٨

قوله تعالى: {لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم} {ما} لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير، منهم قتادة؛ لأنها نفي والمعنى: لتنذر قوما ما أتى آباءهم قبلك نذير.

وقيل: هي بمعنى الذي فالمعنى: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضا.

وقيل: إن {ما} والفعل مصدر؛ أي لتنذر قوما إنذار آبائهم. ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء؛ فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا. ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم يبلغهم خبر نبي، وقد قال اللّه: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} [سبأ: ٤٤] وقال: {لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} [السجدة: ٣] أي لم يأتهم نبي. وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك، ويقال للمعرض عن الشيء إنه غافل عنه.

وقيل: {فهم غافلون} عن عقاب اللّه.

قوله تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم} أي وجب العذاب على أكثرهم

{فهم لا يؤمنون} بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم اللّه أنه يموت على كفره. ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا}. قيل: نزلت في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزوميين؛ وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر؛ فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده؛ قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما؛ فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من علت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه. فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى اللّه بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: واللّه ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: واللّه لأشدخن أنا رأسه. ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني. فأنزل اللّه تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون}.

وقرأ ابن عباس: {إنا جعلنا في أيمانهم}. وقال الزجاج: وقرئ {إنا جعلنا في أيديهم}. قال النحاس: وهذه القرأءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة؛ التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: ٨١] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف؛ لأن ما وقى من الحر وقى من البرد؛ لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال اللّه عز وجل: {فهي إلى الأذقان} فقد علم أنه يراد به الأيدي.

{فهم مقمحون} أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه.

روى عبداللّه بن يحيى: أن علي بن أبي طالب عليه السلام أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال النحاس، وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال: يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. قال النحاس: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها. كما يقال: قهرته وكهرته. قال الأصمعي: يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها. ومنه قول الشاعر:... والرأس مكمح

ويقال: أكمحتها وأكفحتها وكبحتها؛ هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي. وقمح البعير قموحا: إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، فهو بعير قامح وقمح؛ يقال: شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا. وقد قامحت إبلك: إذا وردت ولم تشرب، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد. وهي إبل مقامحة، وبعير مقامح، وناقة مقامح أيضا، والجمع قماح على غير قياس؛ قال بشر يصف سفينة:

ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح

والإقماح: رفع الرأس وغض البصر؛ يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه. وشهرا قماح: أشد ما يكون من البرد، وهما الكانونان سميا بذلك؛ لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رؤوسها؛ ومنه قمحت السويق.

وقيل: هو مثل ضربه اللّه تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول؛ قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة. وكما يقال: فلان حمار؛ أي لا يبصر الهدى. وكما قال:

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

وفي الخبر: أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول:

فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق. وقال الفراء أيضا: هذا ضرب مثل؛ أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل اللّه؛ وهو كقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} [الإسراء: ٢٩] وقال الضحاك.

وقيل: إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه، وغاضا بصره لا يفتحه. والمتكبر يوصف بانتصاب العنق. وقال الأزهري: إن أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل ترفع رؤوسها. وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم.

وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل؛ كما قال تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: ٧١] وأخبر عنه بلفظ الماضي. {فهم مقمحون} تقدم تفسيره. قال مجاهد: {مقمحون} مغلون عن كل خير.

﴿ ٨