات} بالإضافة والخفض. قنبل {سحاب} منونا {ظلمات} بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوي: من قرأ {من فوقه سحاب ظلمات} بالإضافة فلأن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها؛ كما يقال: سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ {سحاب ظلمات} جر {ظلمات} على التأكيد لـ{ظلمات} الأولى أو البدل منها. و{سحاب} ابتداء و{من فوقه} الخبر. ومن قرأ {سحاب ظلمات} فظلمات خبر ابتداء محذوف التقدير: هي ظلمات أو هذه ظلمات. قال ابن الأنباري: {من فوقه موج} غير تام؛ لأن قول {من فوقه سحاب} صلة للموج، والوقف على قول {من فوقه سحاب} حسن ثم تبتدئ {ظلمات بعضها فوق بعض} على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض.

وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا {ظلمات} على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب.

ثم قيل: المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر؛ فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا.

وقيل: المراد بالظلمات الشدائد؛ أي شدائد بعضها فوق بعض.

وقيل: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه.

روي معناه عن ابن عباس وغيره؛ أي لا يبصر بقلبه نور الإيمان، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها.

وقال أبيّ ابن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير.

قوله تعالى: {إذا أخرج يده} يعني الناظر.

{لم يكد يراها} أي من شدة الظلمات. قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد؛ وهو معنى قول الحسن.

ومعنى {لم يكد} لم يطمع أن يراها. وقال الفراء: كاد صلة، أي لم يرها؛ كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد؛ كما تقول: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة.

وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير كما يقال: كاد العروس يكون أميرا وكاد النعام يطير وكاد المنتعل يكون راكبا. النحاس: وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة.

{ومن لم يجعل اللّه له نورا} يهتدي به حين أظلمت عليه الأمور. وقال ابن عباس: أي من لم يجعل اللّه له دينا فما له من دين، ومن لم يجعل اللّه له نورا يمشي به يوم القيامة لم يهتد إلى الجنة؛ كقوله تعالى: {ويجعل لكم نورا تمشون به} [الحديد: ٢٨]. وقال الزجاج: ذلك في الدنيا والمعنى: من لم يهده اللّه لم يهتد. وقال مقاتل بن سليمان: نزلت في عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح، ثم كفر في الإسلام. الماوردي: في شيبة بن ربيعة، وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين، فكفر في الإسلام.

قلت: وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما.

وقد قيل: نزلت في عبداللّه بن جحش، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه. وذكر الثعلبي: وقال أنس قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(إن اللّه تعالى خلقني من نور وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر وخلق المؤمنات من أمتي من نور عائشة فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور). فنزلت {ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور}.

٤١

انظر تفسير الآية:٤٢

٤٢

قوله تعالى: {ألم تر أن اللّه} لما ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات، وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا قادرا على الكمال؛ فله بعثة الرسل، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات، وأخبروا بالجنة والنار. والخطاب في {ألم تر} للنبي صلى اللّه عليه وسلم، ومعناه: ألم تعلم؛ والمراد الكل.

{أن اللّه يسبح له من في السماوات} من الملائكة.

{والأرض} من الجن والإنس. {والطير صافات} قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان والتسبيح لما سواه من الخلق. وقال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود.

وقيل: إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها تسبيح؛ حكاه النقاش.

وقيل: التسبيح ها هنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة.

ومعنى {صافات} مصطفات الأجنحة في الهواء. وقرأ الجماعة {والطير} بالرفع عطفا على {من}.

وقال الزجاج: ويجوز {والطير} بمعنى مع الطير. قال النحاس: وسمعته يخبر - قمتُ وزيدا - بمعنى مع زيد. قال: وهو أجود من الرفع. قال: فإن قلت قمت أنا وزيد، كان الأجود الرفع، ويجوز النصب.

{كل قد علم صلاته وتسبيحه} يجوز أن يكون المعنى: كل قد علم اللّه صلاته وتسبيحه؛ أي علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح. ولهذا قال: {واللّه عليم بما يفعلون} أي لا يخفي عليه طاعتهم ولا تسبيحهم. ومن هذه الجهة يجوز نصب {كل} عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده. وقد قيل: المعنى قد علم كل مصل ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه.

وقرأ بعض الناس {كل قد علم صلاته وتسبيحه} غير مسمى الفاعل. وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ {كل قد عُلم صلاته وتسبيحه}؛ فيجوز أن يكون تقديره: كل قد علمه اللّه صلاته وتسبيحه. ويجوز أن يكون المعنى: كل قد علم غيره صلاته وتسبيحه أي صلاة نفسه؛ فيكون التعليم الذي هو الإفهام والمراد الخصوص؛ لأن من الناس من لم يعلم. ويجوز أن يكون المعنى كل قد استدل منه المستدل، فعبر عن الاستدلال بالتعليم قاله المهدوي. والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر تأكيدا؛ كقول {يعلم السر والنجوى}. والصلاة قد تسمى تسبيحا؛ قاله القشيري.

٤٣

انظر تفسير الآية:٤٤

٤٤

قوله تعالى: {ألم تر أن اللّه يزجي سحابا} ذكر من حججه شيئا آخر؛ أي ألم تر بعيني قلبك.

{يزجي سحابا} أي يسوق إلى حيث يشاء. والريح تزجي السحاب، والبقرة تزجي ولدها أي تسوقه. ومنه زجا الخراج يزجو زجاء - ممدودا - إذا تيسرت جبايته. وقال النابغة:

إني أتيتك من أهلي ومن وطني أزجي حشاشة نفس ما بها رمق

وقال أيضا:

أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد

{ثم يؤلف بينه} أي يجمعه عند انتشائه؛ ليقوى ويتصل ويكثف. والأصل في التأليف الهمز، تقول: تألف.

وقرئ {يؤلف} بالواو تخفيفا. والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع؛ ولهذا قال: {وينشئ السحاب} [الرعد: ١٢].

