ÓõæÑóÉõ ÇáúÍõÌõÑóÇÊö ãóÏóäöíøóÉñ þæóåöíó ËóãóÇäöíó ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð سورة الحجرات ١ فيه ثلاث مسائل: الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله} قال العلماء: كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وتلقيب الناس. فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي: {لا تَقَدَّموا} بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون {تُقدِموا} بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي اللّه وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقد قدمه على اللّه تعالى، لأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم إنما يأمر عن أمر اللّه عز وجل. الثانية: واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة: الأول: ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبداللّه بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم}. رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح، ذكره المهدوي أيضا. الثاني: ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله}. ذكره المهدوي أيضا. الثالث: ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤوا إلى المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول اللّه صلى فقالوا: ان بيننا وبينك عهدا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي صلى اللّه عليه وسلم بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين. وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا، لو أنزل فيّ كذا؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد: لا تفتاتوا على اللّه ورسول حتى يقضي اللّه على لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا. الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ابن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر اللّه تعالى به ورسوله صلى اللّه عليه وسلم. قلت: هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فاللّه أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب، واللّه أعلم. قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين. إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلة الفقير، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب. الثالثة: قوله تعالى: {لا تقدموا بين يدي اللّه} أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى اللّه عليه وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في مرضه: {مروا أبا بكر فليصل بالناس}. فقالت عائشة لحفصة رضي اللّه عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمع الناس من البكاء، فَمُرْ عمر فليصل بالناس. فقال صلى اللّه عليه وسلم: {إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس}. فمعنى قول {صواحب يوسف} الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز. وربما احتج بُغَاةُ القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذاً تقدمٌ بين يديه. {واتقوا اللّه} يعني في التقدم المنهي عنه. {إن اللّه سميع} لقولكم {عليم} بفعلكم. ٢ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عبداللّه بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه استعمله على قومه، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول اللّه، فتكلما عند النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، قال: فنزلت هذه الآية: {يا أيها لذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، لم يذكر فيه عن عبداللّه بن الزبير. قلت: هو البخاري، قال: عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل اللّه عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية. فقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي اللّه عنه: نزل قوله: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة، فقضى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لجعفر، لأن خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في {آل عمران}. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول اللّه، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: {اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة} {لفظ البخاري} وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد. وقيل: أبا عبدالرحمن. قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد: محمد، ويحيى، وعبداللّه. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له خطيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما يقال لحسان شاعر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ولما قدم وفد تميم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهوالأقرع بن حابس فأنشد: أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خلفونا عند ذكر المكارم وإنا رؤوس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وإن لنا المرباع في كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم فقام حسان فقال: بني دارم لا تفخروا إن فخركم يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم في أبيات لهما.فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل اللّه تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول}. وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صلى اللّه عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام: {لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير}. قال: ثم أنزل اللّه: {إن اللّه لا يحب كل مختال فخور} {لقمان: ١٨} فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صلى اللّه عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول اللّه، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: {لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة}. قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يعني أبا بكر - فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، رحمه اللّه، ذكره أبو عمر في الاستيعاب. قوله تعالى: {ولا تجهروا له بالقول} أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبي اللّه، ويا رسول اللّه، توقيرا له. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى اللّه عليه وسلم، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك. وقيل: {لا تجهروا له} أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لفيه، أي على فيه - {كجهر بعضكم لبعض} الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. {لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} أي من أجل أن تحبط، أي تبطل، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم.معنى الآية الأمر بتعظيم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وفي قراءة ابن مسعود {لا ترفعوا بأصواتكم}. وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء. قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلى اللّه عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه اللّه سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} {الأعراف: ٢٠٤}. وكلامه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه. ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسِه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبدالمطلب لما انهزم الناس يوم حنين: {اصرخ بالناس}، وكان العباس أجهر الناس صوتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس: يا صاحباه فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة: زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه. قال الزجاج: {أن تحبط أعمالكم} التقدير لأن تحبط، أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ٣ قوله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه} أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة: لما نزلت {لا ترفعوا أصواتكم} قال أبو بكر رضي اللّه عنه: واللّه لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار. وذكر سنيد قال: حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: لما نزلت: {لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله} {الحجرات: ١} قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار. وقال عبداللّه بن الزبير: لما نزلت: {لا ترفعوا أصواتكم} ما حدث عمر عند النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض، فنزلت: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى}. قال الفراء: أي أخلصها للتقوى. وقال الأخفش: أي اختصها للتقوى. وقال ابن عباس: {امتحن اللّه قلوبهم للتقوى} طهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من اللّه والتقوى. وقال عمر رضي اللّه عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى أمتحن اللّه قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الأقوال المتقدمه: امتحن قلوبهم فأخلصها، كقولك: امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام، وهو الإخلاص. وقال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد: أتت رذايا باديا كلالها قد محنت واضطربت آطالها {لهم مغفرة وأجر عظيم}. ٤ قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم، قدم الوفد منهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى اللّه عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين. وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم نام للقائلة. وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس، وأنه القائل: إن مدحي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ذاك اللّه}. ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا. وروى زيد بن أرقم فقال: أتى أناس النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه، وإن يكن ملكا نعش في جنابه. فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل كانوا تسعة عشر: قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن وهو الأحمق المطاع، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة، أي يتبعه، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتركان في عينيه ذكر عبدالرزاق في عيينة هذا: أنه الذي نزل فيه {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} {الكهف: ٢٨}. وقد مضى في آخر {الأعراف} من قول لعمر رضي اللّه عنه ما فيه كفاية، ذكره البخاري. وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راقد، فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد، أخرج إلينا، فاستيقظ وخرج، ونزلت. وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: {هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت اللّه عليهم أن يهلكهم}. والحجرات جمع الحجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة. وقيل: الحجرات جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع. وفيه لغتان: ضم الجيم وفتحها. قال: ولما رأونا باديا ركباتنا على موطن لا نخلط الجد بالهزل والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {الحجرات} بفتح الجيم استثقالا للضمتين. وقرئ {الحجرات} بسكون الجيم تخفيفا. وأصل الكلمة المنع. وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال: {أكثرهم لا يعقلون} أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل. ٥ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم واللّه غفور رحيم أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح في دينهم ودنياهم. وكان صلى اللّه عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيهما بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب وقيل: كانوا جاؤوا شفعاء في أساري بني عنبر فأعتق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نصفهم، وفادي على النصف. ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. {واللّه غفور رحيم}. ٦ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {التأني من اللّه والعجلة من الشيطان}. وفي رواية: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوا صدقاتهم. فهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللّه، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمر راجعا، وبلغنا أنه يزعم لرسول اللّه أنا خرجنا لنقاتله، واللّه ما خرجنا لذلك، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا. قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبداللّه: الفاسق الكذاب. وقال أبو الحسن الوراق: هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من اللّه. وقرأ حمزة والكسائي {فتثبتوا} من التثبت. الباقون {فتبينوا} من التبيين {أن تصيبوا قوما} أي لئلا تصيبوا، فـ {أن} في محل نصب بإسقاط الخافض. {بجهالة} أي بخطأ. {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} على العجلة وترك التأني.في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استئنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل أن يقول: هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. وإذا قال: قد أنفذ فلان هذا لك هدية، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا. وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون وليا في النكاج. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي مالها فيلي بضعها. كالعدل، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة، وإذا ولي المال فالنكاج أولى. قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم، كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساؤوا فآجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة للّه، ومنهم من كان يجعلها صلاته. ويوجوب الإعادة أقول، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة، ولكن يعيد سرا في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره.وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى، فإن الكلام كثير والحق ظاهر.لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله، أو إذن يعلمه، إذا لم يخرج عن حق المرسل، والمبلغ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية اليه، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها شيء لعدمهم في ذلك. واللّه أعلم.وفي الآية دليل على فساد. من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن اللّه تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة.فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدليين، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القشيري، والذي قبلها المهدوي ٧ انظر تفسير الآية ٨ ٨ قوله تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول اللّه} فلا تكذبوا، فإن اللّه يعلمه أنباءكم فتفتضحون. {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر لنالكم مشقة وإثم، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه لكان خطأ، ولعنت من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ومعنى طاعة الرسول لهم: الإئتمار بما يأمر به فيما يبلغونه عن الناس والسماع منهم. والعنت الإثم، يقال: عنت الرجل. والعنت أيضا الفجور والزني، كما في سورة {النساء}. والعنت أيضا الوقوع في أمر شاق، وقد مضى في آخر {التوبة} القول في {عنتم} {التوبة: ١٢٨} بأكثر من هذا. {ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان} هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل، أي جعل الإيمان أحب الأديان إليكم. {وزينه في قلوبكم} {وزينه} بتوفيقه. {في قلوبكم} أي حسنه إليكم حتى اخترتموه. وفي هذا رد على القدرية والإمامية وغيرهم، حسب ما تقدم في غير موضع. فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا شريك له. {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} قال ابن عباس: يريد به الكذب خاصة. وقاله ابن زيد. وقيل: كل ما خرج عن الطاعة، مشتق من فسقت الرطبة خرجت من قشرها. والفأرة من جحرها. وقد مضى في {البقرة} القول فيه مستوفى. والعصيان جمع المعاصي. ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال: {أولئك} يعني هم الذين وفقهم اللّه فحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر أي قبحه عندهم {الراشدون} كقوله تعالى: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه اللّه فأولئك هم المضعفون} {الروم: ٣٩}. قال النابغة: يا دارَمَيَّةَ بالعلياء فالسند أقوَتْ وطال عليها سالف الأمد والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، من الرشاد وهي الصخرة. قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد: وغير مقلد وموشمات صلين الضوء من صم الرشاد {فضلا من اللّه ونعمة} أي فعل اللّه ذلك بكم فضلا، أي الفضل والنعمة، فهو مفعول له. {واللّه عليم حكيم} {عليم} بما يصلحكم {حكيم} في تدبيركم. ٩ قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال: قلت: يا نبي اللّه، لو أتيت عبداللّه بن أبي؟ فانطلق إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فركب حمار وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: إليك عني فواللّه لقد أذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: واللّه لحمار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أطيب ريحا منك. فغضب لعبداللّه رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في الأوس والخزرج. قال مجاهد: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية. ومثله عن سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه، فأنزل اللّه هذه الآية فيهم. وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة، لكثرة عشيرته. ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأبي أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف، فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: نزلت في حرب سُمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت. وأمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما. وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل من غير الأنصار، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى قومها، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال، فنزلت الآية. والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والأثنين، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبداللّه {حتى يفيؤوا إلى أمر اللّه فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط}. وقرأ ابن أبي عبلة {اقتتلتا} على لفظ الطائفتين. وقد مضى في آخر {التوبة} القول فيه. وقال ابن عباس في قوله عز وجل: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} {الروم: ٢} قال: الواحد فما فوقه، والطائفة من الشيء القطعة منه. {فأصلحوا بينهما} بالدعاء إلى كتاب اللّه لهما أو عليهما. {فإن بغت إحداهما على الأخرى} تعدت ولم تجب إلى حكم اللّه وكتابه.والبغي: التطاول والفساد. {حتى تفيء إلى أمر اللّه} أي ترجع إلى كتابه. {فإن فاءت} أي فإن رجعت {فأصلحوا بينهما بالعدل} أي احملوهما على الإنصاف. {وأقسطوا} أقسطوا أيها الناس فلا تقتتلوا. وقيل: أقسطوا أي اعدلوا. {إن اللّه يحب المقسطين} أي العادلين المحقين. قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضرحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. واللّه أعلم.في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين. وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقوله عليه السلام: {قتال المؤمن كفر}. ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان اللّه تعالى قد أمر بالكفر، تعالى اللّه عن ذلك وقد قاتل الصديق رضي اللّه عنه: من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مُولٍّ، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم، بخلاف الواجب في الكفار. وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم اللّه عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام: {خذوا على أيدي سفهائكم}. قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عني النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله: {تقتل عمارا الفئة الباغية}. وقوله عليه السلام في شأن الخوارج: {يخرجون على خير فرقة أو على حسين فرقة}، والرواية الأولى أصح، لقوله عليه السلام: {تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق}. وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي اللّه عنه كان إماما، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتال واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح، لأن عثمان رضي اللّه عنه قتل والصحابة برآء من دمه، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أول من خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة. ثم لم يمكن ترك الناس سدي، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشوري، وتدافعوها، وكان علي كرم اللّه وجهه أحق بها وأهلها، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل. فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام. فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي اللّه عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه. فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحاً ومساءً. فكان علي في ذلك أشد رأيا وأصوب قيلا، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم، فيجري القضاء بالحق.ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وكذلك جرى لطلحة والزبير، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى. قلت: فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم. وقال جلة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم، وتم الصلح والتفرق على الرضا. فخاف قتلة عثمان رضي اللّه عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم أتفقت آراوهم على أن يفترقوا فريقين، ويبدأوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير. والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي. فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه، ومانعا من الإشاطة بدمه. وهذا صواب من الفريقين وطاعة للّه تعالى، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل. وهذا هوالصحيح المشهور. واللّه أعلم. قوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه} أمر بالقتال. وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي اللّه عنهم عن هذه المقامات، كسعد بن أبي وقاص وعبداللّه بن عمرو ومحمد بن مسلمة وغيرهم. وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه. ويروي أن معاوية رضي اللّه عنه لما أفضى إليه الأمر، عاتب سعدا على ما فعل، وقال له: لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين أقتتلا، ولا ممن قاتل الفئة الباغية. فقال له سعد: ندمت على تركي قتال الفئة الباغية. فتبين أنه ليس على الكل درك فيما فعل، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بمقتضى الشرع. واللّه أعلم. قوله تعالى: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل} ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل. وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي. وهذا أصل في المصلحة. وقد قال لسان الأمة: إن حكمة اللّه تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفعله. إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو من فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، ولا تسبي ذراريهم ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي، أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا. ولا يرث قاتل عمدا على حال. وقيل: إن العادل يرث الباغي، قياسا على القصاص.وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به. وقال أبو حنيفة: يضمنون. وللشافعي قولان. وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان. والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي اللّه عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة.وقال ابن عمر: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {يا عبداللّه أتدري كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمة} ؟ قال: اللّه ورسوله أعلم. فقال: {لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب طلب هاربها ولا يقسم فيئها}. فأما ما كان قائما رد بعينه.هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له. وذكر الزمخشري في تفسيره: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن، إلا عند محمد بن الحسن رحمه اللّه فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع. فحمل الإصلاح بالعدل في قوله: {فأصلحوا بينهما بالعدل} على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل. وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد. والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات، ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول؟ قلت: لأن المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة، إلا إذا أصرتا فحينئذ تجب المقاتلة، وأما الضمان فلا يتجه. وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين.ولو تغلبوا {أي البغاة} على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود وحكموا فيهم بالأحكام، لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة، قال مطرف وابن الماجشون. وقال ابن القاسم: لا تجوز بحال. وروي عن أصبغ أنه جائز. وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم. وبه قال أبو حنيفة، لأنه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته. فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة. والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي اللّه عنهم، لما أنجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح، لم يعرضوا لأحد منهم في حكم. قال ابن العربي: الذي عندي أن ذلك لا يصلح، لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي، ولم يكن هناك من يعترضه واللّه أعلم.لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا اللّه عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى اللّه عليه وسلم عن سبهم، وأن اللّه غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه، لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه. ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار. وقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: {بشر قاتل ابن صفية بالنار}. وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا أثمين بالقتال، لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى اللّه عليه وسلم في طلحة: {شهيد}. ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار. وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل. بل صواب أراهم اللّه الاجتهاد. وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم، وإبطال فضائلهم وجهادهم، وعظيم غنائهم في الدين، رضي اللّه عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} {البقرة: ١٤١}. وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: تلك دماء طهر اللّه منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. قال ابن فورك: ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة. وقال المحاسبي: فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم. وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم أجتهدوا وأرادوا اللّه عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل اللّه التوفيق. ١٠ قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد اللّه إخوانا}. وفي رواية: {لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد اللّه إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب أمريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} لفظ مسلم. وفي غير الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه ولا يخذله ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها}. ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {احفظوا ولابحفظ منكم إلا قليل}. قوله تعالى: {فأصلحوا بين أخويكم} أي بين كل مسلمين تخاصما. وقيل: بين الأوس والخزرج، على ما تقدم. وقال أبو علي: أراد بالأخوين الطائفتين، لأن لفظ التثنية يرد والمراد به الكثرة، كقوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} {المائدة: ٦٤}. وقال أبو عبيدة: أي أصلحوا بين كل أخوين، فهو آت على الجميع. وقرأ ابن سيرين ونصر بن عاصم وأبو العالية والجحدري ويعقوب {بين إخوتكم} بالتاء على الجمع. وقرأ الحسن {إخوانكم}. الباقون: {أخويكم} بالياء على التثنية.في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن اللّه تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين. قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وهو القدوة عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون اللّه إلا قليلا. قيل له: فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا. ١١ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} قيل عند اللّه. وقيل {خيرا منهم} أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا {بالتحريك} ومسخرا وسخرا {بالضم}. وحكى أبو زيد سخرت به، وهو أردأ اللغتين. وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال. والاسم السخرية والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} {الزخرف: ٣٢} وقد تقدم. وفلان سخرة، يتسخر في العمل. يقال: خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة {بفتح الخاء} يسخرمن الناس.واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، فإذا سبقوه الى مجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما انصرف النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه، فربض كل رجل منهم بمجلسه، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطي رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس فجلس ثابت من خلفه مغضبا، ثم قال: من هذا؟ قالوا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة يعيره بها، يعني أما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول {السورة} استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رءاه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره اللّه، والاستهزاء بمن عظمه اللّه. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبداللّه بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و {قوم} في اللغة للمذكرين خاصة. قال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساءوسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد. وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا، وقد مضى في {البقرة} بيانه. قوله تعالى: {ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر. وقد قال اللّه تعالى: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} {نوج: ١} فشمل الجميع. قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي اللّه عنهما: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم، عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي اللّه إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد}. فأنزل اللّه هذه الآية. في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي صلى اللّه عليه وسلم رجلا، فقال: {ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا}. قالت فقلت: يا رسول اللّه، إن صفية امرأة - وقالت بيدها - هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال: {لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج}. وفي البخاري عن عبداللّه بن زمعة قال: نهى النبى صلى اللّه عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس. وقال: {لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}. وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم اللّه من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم اللّه من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وباللّه التوفيق. قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} اللمز: العيب، وقد مضى في {التوبة} عند قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} {التوبة: ٥٨}. وقال الطبري: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} {النساء: ٢٩} أي لا يقتل بعضكم بعضا، لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وك قوله تعالى: {فسلموا على أنفسكم} {النور: ٦١} يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا. وقرئ: {ولا تُلمزوا} بالضم. وفي