٦

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {التأني من اللّه والعجلة من الشيطان}.

وفي رواية: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوا صدقاتهم. فهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللّه، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمر راجعا، وبلغنا أنه يزعم لرسول اللّه أنا خرجنا لنقاتله، واللّه ما خرجنا لذلك، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا. قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبداللّه: الفاسق الكذاب. وقال أبو الحسن الوراق: هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من اللّه. وقرأ حمزة والكسائي {فتثبتوا} من التثبت. الباقون {فتبينوا} من التبيين {أن تصيبوا قوما} أي لئلا تصيبوا، فـ {أن} في محل نصب بإسقاط الخافض. {بجهالة} أي بخطأ.

{فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} على العجلة وترك التأني.في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استئنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل أن يقول: هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. وإذا قال: قد أنفذ فلان هذا لك هدية، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا.

وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون وليا في النكاج.

وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي مالها فيلي بضعها. كالعدل، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة، وإذا ولي المال فالنكاج أولى.

قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم، كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساؤوا فآجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة للّه، ومنهم من كان يجعلها صلاته. ويوجوب الإعادة أقول، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة، ولكن يعيد سرا في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره.وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى، فإن الكلام كثير والحق ظاهر.لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله، أو إذن يعلمه، إذا لم يخرج عن حق المرسل، والمبلغ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية اليه، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها شيء لعدمهم في ذلك. واللّه أعلم.وفي الآية دليل على فساد. من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن اللّه تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة.فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدليين، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القشيري، والذي قبلها المهدوي

﴿ ٦