و{بين} لا يقع إلا لاثنين فصاعدا، فكيف جاز بينه؟

فالجواب أن {بينه} هنا لجماعة السحاب؛ كما تقول: الشجر قد جلست بينه لأنه جمع، وذكر الكناية على اللفظ؛ قال معناه الفراء.

وجواب آخر: وهو أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال:

... بين الدخول فحومل

فأوقع {بين} على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة لأن الكوفة أماكن كثيرة؛ قال الزجاج وغيره. وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز وكان يروى:

... بين الدخول وحومل

{ثم يجعله ركاما} أي مجتمعا، يركب بعضه بعضا؛ كقوله تعالى: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم} [الطور: ٤٤]. والركم جمع الشيء؛ يقال منه: ركم الشيء يركمه ركما إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع. والركمة الطين المجموع. والركام: الرمل المتراكم. وكذلك السحاب وما أشبهه. ومرتكم الطريق - بفتح الكاف - جادته. {فترى الودق يخرج من خلاله} في {الودق} قولان:

أحدهما: أنه البرق؛ قاله أبو الأشهب العقيلي. ومنه قول الشاعر:

أثرنا عجاجة وخرجن منها خروج الودق من خلل السحاب

الثاني: أنه المطر؛ قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر:

فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها

وقال امرؤ القيس:

فدمعهما ودق وسح وديمة وسكب وتوكاف وتنهملان

يقال: ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا؛ أي قطر. وودقت إليه دنوت منه. وفي المثل: ودق العير إلى الماء؛ أي دنا منه. يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه. والموضع مودق. وودقت به ودقا استأنست به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل: ودقت تدق ودقا، وأودقت واستودقت. وأتان ودوق وفرس ودوق، ووديق أيضا، وبها وداق. والوديقة: شدة الحر. وخلال جمع خلل؛ مثل الجبل والجبال، وهي فرجه ومخارج القطر منه. وقد تقدم في {البقرة} أن كعبا قال: إن السحاب غربال المطر؛ لو لا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية {من خللّه} على التوحيد. وتقول: كنت في خلال القوم؛أي وسطهم.

{وينزل من السماء من جبال فيها من برد} قيل: خلق اللّه في السماء جبالا من برد، فهو ينزل منها بردا؛ وفيه إضمار، أي ينزل من جبال البرد بردا، فالمفعول محذوف. ونحو هذا قول الفراء؛ لأن التقدير عنده: من جبال برد؛ فالجبال عنده هي البرد. و{برد} في موضع خفض؛ ويجب أن يكون على قوله المعنى: من جبال برد فيها، بتنوين جبال.

وقيل: إن اللّه تعالى خلق في السماء جبالا فيها برد؛ فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها برد. و{من} صلة.

وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض؛

{فمن} الأولى للغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء،

والثانية للتبعيض لأن البرد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال من البرد. وقال الأخفش: إن {من} في {الجبال} و{برد} زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب؛ أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. واللّه أعلم.

{فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء} فيكون إصابته نقمة وصرفه نعمة. وقد مضى في {البقرة}. و[الرعد] أن من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عوفي مما يكون في ذلك الرعد.

{يكاد سنا برقه} أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب

{يذهب بالأبصار} من شدة بريقه وضوئه. قال الشماخ:

وما كادت إذا رفعت سناها ليبصر ضوءها إلا البصير

وقال امرؤ القيس:

يضيء سناه أو مصابيح راهب أهان السليط في الذبال المفتل

فالسنا - مقصور - ضوء البرق. والسنا أيضا نبت يتداوى به. والسناء من الرفعة ممدود. وكذلك قرأ طلحة بن مصرف {سناء} بالمد على المبالغة من شدة الضوء والصفاء؛ فأطلق عليه اسم الشرف. قال المبرد: السنا - مقصور - وهو اللمع؛ فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود وأصلهما واحد وهو الالتماع. وقرأ طلحة بن مصرف {سناء برقه} قال أحمد بن يحيى: وهو جمع برقة.

قال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة المرة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع {يُذهب بالأبصار} بضم الياء وكسر الهاء؛ من الإذهاب، وتكون الباء في {بالأبصار} صلة زائدة. الباقون {يذهب بالأبصار} بفتح الياء والهاء، والباء للإلصاق. والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق.

قوله تعالى: {يقلب اللّه الليل والنهار} قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر.

وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما.

وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى؛ وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر؛ قاله النقاش.

وقيل: تقليبهما باختلاف ما تقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر.

{إن في ذلك} أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء {لعبرة} أي اعتبارا

{لأولي الأبصار} أي لأهل البصائر من خلقي.

٤٥

انظر تفسير الآية:٤٦

٤٦

قوله تعالى: {واللّه خلق كل دابة من ماء} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {واللّه خالق كل} بالإضافة. الباقون {خلق} على الفعل. قيل: إن المعنيين في القراءتين صحيحان. أخبر اللّه عز وجل بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إحدى القراءتين أصح من الأخرى.

وقد قيل: إن {خلق} لشيء مخصوص، وإنما يقال خالق على العموم؛ كما قال اللّه عز وجل:

{الخالق البارئ} [الحشر: ٢٤].

وفي الخصوص {الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض} [الأنعام: ١] وكذا:

{هو الذي خلقكم من نفس واحدة} [الأعراف: ١٨٩].

فكذا يجب أن يكون {واللّه خلق كل دابة من ماء}. والدابة كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان؛ يقال: دب يدب فهو داب؛ والهاء للمبالغة. وقد تقدم في {البقرة}.

{من ماء} لم يدخل في هذا الجن والملائكة؛ لأنا لم نشاهدهم، ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء، بل في الصحيح (إن الملائكة خلقوا من نور والجن من نار). وقد تقدم.

وقال المفسرون: {من ماء} أي من نطفة. قال النقاش: أراد أمنية الذكور. وقال جمهور النظرة: أراد أن خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين؛ وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى اللّه عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غزاة بدر: ممن أنتما؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (نحن من ماء). الحديث.

وقال قوم: لا يستثني الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من الماء؛ وخلق النار من الماء، وخلق الريح من الماء؛ إذ أول ما خلق اللّه تعالى من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء.