قوله: {أنفسكم} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، قال صلى اللّه عليه وسلم: {المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}. وقال بكر بن عبداللّه المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال صلى اللّه عليه وسلم: {يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه} وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. وقال الشاعر: المرء إن كان عاقلا ورعا أشغله عن عيوبه ورعهكما السقيم المريض يشغله عن وجع الناس كلهم وجعهوقال آخر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك اللّه سترا عن مساويكاواذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا قوله تعالى: {ولا تنابزوا بالألقاب} النبز {بالتحريك} اللقب، والجمع الأنباز. والنبز {بالتسكين} المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب: أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية: {ولا تنابزوا بالألقاب}. قال هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري. وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة. وفي مصنف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة {ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} قال: قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول اللّه، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية: {ولا تنابزوا بالألقاب}. فهذا قول. وقول ثان - قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة. وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق، وقاله مجاهد والحسن أيضا. {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قال ابن زيد. وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح {من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه}. فمن فعل ما نهى اللّه عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي اللّه عنه كان عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه} يعني بالتقوى، ونزلت: {ولا تنابزوا بالألقاب}. وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى اللّه أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: {من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على اللّه أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة}. وقع من ذلك مستثني من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الأمة وأتفق على قول أهل الملة. قال ابن العربي: وقد ورد لعمر اللّه من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة، لأنه صحف {خرزة} فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مطين، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله: أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية. واللّه أعلم. قلت: وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه اللّه في {كتاب الأدب} من الجامع الصحيح. في {باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل} قال: وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ما يقول ذو اليدين} قال أبو عبداللّه بن خويز منداد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك. الزمخشري: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم {من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه}. ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي اللّه عنه: أشيعوا الكني فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللّه، وخالد بسيف اللّه. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب. قلت: فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبداللّه بن المبارك عن الرجل يقول: حُميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحُميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبداللّه بن سرجس قال: رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر. في رواية الأصيلع. قوله تعالى: {ومن لم يتب} أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون. {فأولئك هم الظالمون} لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي. ١٢ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن} قيل: إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما، فقالا له: انطلق فاطلب لنا من النبي صلى اللّه عليه وسلم طعاما وإداما، فذهب فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: {اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك} وكان أسامة خازن النبي صلى اللّه عليه وسلم، فذهب إليه، فقال أسامة: ما عندي شيء، فرجع إليهما فأخبرهما، فقالا: قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا، فقالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سُمَيحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء، فرآهما النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: {مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما} فقالا: يا نبي اللّه، واللّه ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال: {ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة} فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير.ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: {إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللّه إخوانا} لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: {ولا تجسسوا} وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والعلاج، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من أشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم {إن اللّه حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء}. وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت.وللظن حالتان: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانيه: أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبداللّه بالظن وجواز العمل به، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة {إياكم والظن} فإن هذا لا حجة فيه، لأن الظن في الشريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى: {إن بعض الظن إثم}، وقوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} {النور: ١٢}، وقوله: {وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} {الفتح: ١٢} وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على اللّه أحدا}. وقال: {إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض} خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح، قاله المهدوي. قوله تعالى: {ولا تجسسوا} قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما {ولا تحسسوا} بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فقال الأخفش: ليس تبعد إحداهما من الأخرى، لأن التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس {بالحاء} طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل: إن التجسس {بالجيم} هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق: أنه بالحاء تطلبه لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره، قال ثعلب. والأول أعرف. جسست الأخبار وتجسستها أي تفحصت عنها، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره اللّه. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: {إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم} فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفعه اللّه تعالى بها. وعن المقدام بن معد يكرب عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: {إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم}. وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبداللّه: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع اللّه عورته ومن يتبع اللّه عورته يفضحه في بيته}. وقال عبدالرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى !؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى اللّه عنه، قال اللّه تعالى: {ولا تجسسوا} وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو قلابة: حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك قد نهاك اللّه عن التجسس، فخرج عمر وتركه. وقال زيد بن أسلم: خرج عمر وعبدالرحمن يعسان، إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! قال عمر: فمن هذه منك؟ قال امرأتي، قال فما في هذا القدح؟ قال ماء زلال، فقال للمرأة: وما الذي تغنين؟ فقالت: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبهفواللّه لولا اللّه أني أراقبه لزعزع من هذا السرير جوانبهولكن عقلي والحياء يكفني وأ كرم بعلي أن تنال مراكبهثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال اللّه تعالى: {ولا تجسسوا}. قال صدقت. قلت: لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل، لأن عمر لا يقر على الزنى، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها، وأنها قالتها في مغيبه عنها. واللّه أعلم. وقال عمرو بن دينار: كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها، فسقط من كمه كيس فيه دنانير، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال: لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا، فجاء إلى أمه فقال: أخبريني ما كان عمل أختي؟ فقالت: قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها فلم يزل بها حتى قالت له: كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم، فقال: بهذا هلكت قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} نهى عز وجل عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: {أتدرون ما الغيبة} ؟ قالوا: اللّه ورسول أعلم. قال: {ذكرك أخاك بما يكره} قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: {إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته}. يقال: اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب اللّه تعالى: الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال: قال لي معاومة - يعني ابن قرة -: لو مر بك رجل أقطع، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة: فذكرته لأبي إسحاق فقال صدق. وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فسمع نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا الذي ستر اللّه عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: {أين فلان وفلان} ؟ فقالا: نحن ذا يا رسول اللّه، قال: {انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار} فقالا: يا نبي اللّه ومن يأكل من هذا ! قال: {فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها}. قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} مثل اللّه الغيبة بأكل الميتة، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس: إنما ضرب اللّه هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. وقال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية. وقال الشاعر: فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وقال صلى اللّه عليه وسلم: {ما صام من ظل يأكل لحوم الناس}. فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا. وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم}. وعن المستورد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: {من أكل برجل مسلم أكلة فإن اللّه يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن اللّه يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن اللّه يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة}. وقد تقدم قوله صلى اللّه عليه وسلم: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين}. وقوله للرجلين: {ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما}. وقال أبو قلابة الرقاشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال: قام رجل من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا: يا رسول اللّه ما أعجز فلانا فقال: {أكلتم لحم أخيكم وأغتبتموه}. وعن سفيان الثوري قال: أدني الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط، إلا أنه يكره ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: إياكم وذكر الناس فإنه داء، وعليكم بذكر اللّه فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي اللّه عنهما رجلا يغتاب آخر، فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا: ذلك فعل اللّه به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا: لا تكون الغيبة إلا في الخَلْق والخُلُق والحسب. والغيبة في الخلق أشد، لأن من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية: إنها امرأة قصيرة، فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم: {لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته}. خرجه أبو داود. وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء، لأن العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين، لأن عيب الدين أعظم العيب، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قول عليه السلام: {إذا قلت في أخيك ما يكره فقد أغتبته...} الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم نصا. وكفى بعموم قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: {دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام} وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي: {من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحللّه منه}. فعم كل عرض، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم.لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى اللّه عز وجل. وهل يستحل المغتاب؟ اختلف فيه، فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقال فرقة: هي مظلمة، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة: هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: {من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحللّه منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته}. خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال وسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحللّه منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه}. وقد تقدم هذا المعنى في سورة {آل عمران} عند قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء} {آل عمران: ١٦٩}. وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة: ما أطول ذيلها فقالت لها عائشة: لقد اغتبتيها فاستحليها. فدلت الآثار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال: إنما الغيبة في المال والبدن، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال، وقد قال اللّه تعالى في القاذف: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند اللّه هم الكاذبون} {النور: ١٣}. وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه اللّه في طينة الخبال}. وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال: إنها مظلمة، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال: كفارتها أن يستغفر لصاحبها، لأن قول مظلمة تثبت ظلامة المظلوم، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللّها منه}. وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، ورأى أنه لا يحل ما حرم اللّه عليه، منهم سعيد بن المسيب قال: لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين: يا أبا بكر، هذا رجل سألك أن تحللّه من مظلمة هي لك عنده، فقال: إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن اللّه حرم الغيبة عليه، وماكنت لأحل ما حرم اللّه عليه أبدا. وخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم يدل على التحليل، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه} {الشوري: ٤٠}.ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر، فإن في الخبر {من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له}. وقال صلى اللّه عليه وسلم: {اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس}. فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب الهوي، والفاسق المعان، والإمام الجائر. وقال الحسن لما مات الحجاج: اللّهم أنت أمته فاقطع عنا سنته - وفي رواية شينه - فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، واللّه ما عرق فيها غبار في سبيل اللّه، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من اللّه يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه اللّه وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن: هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال: ليس لأهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي، ليس بغيبة. وعلماء الأمة على ذلك مجمعة. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في ذلك: {لصاحب الحق مقال}. وقال: {مطل الغني ظلم} وقال] {لي الواجد يحل عرضه وعقوبته}. ومن ذلك الاستفتاء، كقول هند للنبي صلى اللّه عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {نعم فخذي}. فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها، ولم يرها مغتابة، لأنه لم يغير عليها، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة، كقوله صلى اللّه عليه وسلم: {أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه}. فهذا جائز، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه اللّه. قوله تعالى: {ميتا} وقريء {ميتا} وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الأخ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى: {فكرهتموه} وفيه وجهان: أحدهما: فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة، روي معناه عن مجاهد. الثاني: فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس. وقال الفراء: أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي اكرهوه. {واتقوا اللّه} عطف عليه. وقيل: عطف على قوله: {اجتنبوا ولا تجسسوا}. {إن اللّه تواب رحيم}. ١٣ قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم بن ذكر وأنثى} يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند، ذكره أبو داود في {المراسيل}، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال: أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل اللّه عز وجل: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا} الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {من الذاكر فلانة} ؟ قال ثابت: أنا يا رسول اللّه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {انظر في وجوه القوم} فنظر، فقال: {ما رأيت} ؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: {فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى} فنزلت في ثابت هذه الآية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس} {المجادلة: ١١} الآية. قال ابن عباس: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد للّه الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. قال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد اللّه شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى. وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب بمكة فقال: (يا أيها الناس إن اللّه قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على اللّه، وفاجر شقي هين على اللّه. والناس بنو آدم وخلق اللّه آدم من تراب قال اللّه تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم إن اللّه عليم خبير} ). خرجه من حديث عبداللّه بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب {آداب النفوس} وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: حدثني أو حدثنا من شهد خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: {أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب}. وفيه عن أبو مالك الأشعري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {إن اللّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن اللّه عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم}. ولعلي رضي اللّه عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره: الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظم خلقت فيهم وأعضاء فإن يكن لهم من أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال سيماء وضد كل امرئ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء بين اللّه تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، وكذلك في أول سورة {النساء}. ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق اللّه منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه، فلعله هذا القسم، قاله ابن العربي.خلق اللّه الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا، وخلق لهم منها التعارف، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها، فصار كل أحد يحوز نسبه، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه، بقول للعربي: يا عجمي، وللعجمي: يا عربي، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى.ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين. فجعلناه في قرار مكين} {المرسلات: ٢١}. و قوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} {السجدة: ٨}. وقوله: {ألم يك نطفة من مني يمنى} {القيامة: ٣٧}. فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعال: {خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب} {الطارق: ٦} والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن اللّه تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل، وعن ذلك يكون الشبه، حسب ما تقدم بيانه في آخر {الشورى}. وقد قال في قصة نوج: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} {القمر: ١٢} وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض، لأن الالتقاء لا يكون إلا من أثنين، فلا ينكر أن يكون {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} {السجدة: ٨}. و قوله تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين} {المرسلات: ٢١} ويريد ماءين. واللّه أعلم. قوله تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} الشعوب رؤوس القبائل، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، وأحدها شَعْب بفتح الشين، سموا به لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الأضداد، يقال شعبته إذا جمعته، ومنه المشعب {بكسر الميم} وهو الإشفي، لأنه يجمع به ويشعب. قال: فكاب على حر الجبين ومتق بمدرية كأنه ذلق مشعب وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة. فأما الشعب {بالكسر} فهو الطريق في الجبل، والجمع الشعاب. قال الجوهري: الشعب: ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. والشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث: أن رجلا من الشعوب أسلم، فإنه يعني من العجم. والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس: الشعوب الجمهور، مثل مضر. والقبائل الأفخاذ. وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب. وقال قتادة. ذكر الأول عنه المهدوي، والثاني الماوردي. وقال الشاعر: رأيت سعودا من شعوب كثيرة فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك وقال آخر: قبائل من شعوب ليس فيهم كريم قد يعد ولا نجيب وقيل: إن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل: إن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال ابن عباس في رواية: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب. قال القشيري: وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل والترك، والقبائل من العرب. الماوردي: ويحتمل أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشركون في الأنساب. وقال الشاعر: وتفرقوا شعبا فكل جزيرة فيها أمير المؤمنين ومنبر وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه: الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ. وقيل: الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة، وقد نظمها بعض الأدباء فقال: اقصد الشعب فهو أكثر حي عددا في الحواء ثم القبيله ثم تتلوها العمارة ثم الـ ـبطن والفخذ بعدها والفصيله ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرناه قليله وقال آخر: قبيلة قبلها شعب وبعدهما عمارة ثم بطن تلوه فجذ وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ولا سداد لسهم ماله قذذ قوله تعالى: {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} وقد تقدم في سورة {الزخرف} عند قوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} {الزخرف: ٤٤}. وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند اللّه تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقريء {أن} بالفتح. كأنه قيل: لم يتفاخر بالأنساب؟ قيل: لأن أكرمكم عند اللّه أتقاكم لا أنسبكم. وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: {الحسب المال والكرم التقوى}. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى: {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم}، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام: {من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه}. والتقوى معناه مراعاة حدود اللّه تعالى أمرا ونهيا، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به، والتنزه عما نهاك عنه. وقد مضى هذا في غير موضع. وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: {إن اللّه تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون}. وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: {إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب. يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا}. وأعرض في كل عطفيه. وفي صحيح مسلم من حديث عبداللّه بن عمرو قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جهارا غير سر يقول: {إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي اللّه وصالح المؤمنين}. وعن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل: من أكرم الناس؟ فقال: {يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم} قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: {فأكرمهم عند اللّه أتقاهم} فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: {عن معادن العرب؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} وأنشدوا في ذلك: ما يصنع العبد بعز الغني والعز كل العز للمتقي من عرف اللّه فلم تغنه معرفة اللّه فذاك الشقي ذكر الطبري حدثني عمر بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال: تزوج رجل من الأنصار امرأة فطُعِن عليها في حسبها، فقال الرجل: إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة}. ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {إن اللّه تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية}. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه وأعلمكم بما أتقي} ولذلك كان أكرم البشر على اللّه تعالى. قال ابن العربي: وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبداللّه عن مالك: يتزوج المولى العربية، واحتج بهذه الآية. وقال أبو حنيفة والشافعي: يراعى الحسب والمال. وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم - تبني سالما وأنكحه هندا بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار. وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود. قلت: وأخت عبدالرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدل على جواز نكاح الموالي العربية، وإنما تراعى الكفاءة في الدين. والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر عليه رجل فقال: {ما تقولون في هذا} ؟ فقالوا: حَري إن خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشْفَّع وإن قال أن يُسْمَع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: {ما تقولون في هذا} قالوا: حري إن خطب ألا يُنْكَح، وإن شفع ألا يُشَفّع، وإن قال ألا يُسمَع. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {هذا خير من ملء الأرض مثل هذا}. وقال صلى اللّه عليه وسلم: {تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك}. وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها، قال بلال: يا رسول اللّه، ماذا لقيت من بني البكير خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أجل بلال، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا: ماذا لقينا من سببك؟ فقالت أختهم: أمري بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فزوجوها. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في أبي هند حين حجمه: {أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه}. وهو مولى بني بياضة. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {من سره أن ينظر إلى من صور اللّه الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند}. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {أنكحوه وأنكحوا إليه}. قال القشيري أبو نصر: وقد يعتبر النسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى. ١٤ قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} نزلت في أعرب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر. وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعاوها، وكانوا يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أتينال بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية. وقال ابن عباس: نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا، فأعلم اللّه أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين. وقال السدي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا، فنزلت. وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب، لأن منهم من يؤمن باللّه واليوم الآخر كما وصف اللّه تعالى. ومعنى {ولكن قولوا أسلمنا} أي استسلمنا خوف القتل والسبي، وهذه صفة المنافقين، لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب. وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبي صلى اللّه عليه وسلم في الظاهر، وذلك يحقن الدم. {وإن تطيعوا اللّه ورسوله} يعني إن تخلصوا الإيمان {لا يلتكم} أي لا ينقصكم. {من أعمالكم شيئا} لاته يليته ويلوته: نقصه. وقرأ أبو عمرو {لا يألتكم} بالهمزة، من ألت يألت ألتا، وهو اختيار أبي حاتم، اعتبارا بقوله تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيء} {الطور: ٢١} وقال الشاعر: أبلغ بني ثعل عني مغلغلة جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا واختاو الأولى أبو عبيد. قال رؤبة: وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت أي لم يمنعني عن سراها مانع، وكذلك ألته عن وجهه، فعل وأفعل بمعنى. ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا، أي ما نقصه، مثل ألته، قال الفراء. وأنشد: ويأكلن ما أعني الولي فلم يلت كأن بحافات النهاء المزارعا قوله: فلم {يلت} أي لم ينقص منه شيئا. و {أعني} بمعنى أنبت، يقال: ما أعنت الأرض شيئا، أي ما أنبتت. و {الولي} المطر بعد الوسمي، سمي وليا لأنه يلي الوسمي. ولم يقل: لا يألتاكم، لأن طاعة اللّه تعالى طاعة الرسول. ١٥ انظر تفسير الآية ١٦ ١٦ قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا} أي صدقوا ولم يشكوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة. {أولئك هم الصادقون} في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. فلما نزلت حلف الأعراب أنهم مؤمنون في السر والعلانية وكذبوا، فنزلت. {قل أتعلمون اللّه بدينكم} الذي أنتم عليه. {واللّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض واللّه بكل شيء عليم}. ١٧ انظر تفسير الآية ١٨ ١٨ قوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا} إشارة إلى قولهم: جئناك بالأثقال والعيال. و {أن} في موضع نصب على تقدير لأن أسلموا. {قل لا تمنوا علي إسلامكم} أي بإسلامكم. {بل اللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان} {أن} موضع نصب، تقديره بأن. وقيل: لأن. وفي مصحف عبداللّه {إذ هداكم}. {إن كنتم صادقين} صادقين أنكم مؤمنون. وقرأ عاصم {إن هداكم} بالكسر؛ وفيه بعد؛ لقوله: {إن كنتم صادقين}. ولا يقال يمن عليكم أن يهديكم إن صدقتم. والقراءة الظاهرة {أن هداكم}. وهذا لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، لأن تقدير الكلام: إن آمنتم فذلك منة اللّه عليكم. {إن اللّه يعلم غيب السماوات والأرض واللّه بصير بما تعملون}. قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو بالياء على الخبر، ردا على قوله: {قالت الأعراب}. الباقون بالتاء على الخطاب. |
﴿ ٠ ﴾