٣

قوله تعالى: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} تقدم القول فيها. وقال ابن عباس [في قوله: {الم}]: المعنى أنا اللّه أعلم.

وقيل: هو اسم للسورة.

وقيل: اسم للقرآن. {أحسب} استفهام أريد به التقرير والتوبيخ ومعناه الظن {أن يتركوا} في موضع نصب بـ {حسب} وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه و{ أن} الثانية من {أن يقولوا} في موضع نصب على إحدى جهتين بمعنى لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا والجهة الأخرى أن يكون على التكرير؛ والتقدير

{الم أحسب الناس أن يتركوا} أحسبوا {أن يقولوا آمنا وهم يفتنون} قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام؛ كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه وعدة من بني مخزوم وغيرهم فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر أن يمكن اللّه الكفار من المؤمنين؛ قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة اللّه في عباده اختبارا للمؤمنين وفتنة

قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم موجود حكمها بقية الدهر وذلك أن الفتنة من اللّه تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك وإذا أعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر

قلت: ما أحسن ما قال ولقد صدق فيما قال رضي اللّه عنه وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر؛ رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ: (سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة) فجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت: {ألم أحسب الناس أن يتركوا} وقال الشعبي: نزل مفتتح هذه السورة في أناس كانوا بمكة من المسلمين فكتب إليهم أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من الحديبية أنه لا يقبل منكم إقرار الإسلام حتى تهاجروا فخرجوا فأتبعهم المشركون فآذوهم فنزلت فيهم هذه الآية: {ألم أحسب الناس أن يتركوا} فكتبوا إليهم نزلت فيكم آية كذا فقالوا: نخرج وإن اتبعنا أحد قاتلناه؛ فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل فيهم: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} [النحل:١١٠]

{وهم لا يفتنون} يمتحنون؛ أي أظن الذين جزعوا من أذى المشركين أن يُقنع منهم أن يقولوا إنا مؤمنون ولا يمتحنون في إيمانهم وأنفسهم وأموالهم بما يتبين به حقيقة إيمانهم

قوله تعالى: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقي في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين اللّه فلم يرجعوا عنه وروى البخاري عن خباب بن الأرت: قالوا شكونا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا فقال:

(قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه واللّه ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا اللّه والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)

وخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف فقلت: يا رسول اللّه ما أشدها عليك قال:

(إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر) قلت: يا رسول اللّه أي الناس أشد بلاء؟ قال (الأنبياء) وقلت: ثم من قال

(ثم الصالحون إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)

وروى سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول اللّه أي الناس أشد بلاء ؟ قال

(الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا أشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة أبتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)

وروى عبدالرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير فركب يوما فأخذه السبع فأكله فقال عيسى: يا رب وزيري في دينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم سلطت عليه كلبا فأكله قال:

(نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة) وقال وهب: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذ سلك بك سبيل البلاء فقر عينا فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك فقد خولف بك عن سبيلهم

قوله تعالى: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا} أي فليرين اللّه الذين صدقوا في إيمانهم وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} وغيرها قال الزجاج: ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه وقد علم أنه سيقع وقال النحاس: فيه قولان - أحدهما - أن يكون {صدقوا} مشتقا من الصدق و{الكاذبين} مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق ويكون المعنى؛ فليبينن اللّه والذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقا من الصدق وهي الصلب والكاذبين مشتقا من كذب إذا انهزم فيكون المعنى؛ فليعلمن اللّه الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا؛ كما قال الشاعر:

ليثٌ بِعَثَّرَ يصطاد الرجالَ إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا

فجعل {ليعلمن} في موضع فليبينن مجازا وقراءة الجماعة: {فليعلمن} بفتح الياء واللام وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قال النحاس ويحتمل ثلاثة معان:

الأول: أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا؛ بمعنى يوقفهم على ما كان منهم

الثاني: أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره؛ فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين أي يفضحهم ويشتهرهم؛ هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر وذلك في الدنيا والآخرة: الثالث أن يكون ذلك من العلامة؛ أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(من أسر سريرة ألبسه اللّه رداءها)

﴿ ٣