قلت: ويدل على صحة هذا قوله تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه} المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره. وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى. والأربع لسائر الحيوان. وفي مصحف أبي {ومنهم من يمشي على أكثر}؛ فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش؛ ولكنه قرآن لم يثبته إجماع؛ لكن قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها.

قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهي كلها تتحرك في تصرفه.

وقال بعضهم: ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع؛ إذ لم يقل ليس منها ما يمشي على أكثر من أربع.

وقيل فيه إضمار: ومنهم من يمشي على أكثر من أربع؛ كما وقع في مصحف أبي. واللّه أعلم.

و{دابة} تشمل من يعقل وما لا يعقل؛ فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل؛ لأنه المخاطب والمتعبد؛ ولذلك قال {فمنهم}. وقال: {من يمشي} فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع؛ أي لو لا أن للجميع صانعا مختارا لما اختلفوا، بل كانوا من جنس واحد؛ وهو كقوله: {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات}. [الرعد: ٤].

{إن اللّه على كل شيء} مما يريد خلقه {قدير}.

٤٧

قوله تعالى: {ويقولون آمنا باللّه وبالرسول} يعني المنافقين، يقولون بألسنتهم آمنا باللّه وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص.

{وأطعنا} أي ويقولون {وأطعنا} وكذبوا.

{ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين}.

٤٨

انظر تفسير الآية:٥٠

٤٩

انظر تفسير الآية:٥٠

٥٠

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ قال الطبري وغيره: إن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان المنافق مبطلا، فأبى من ذلك وقال: إن محمدا يحيف علينا فلنحكم كعب بن الأشرف فنزلت الآية فيه.

وقيل: نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم عليا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال: إنه يبغضني؛ فنزلت الآية، ذكره الماوردي.

وقال: {ليحكم} ولم يقل ليحكما لأن المعني به الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وإنما بدأ بذكر اللّه إعظاما للّه واستفتاح كلام.

قوله تعالى: {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} أي طائعين منقادين؛ لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحق. يقال: أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعانا.

وقال النقاش: {مذعنين} خاضعين، ومجاهد: مسرعين. الأخفش وابن الأعرابي: مقرين.

{أفي قلوبهم مرض} شك وريب.

{أم ارتابوا} أم حدث لهم شك في نبوته وعدله.

{أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم ورسوله} أي يجور في الحكم والظلم. وأتي بلفظ الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذم؛ كقوله جرير في المدح:

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

{بل أولئك هم الظالمون} أي المعاندون الكافرون؛ لإعراضهم عن حكم اللّه تعالى.

القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ولا حق لأهل الذمة فيه. وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما. فإن جاءا قاضي الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض؛ كما تقدم في [المائدة]

هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن اللّه سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال:

{أفي قلوبهم مرض} الآية. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق أو عداوة بين المدعي والمدعى عليه. وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له). ذكره الماوردي أيضا. قال ابن العربي: وهذا حديث باطل: فأما قوله (فهو ظالم)فكلام صحيح وأما قوله: (فلا حق له) فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق.

٥١

قوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى اللّه ورسوله} أي إلى كتاب اللّه وحكم ورسوله.

{أن يقولوا سمعنا وأطعنا} قال ابن عباس: أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون؛ أي هذا قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا يقولون سمعنا وأطعنا. فالقول نصب على خبر كان، واسمها في قوله {أن يقولوا} نحو {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا} [آل عمران: ١٤٧].

وقيل: إنما قول المؤمنين، وكان صلة في الكلام؛ كقوله تعالى: {كيف نكلم من كان في المهد صبيا}. [مريم: ٢٩].

وقرأ ابن القعقاع {ليحكم بينهم} غير مسمي الفاعل. علي بن أبي طالب {إنما كان قول} بالرفع.

٥٢

قوله تعالى: {ومن يطع اللّه ورسوله} فيما أمر به حكم.

{ويخش اللّه ويتقيه} قرأ حفص {ويتقه} بإسكان القاف على نية الجزم؛ قال الشاعر:

ومن يتق فإن اللّه معه ورزق اللّه مؤتاب وغادي

وكسرها الباقون، لأن جزمه بحذف آخر.

وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر. واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبي عمرو وحفص. وأشبع كسرة الهاء الباقون.

{فأولئك هم الفائزون} ذكر أسلم أن عمر بينما هو قائم في مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه. فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت للّه. قال: هل لهذا سبب ؟ قال: نعم إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند اللّه فأسلمت. قال: ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى: {ومن يطع اللّه} في الفرائض {ورسوله} في السنن

{ويخش اللّه} فيما مضى من عمره {ويتقه} فيما بقي من عمره:

{فأولئك هم الفائزون} والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم).

٥٣

قوله تعالى: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم} عاد إلى ذكر المنافقين، فإنه لما بين كراهتهم لحكم النبي صلى اللّه عليه وسلم أتوه فقالوا: واللّه لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونسائنا وأموالنا فخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا؛ فنزلت هذه الآية. أي وأقسموا باللّه أنهم يخرجون معك في المستأنف ويطيعون.

{جهد أيمانهم} أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا. وقال مقاتل: من حلف باللّه فقد أجهد في اليمين. وقد مضى في {الأنعام} بيان هذا.

و{جهد} منصوب على مذهب المصدر تقديره: إقساما بليغا.

{قل لا تقسموا} وتم الكلام.

{طاعة معروفة} أولى بكم من أيمانكم؛ أو ليكن منكم طاعة معروفة، وقول معروف بإخلاص القلب، ولا حاجة إلى اليمين. وقال مجاهد: المعنى قد عرفت طاعتكم وهي الكذب والتكذيب؛ أي المعروف منكم الكذب دون الإخلاص.

{إن اللّه خبير بما تعملون} من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل.

٥٤

قوله تعالى: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول} بإخلاص الطاعة وترك النفاق.

{فإن تولوا} أي فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين. ودل على هذا أن بعده {وعليكم} ولم يقل وعليهم.

