٤٥

قوله تعالى: {اتل} أمر من التلاوة والدؤوب عليها وقد مضى في {طه} الوعيد فيمن أعرض عنها وفي مقدمة الكتاب الأمر بالحض عليها والكتاب يراد به القرآن.

{وأقم الصلاة} الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها وقد تقدم بيان ذلك في {البقرة} فلا معنى للإعادة.

قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} يريد إن الصلوات الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب؛ كما قال عليه السلام:

(أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء) قالوا: لا يبقى من درنه شيء؛ قال:

(فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهن الخطايا) خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال فيه حديث حسن صحيح وقال ابن عمر: الصلاة هنا القرآن والمعنى: الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر وعن الزنى والمعاصي.

قلت: ومنه الحديث الصحيح:

(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) يريد قراءة الفاتحة وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي: العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكرا؛ أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها

قال ابن عطية: وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه فذكر للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال:

(إن الصلاة ستنهاه) فلم يلبث أن تاب وصلحت حال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألم أقل لكم) وفي الآية تأويل ثالث وهو الذي ارتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون؛ فقيل المراد بـ {أقم الصلاة} إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكما منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر؛ وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة والصلاة تشغل كل بدن المصلي فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه وأنه مطلع عليه ويراده صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب اللّه تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة فهذا معنى هذه الأخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون

قلت: لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد فإن الموت ليس له سن محدود ولا زمن مخصوص ولا مرض معلوم وهذا مما لا خلاف فيه وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة أرتعد وأصفر لونه فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي اللّه تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل كصلاتنا - وليتها تجزي فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان فإن كان على طريقة معاص تبعده من اللّه تعالى تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس ولحسن والأعمش قولهم:

(من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من اللّه إلا بعدا) وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك غير صحيح السند

قال ابن عطية سمعت أبي رضي اللّه عنه يقول: فإذا قررنا ونظر معناه فغير جائز أن يقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من اللّه حتى كأنها معصية وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من اللّه بل تتركه على حال ومعاصيه من الفحشاء والمنكر والبعد فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن اللّه وقيل لابن مسعود: إن فلانا كثير الصلاة فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها

قلت: وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث:

(لم تزده من اللّه إلا بعدا ولم يزدد بها من اللّه إلا مقتا) إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء والمنكر لا قدر لصلاته؛ لغلبة المعاصي على صاحبها

وقيل: هو خبر بمعنى الأمر أي لينته المصلى عن الفحشاء والمنكر والصلاة بنفسها لا تنهى ولكنها سبب الانتهاء وهو كقوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية: ٢٩] وقوله:{أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} [الروم: ٣٥].

قوله تعالى: {ولذكر اللّه أكبر} أي ذكر اللّه لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن؛ وهو اختيار الطبري

وروي مرفوعا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في قول اللّه عز وجل: {ولذكر اللّه أكبر} قال:

(ذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه) وقيل: ذكركم اللّه في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضل من كل شيء

وقيل: المعنى؛ إن ذكر اللّه أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر وقال الضحاك: ولذكر اللّه عند ما يحرم فيترك أجلّ الذكر

وقيل: المعنى ولذكر اللّه للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير وأكبر يكون بمعنى كبير وقال ابن زيد وقتادة: ولذكر اللّه أكبر من كل شيء أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر وقيل: ذكر اللّه يمنع من المعصية فإن من كان ذاكرا له لا يخالفه

قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر اللّه أكبر على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر اللّه مراقب له وثواب ذلك أن يذكره اللّه تعالى؛ كما في الحديث

(من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهيٍ. والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من اللّه وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى وذكر اللّه تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة لذكر العبد ربه قال اللّه عز وجل: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: ١٥٢] وباقي الآية ضرب من الوعيد والحث على المراقبة.

﴿ ٤٥