{فإنما عليه ما حمل} أي من تبليغ الرسالة.

{وعليكم ما حملتم} أي من الطاعة له؛ عن ابن عباس وغيره.

{وإن تطيعوه تهتدوا} جعل الاهتداء مقرونا بطاعته.

{وما على الرسول إلا البلاغ المبين} أي التبليغ {المبين}.

٥٥

نزلت في أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما؛ قاله مالك.

وقيل: إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم؛ فنزلت الآية. وقال أبو العالية: مكث رسول صلى اللّه عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه، يدعون إلى اللّه سرا وجهرا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح. فقال رجل: يا رسول اللّه، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام:

(لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة).

ونزلت هذه الآية، وأظهر اللّه نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا. قال النحاس: فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ لأن اللّه جل وعز أنجز ذلك الوعد. قال الضحاك في كتاب النقاش: هذه تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات. وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(الخلافة بعدي ثلاثون).

وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه، واختاره

وقال: قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي اللّه عنهم، وأن اللّه استخلفهم ورضي أمانتهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين؛ فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذا، وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده. رضي اللّه عنهم. وحكى هذا القول القشيري عن ابن عباس. واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا). قال سفينة: أمسك عليك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرا، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ستا.

وقال قوم: هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام:

(زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها؛ كالذي جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب.

قال ابن العربي: قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله؛ حتى في المفتين والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء. ثم ذكر اعتراضا وانفصالا معناه:

فإن قيل هذا الأمر لا يصح إلا في أبي بكر وحده، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلة، وعلي قد نوزع في الخلافة.

قلنا: ليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه كان، وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن، وليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره، لا كما كان أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة. ثم قال في آخر كلامه: وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين؛ فهذا نهاية الأمن والعز.

قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي اللّه عنهم حتى يخصوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم. ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق، حتى أخبر اللّه تعالى عن جميعهم فقال: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون باللّه الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} [الأحزاب: ١٠ - ١١]. ثم إن اللّه رد الكافرين لم ينالوا خيرا، وأمن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله: {ليستخلفنهم في الأرض}.

وقوله: {كما استخلف الذين من قبلهم} يعني بني إسرائيل، إذ أهلك اللّه الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم فقال: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها} [الأعراف: ١٣٧].

وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن اللّه تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم، فصح أن الآية عامة لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم غير مخصوصة؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم. وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام:

(لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة). وقال صلى اللّه عليه وسلم:

(واللّه ليتمن اللّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللّه والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون). خرجه مسلم في صحيحه؛ فكان كما أخبر صلى اللّه عليه وسلم. فالآية معجزة النبوة؛ لأنها إخبار عما سيكون فكان.

قوله تعالى: {ليستخلفنهم في الأرض} فيه قولان:

أحدهما: يعني أرض مكة؛ لأن المهاجرين سألوا اللّه تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل؛ قال معناه النقاش.

الثاني: بلاد العرب والعجم.

قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(لكن البائس سعد بن خولة). يرثي له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن مات بمكة. وقال في الصحيح أيضا:

(يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا).

واللام في {ليستخلفهم} جواب قسم مضمر؛ لأن الوعد قول، مجازها: قال اللّه للذين آمنوا وعملوا الصالحات واللّه ليستخلفنهم في الأرض فيجعلهم ملوكها وسكانها.

{كما استخلف الذين من قبلهم} يعني بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم.

وقراءة العامة {كما استخلف} بفتح التاء واللام؛ لقوله: {وعد}. وقوله: {ليستخلفنهم}. وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم {استخلف} بضم التاء وكسر اللام على الفعل المجهول.

{وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} وهو الإسلام؛ كما قال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: ٣] وقد تقدم.

وروي سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلا أدخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها).

ذكره الماوردي حجة لمن قال: إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم؛ وهو القول الثاني: على ما تقدم آنفا.

{وليبدلنهم} قرأ ابن محيصن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف؛ من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختيار أبي حاتم. الباقون بالتشديد؛ من بدل، وهي اختيار أبي عبيد؛ لأنها أكثر ما في القرآن، قال اللّه تعالى: {لا تبديل لكلمات اللّه} [يونس: ٦٤]. وقال: {وإذا بدلنا آية} [النحل: ١٠١]

ونحوه، وهما لغتان.

قال النحاس: وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: قرأ عاصم والأعمش {وليبدلنهم} مشددة، وهذا غلط على عاصم؛ وقد ذكر بعده غلطا أشد منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف.

قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقا، وأنه يقال: بدلته أي غيرته، وأبدلته أزلته وجعلت غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح؛ كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره. وتقول: قد بدلت بعدنا، أي غيرت؛ غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر؛ والذي ذكره أكثر. وقد مضى هذا في {النساء} والحمد للّه، وذكرنا في سورة {إبراهيم} الدليل من السنة على أن بدل معناه إزالة العين؛ فتأمله هناك.

وقرئ {عسى ربنا أن يبدلنا} [القلم: ٣٢] مخففا ومثقلا.

{يعبدونني} هو في موضع الحال؛ أي في حال عبادتهم اللّه بالإخلاص. ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم.

{لا يشركون بي شيئا} فيه أربعة أقوال:

أحدها، لا يعبدون إلها غيري؛ حكاه النقاش.

الثاني، لا يراؤون بعبادتي أحدا.

الثالث، لا يخافون غيري؛ قاله ابن عباس.

الرابع، لا يحبون غيري؛ قال مجاهد.

{ومن كفر بعد ذلك} أي بهذه النعم. والمراد كفران النعمة؛ لأنه قال تعالى:

{فأولئك هم الفاسقون} والكافر باللّه فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.

٥٦

تقدم؛ فأعاد الأمر بالعبادة تأكيدا.

٥٧

قوله تعالى: {لا تحسبن الذين كفروا} هذا تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم ووعد بالنصرة.

وقراءة العامة {تحسبن} بالتاء خطابا. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة {يحسبن} بالياء، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين اللّه في الأرض، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين. وهذا قول الزجاج. وقال الفراء وأبو علي: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين الأرض. فـ {الذين} مفعول أول، و{معجزين} مفعول ثان. وعلى القول الأول {الذين كفروا} فاعل {أنفسهم} مفعول أول، وهو محذوف مراد {معجزين} مفعول ثان.

قال النحاس: وما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة؛ فمنهم من يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن. وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء: هو ضعيف؛ وأجازه على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول، وقد بيناه. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة: يكون {الذين كفروا} في موضع نصب. قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض.

قلت: وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو علي؛ لأن الفاعل هناك النبي صلى اللّه عليه وسلم. وفي هذا القول الكافر.

و{معجزين} معناه فائتين. وقد تقدم.

{ومأواهم النار ولبئس المصير} أي المرجع.

٥٨

قال العلماء، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة؛ لأنه قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور: ٢٧] ثم خص هنا فقال:

{ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضا يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموما. وخص في هذه الآية بعض الأوقات، فلا يدخل فيها عبد ولا أمة؛ وغْداً كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان. قال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، دخل عليها غلام لها كبير، فاشتكت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فنزلت عليه الآية. وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر؛ وسيأتي.

اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى {ليستأذنكم} على ستة أقوال

الأول: أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير.

الثاني: أنها ندب غير واجبة؛ قاله أبو قلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظرا لهم.

الثالث: عنى بها النساء؛ قاله أبو عبدالرحمن السلمي.

الرابع: وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء.

الخامس: كان ذلك واجبا، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس.

السادس: أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء؛ وهو قول أكثر أهل العلم؛ منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي. وأضعفها قول السلمي لأن {الذين} لا يكون للنساء في كلام العرب، إنما يكون للنساء - اللاتي واللواتي - وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر، لأن {الذين} للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره، غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم.

وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيداللّه بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي.

قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس {يأمر به}.

وروى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد، قول اللّه عز وجل

{يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم}.

قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى {عليم حكيم}

قال ابن عباس: إن اللّه حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم اللّه بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم اللّه بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد.

قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير؛ فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها.

وروى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي

{يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} قال: ليست بمنسوخة. قلت: إن الناس لا يعملون بها؛ قال: اللّه عز وجل المستعان.

قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات} قال يزيد: ثلاث دفعات. قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجميع. قال ابن عبدالبر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله

{ثلاث مرات} أي في ثلاث أوقات. ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها

{من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء}.

أدب اللّه عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري.

فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهي الظهيرة، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات.

يروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن اللّه نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن؛ ثم انطلق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخر ساجدا شكرا للّه. وهي مكية.

قوله تعالى: {والذين لم يبلغوا الحلم منكم} أي الذين لم يحتلموا من أحراركم؛ قال مجاهد. وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم، على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء.

وقرأ الجمهور بضم اللام، وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرو يستحسنها.

و{ثلاث مرات} نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في {ثلاث} بينة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن صلاة العشاء. وقد مضى معناه. ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت.

{ثلاث عورات لكم} قرأ جمهور السبعة {ثلاث عورات} برفع {ثلاث}.

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثلاث} بالنصب على البدل من الظرف في قوله {ثلاث مرات}.

قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الفراء: الرفع أحب إلي. قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصا بالابتداء. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة؛ إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان:

أحدهما: أنه مردود على قوله {ثلاث مرات}؛ ولهذا استبعده الفراء. وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

و{عورات} جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات، ونحو ذلك، وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات؛ لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك؛ فأما قول الشاعر:

أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح

فشاذ.

قوله تعالى: {ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين.

{طوافون} بمعنى هم طوافون. قال الفراء: كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم.

وأجاز الفراء نصب {طوافين} لأنه نكرة، والمضمر في {عليكم} معرفة.

ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين في {عليكم} وفي {بعضكم} لاختلاف العاملين. ولا يجوز مررت يزيد ونزلت على عمرو العاقلين، على النعت لهما.

فمعنى {طوافون عليكم} أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم؛ ومنه الحديث في الهرة

(إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات). فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله {إن بيوتنا عورة} [الأحزاب: ١٣] أي سهلة للمدخل، فبين العلة الموجبة للإذن، وهي الخلوة في حال العورة؛ فتعين امتثاله وتعذر نسخه. ثم رفع الجناح بقوله:

{ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض} أي يطوف بعضكم على بعض.

{كذلك يبين اللّه لكم الآيات} الكاف في موضع نصب؛ أي يبين اللّه لكم آياته الدالة على متعبداته بيانا مثل ما يبين لكم هذه الأشياء.

{واللّه عليم حكيم} تقدم.

قوله تعالى: {ومن بعد صلاة العشاء} يريد العتمة. وفي صحيح مسلم عن عبداللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال سمعت رسول اللّه صلى يقول:

(لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل).

وفي رواية

(فإنها في كتاب اللّه العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل).

وفي البخاري عن أبي برزة: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يؤخر العشاء. وقال أنس: أخر النبي صلى اللّه عليه وسلم العشاء. وهذا يدل على العشاء الأولى. وفي الصحيح: فصلاها، يعني العصر بين العشاءين المغرب والعشاء. وفي الموطأ وغيره:

(ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا). وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي الصلوات نحوا من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئا، وكان يخف الصلاة.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار متعارضة، لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ، ونهيه عليه السلام عن تسمية المغرب عشاء وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلا عمن عداهم. وقد كان ابن عمر يقول: من قال صلاة العتمة فقد أثم.

وقال ابن القاسم قال مالك: {ومن بعد صلاة العشاء} فاللّه سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى اللّه عليه وسلم أن تسمي بما سماها اللّه تعالى به ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم وقد قال حسان:

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء

وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة، إنما كان لئلا يعدل بها عما سماها اللّه تعالى في كتابه إذ قال: {ومن بعد صلاة العشاء}؛ فكأنه نهيُ إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز. ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما. وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة؛ ويشهد لهذا قوله: (فإنها تعتم بحلاب الإبل).

روى ابن ماجه في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقول:

(من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب اللّه بها عتقا من النار).

وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).

وروي الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة وصلى بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر.

٥٩

وَإِذَا بَلَغَ اْلأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ قرأ الحسن {الحلم} فحذف الضمة لثقلها. والمعنى: أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة؛ وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا. ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت. وهذا بيان من اللّه عز وجل لأحكامه وإيضاح حلاله وحرامه، وقال {فليستأذنوا} ولم يقل فليستأذنوكم.

وقال في الأولى {ليستأذنكم} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين.

وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحرارا كانوا أو عبيدا. وقال أبو إسحاق الفزاري:

قلت للأوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن. وقال الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.

٦٠

قوله تعالى: {والقواعد من النساء} القواعد واحدتها قاعد، بلا هاء؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل؛ ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل. قال الشاعر:

فلو أن ما في بطنه بين نسوة حبلن وإن كن القواعد عقرا

وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، بالهاء. والقواعد أيضا: إساس البيت واحدة قاعدة، بالهاء.

القواعد: العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض؛ هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد؛ وليس ذلك بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي.

قوله تعالى: {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن} إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن؛ إذ لا يذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن.

قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس {أن يضعن من ثيابهن} بزيادة {من} قال ابن عباس: وهو الجلباب.

وروي عن ابن مسعود أيضا {من جلابيبهن} والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها.

وقال قوم: الكبيرة التي أيست من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس؛ فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة في التستر؛ إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما.

قوله تعالى: {غير متبرجات بزينة} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن؛ فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج: التكشف والظهور للعيون؛ ومنه: بروج مشيدة. وبروج السماء والأسوار؛ أي لا حائل دونها يسترها.

وقيل لعائشة رضي اللّه عنها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل اللّه لكنّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكنّ أن يروا منكن محرما. وقال عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب.

وعلى هذا {غير متبرجات} غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلبان فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي. ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير.

وقرأ ابن مسعود {وأن يتعففن} بغير سين. ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).

قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثواب إذا رق يصفهن، ويبدي محاسنهن؛ وذلك حرام.

قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى.

والثاني: أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال اللّه تعالى فيه: {ولباس التقوى ذلك خير}. وأنشدوا:

إذا المرء لم يلبس ثياب من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان للّه عاصيا

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره)

قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول اللّه؟ قال: (الدين). فتأويله صلى اللّه عليه وسلم القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير}. والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب؛ كما قال شاعرهم:

ثياب بني عوف طهارى نقية

وقد قال صلى اللّه عليه وسلم لعثمان:

(إن اللّه سيلبسك قميصا فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه). فعبر عن الخلافة بالقميص وهي استعارة حسنة معروفة.

قلت: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات؛ فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: (رؤوسهن كأسنمة البخت). والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة؛ شبه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن. وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم. قال صلى اللّه عليه وسلم:

(ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). خرجه البخاري.

٦١

قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية. أقربها - هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة؛ فهذه ثلاثة أقوال:

الأول: أنها منسوخة من قوله تعالى: {ولا على أنفسكم} إلى آخر الآية؛ قاله عبدالرحمن بن زيد، قال: هذا شيء انقطع، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد؛ فسوغ اللّه عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحد أن يفتحها، فذهب هذا وانقطع. قال صلى اللّه عليه وسلم:

(لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه..) الحديث. خرجه الأئمة.

الثاني: أنها ناسخة؛ قاله جماعة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما أنزل اللّه عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} قال المسلمون: إن اللّه عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك؛ فأنزل اللّه عز وجل: {ليس على الأعمى حرج - إلى - أو ما ملكتم مفاتحه}. قال: هو الرجل يوكل الرجل بضيعته.

قلت: علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم سكن الشام، يكنى أبا الحسن ويقال أبا محمد، اسم أبيه أبي طلحة سالم، تكلم في تفسيره؛ فقيل: إنه لم ير ابن عباس، واللّه أعلم.

الثالث: أنها محكمة؛ قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم؛ منهم سعيد بن المسيب وعبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة بن مسعود.

وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إذا احتجتم فكلوا؛ فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس؛ فأنزل اللّه عز وجل: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم} إلى آخر الآية.

قال النحاس: يوعبون أي يخرجون بأجمعهم في المغازي؛ يقال: أوعب بنو فلان لبني فلان إذا جاؤوهم بأجمعهم. وقال ابن السكيت: يقال أوعب بنو فلان جلاء؛ فلم يبق ببلدهم منهم أحد. وجاء الفرس بركض وعيب؛ أي بأقصى ما عنده.

وفي الحديث: (في الأنف إذا استوعب جدعه الدية) إذا لم يترك منه شيء. واستيعاب الشيء استئصاله. ويقال: بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه. والضمنى هم الزمنى، واحدهم ضمن زمن.

قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روي في الآية؛ لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوفيق أن الآية نزلت في شيء بعينه.

قال ابن العربي: وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله {أو ما ملكتم مفاتحه} قد اقتضاه؛ فكان هذا القول بعيدا جدا. لكن المختار أن يقال: إن اللّه رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي؛ وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه؛ كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك. ثم قال بعد ذلك مبينا: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم. فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد، ويعضده الشرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل.

قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، فأما ما قال الناس في الحرج: قال ابن زيد: هو الحرج في الغزو؛ أي لا حرج عليهم في تأخرهم.

وقوله تعالى: {ولا على أنفسكم} الآية، معنى مقطوع من الأول.

وقالت فرقة: الآية كلها في معنى المطاعم. قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة. وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الأعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل، لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض؛ فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم. وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم؛ فنزلت الآية مبيحة لهم.

وقيل: كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته؛ فتحرج أهل الأعذار من ذلك؛ فنزلت الآية.

قوله تعالى: {ولا على أنفسكم} هذا ابتداء كلام أي ولا عليكم أيها الناس. ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام.

وذكر بيوت القربات وسقط منها بيوت الأبناء؛ فقال المسفرون: ذلك لأنها داخلة في قوله: {في بيوتكم} لأن بيت ابن الرجل بيته وفي الخبر (أنت ومالك لأبيك). لأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد.

قال النحاس: وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تحكم على كتاب اللّه تعالى؛ بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) بقوي لوهي هذا الحديث، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة؛ إذ قد يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه.

وقد قيل إن المعنى: أنت لأبيك، ومالك مبتدأ؛ أي ومالك لك. والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن.

وقال الترمذي الحكيم: ووجه قوله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} كأنه يقول مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم؛ فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت، أو يكون للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج.

قوله تعالى: {أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم}

قال بعض العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك. وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم. وذلك لأن في تلك القرابة عطفا تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا.

ابن العربي: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن غير محرز عنهم إلا بإذن منهم.

قوله تعالى: {أو ما ملكتم مفاتحه} يعني مما اختزنتم وصار في قبضتكم. وعظم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه؛ وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد. وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء. قال ابن عباس: عني وكيل الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله؛ فيجوز له أن يأكل مما قيم عليه. وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير.

ابن العربي: وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا؛ وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل.

وقرأ سعيد بن جبير {ملكتم} بضم الميم وكسر اللام وشدها. وقرأ أيضا {مفاتيحه} بياء بين التاء والحاء، جمع مفتاح؛ وقد مضى في {الأنعام}. وقرأ قتادة {مفتاحه} على الإفراد. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك؛ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

قوله تعالى: {أو صديقكم} الصديق بمعنى الجمع، وكذلك العدو؛ قال اللّه تعالى: {فإنهم عدو لي} [الشعراء: ٧٧]. وقال جرير:

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق

والصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك.

ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب: ٥٣]، وقوله تعالى: {فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها} [النور: ٢٨] الآية، وقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه).

وقيل: هي محكمة؛ وهو أصح. ذكر محمد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطبا فجعلت آكله؛ فقال: ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطبا في بيتك فأكلت؛ قال: أحسنت؛

قال اللّه تعالى: {أو صديقكم}. وذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أو صديقكم} قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس.

وقال معمر قلت لقتادة: ألا أشرب من هذا الحب؟ قال: أنت لي صديق! فما هذا الاستئذان. وكان صلى اللّه عليه وسلم يدخل حائط أبي طلحة المسمى ببيرحا ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه، على ما قاله علماؤنا؛ قالوا: والماء متملك لأهله.

وإذا جاز الشرب من ماء الصديق بغير إذنه جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أو لما بينهما من المودة. ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له صلى اللّه عليه وسلم إذا نام عندها؛ لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، وأن يد زوجته في ذلك عارية. وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خُبنة، ولم يقصد بذلك وقاية ماله، وكان تافها يسيرا.

قرن اللّه عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة، لأن قرب المودة لصيق. قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أو كد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين {فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم} [الشعراء: ١٠٠ - ١٠١].

قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه. وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في {النساء}. وفي المثل - أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك - قال: أخي إذا صديقي.

قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا} قيل: إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله. ومنه قول بعض الشعراء:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي

قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثه عندهم عن إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم؛ فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه؛ فنزلت الآية مبينة سنة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد. {جميعا} نصب على الحال. و{أشتاتا} جمع شت والشت المصدر بمعنى التفرق يقال: شت القوم أي تفرقوا.

وقد ترجم البخاري في صحيحه باب {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} الآية. و - النهد والاجتماع - . ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب: إباحة الأكل جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الأكل. وقد سوغ النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك، فصارت تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم وفي الإملاق في السفر. وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك. والنهد: ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم؛ وقد تناهدوا؛ عن صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: تناهد القوم الشيء بينهم.

الهروي: وفي حديث الحسن (أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم). النهد: ما تخرجه الرفقة عند المناهدة؛ وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره. والعرب تقول: هات نهدك؛ بكسر النون. قال المهلب: وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره.

وقد قيل: إن تركها أشبه بالورع. وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم فهو أحسن من النهد لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعل أحدهم يقصر عن ماله ويأكل غيره أكثر من ماله وإذا كانوا يوما عند هذا ويوما عند هذا بلا شرط فإنما يكونون أضيافا والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه.

وقال أيوب السختياني: إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل فيذبح ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك؛ فقالوا: إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله فتعالوا نجعل بيننا شيئا لا يتفضل بعضنا على بعض، فوضعوا النهد بينهم. وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سرا دونهم.

قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند اللّه مباركة طيبة كذلك يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تعقلون} اختلف المتأولون في أي البيوت أراد؛ فقال إبراهيم النخعي والحسن: أراد المساجد؛ والمعنى: سلموا على من فيها من ضيفكم. فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول اللّه.

وقيل: يقول السلام عليكم؛ يريد الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين. وذكر عبدالرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم} الآية، قال: إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

وقيل: المراد بالبيوت البيوت المسكونة؛ أي فسلموا على أنفسكم. قال جابر بن عبداللّه وابن عباس أيضا وعطاء بن أبي رباح. وقالوا: يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص؛ وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل بيتا لغيره أستأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الخبر، يقول: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين؛ قال ابن عمر. وهذا إذا كان فارغا، فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين. وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ.

قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغا ألا يلزم السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر اللّه بأن تقول: ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه. وقد تقدم في سورة [الكهف].

وقال القشيري في قوله: {إذا دخلتم بيوتا}: والأوجه أن يقال إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

وذكر ابن خويز منداد قال: كتب إلى أبو العباس الأصم قال حدثنا محمد بن عبداللّه بن عبدالحكم قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها واذكروا اسم اللّه فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم اللّه تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ها هنا ولا عشاء وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم اللّه على طعامه قال الشيطان لأصحابه أدركتم المبيت والعشاء).

قلت: هذا الحديث ثبت معناه مرفوع من حديث جابر، خرجه مسلم. وفي كتاب أبي داود عن أبي مالك الأشجعي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إذا ولج الرجل بيته فليقل اللّهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج باسم اللّه ولجنا وباسم اللّه خرجنا وعلى اللّه ربنا توكلنا ليسلم على أهله).

قوله تعالى: {تحية} مصدر؛ لأن قوله: {فسلموا} معناه فحيوا. وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه. ووصفها أيضا بالطيب لأن سامعها يستطيبها. والكاف من قوله: {كذلك} كاف تشبيه. و{ذلك} إشارة إلى هذه السنن؛ أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.

٦٢

قوله تعالى: {إنما المؤمنون} {إنما} في هذه الآية للحصر؛ المعنى: لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن باللّه ورسول إلا بأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع، ونحو ذلك. وبين تعالى في أول السورة أنه أنزل آيات بينات، وإنما النزول على محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ فختم السورة بتأكيد الأمر في متابعته عليه السلام؛ ليعلم أن أوامره كأوامر القرآن.

واختلف في الأمر الجامع ما هو؛ فقيل: المراد به ما للإمام من حاجة إلى تجمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم وللحروب؛ قال اللّه تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: ١٥٩]. فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك. والإمام الذي يترقب إذنه هو إمام الإمرة، فلا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذنه ارتفع عنه الظن السيئ. وقال مكحول والزهري: الجمعة من الأمر الجامع. وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة، إذا كان يرى المستأذن. قال ابن سيرين: كانوا يستأذنون الإمام على المنبر؛ فلما كثر ذلك قال زياد: من جعل يده على فيه فليخرج دون إذن، وقد كان هذا بالمدينة حتى أن سهل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام. وظاهر الآية يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين. فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه؛ لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة.

وروي أن هذه الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة بن حصن؛ فضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم الخندق على المدينة، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لواذا من العمل ويعتذرون بأعذار كاذبة. ونحوه روى أشهب وابن عبدالحكم عن مالك، وكذلك قال محمد بن إسحاق. وقال مقاتل: نزلت في عمر رضي اللّه عنه، استأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك في الرجعة فأذن له وقال: (انطلق فو اللّه ما أنت بمنافق) يريد بذلك أن يسمع المنافقين. وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إنما استأذن عمر رضي اللّه عنه في العمرة فقال عليه السلام لما أذن له: (يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك).

قلت: والصحيح الأول لتناوله جميع الأقوال.

واختار ابن العربي ما ذكره في نزول الآية عن مالك وابن إسحاق، وأن ذلك مخصوص في الحرب. قال: والذي يبين ذلك أمران:

أحدهما: قوله في الآية الأخرى: {قد يعلم اللّه الذين يتسللون منكم لواذا} [النور: ٦٣]. وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمر اللّه جميعهم بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ وبذلك يتبين إيمانه.

الثاني: قوله: {لم يذهبوا حتى يستأذنوه} وأي إذن في الحدث والإمام يخطب، وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه، وقد قال: {فأذن لمن شئت منهم}؛ فبين بذلك أنه مخصوص في الحرب.

قلت: القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى.

{فأذن لمن شئت منهم} فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم بالخيار إن شاء أن يأذن وإن شاء منع. وقال قتادة: قوله: {فأذن لمن شئت منهم} منسوخة بقوله: {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} [التوبة: ٤٣].

{واستغفر لهم اللّه} أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذرا. {إن اللّه غفور رحيم}.

٦٣

قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} يريد: يصيح من بعيد: يا أبا القاسم! بل عظموه كما قال في الحجرات: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه} [الحجرات:٣] الآية. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول اللّه، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه. ابن عباس: لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة.

{قد يعلم اللّه الذين يتسللون منكم لواذا} التسلل والانسلال: الخروج واللواذ من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك؛ فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة. {لواذا} مصدر في موضع الحال؛ أي متلاوذين، أي يلوذ بعضهم ببعض، ينضم إليه استتارا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة؛ حكاه النقاش، وقد مضى القول فيه.

وقيل: كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه يلوذ بعضهم ببعض. وقال الحسن: لواذا فرارا من الجهاد؛ ومنه قول حسان:

وقريش تجول منا لواذا لم تحافظ وخف منها الحلوم

وصحت واوها لتحركها في لاوذ. يقال: لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا. ولاذ يلوذ لوذا ولياذا؛ انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال؛ فإذا كان مصدر فاعل لم يعل؛ لأن فاعل لا يجوز أن يعل.

قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب. ووجهها أن اللّه تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: {أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره. والفتنة هنا القتل؛ قاله ابن عباس. عطاء: الزلازل والأهوال. جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلط عليهم.

وقيل: الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول. والضمير في {أمره} قيل هو عائد إلى أمر اللّه تعالى؛ قاله يحيى بن سلام.

وقيل: إلى أمر رسوله عليه السلام؛ قال قتادة.

ومعنى {يخالفون عن أمره} أي يعرضون عن أمره. وقال أبو عبيدة والأخفش: {عن} في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة؛ والمعنى: يخالفون بعد أمره؛ كما قال:

... لم تنتطق عن تفضل

ومنه قوله: {ففسق عن أمر ربه} [الكهف: ٥٠] أي بعد أمر ربه.

و{أن} في موضع نصب {بيحذر}. ولا يجوز عند أكثر النحويين حذر زيدا، وهو في {أن} جائز؛ لأن حروف الخفض تحذف معها.

٦٤

قوله تعالى: {ألا إن للّه ما في السماوات والأرض} خلقا وملكا.

{قد يعلم ما أنتم عليه} فهو يجازيكم به.

و{يعلم} هنا بمعنى علم.

{ويوم يرجعون إليه} بعد ما كان في خطاب رجع في خبر وهذا يقال له: خطاب التلوين.

{فينبئهم بما عملوا} أي يخبرهم بأعمالهم ويجازيهم بها.

{واللّه بكل شيء عليم} من أعمالهم وأحوالهم.

﴿ ٠