|
١١ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} قيل عند اللّه. وقيل {خيرا منهم} أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا {بالتحريك} ومسخرا وسخرا {بالضم}. وحكى أبو زيد سخرت به، وهو أردأ اللغتين. وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال. والاسم السخرية والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} {الزخرف: ٣٢} وقد تقدم. وفلان سخرة، يتسخر في العمل. يقال: خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة {بفتح الخاء} يسخرمن الناس.واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، فإذا سبقوه الى مجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما انصرف النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه، فربض كل رجل منهم بمجلسه، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطي رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس فجلس ثابت من خلفه مغضبا، ثم قال: من هذا؟ قالوا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة يعيره بها، يعني أما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول {السورة} استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رءاه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره اللّه، والاستهزاء بمن عظمه اللّه. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبداللّه بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و {قوم} في اللغة للمذكرين خاصة. قال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساءوسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد. وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا، وقد مضى في {البقرة} بيانه. قوله تعالى: {ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر. وقد قال اللّه تعالى: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} {نوج: ١} فشمل الجميع. قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي اللّه عنهما: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم، عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي اللّه إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد}. فأنزل اللّه هذه الآية. في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي صلى اللّه عليه وسلم رجلا، فقال: {ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا}. قالت فقلت: يا رسول اللّه، إن صفية امرأة - وقالت بيدها - هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال: {لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج}. وفي البخاري عن عبداللّه بن زمعة قال: نهى النبى صلى اللّه عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس. وقال: {لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}. وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم اللّه من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم اللّه من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وباللّه التوفيق. قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} اللمز: العيب، وقد مضى في {التوبة} عند قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} {التوبة: ٥٨}. وقال الطبري: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} {النساء: ٢٩} أي لا يقتل بعضكم بعضا، لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وك قوله تعالى: {فسلموا على أنفسكم} {النور: ٦١} يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا. وقرئ: {ولا تُلمزوا} بالضم. وفي قوله: {أنفسكم} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، قال صلى اللّه عليه وسلم: {المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}. وقال بكر بن عبداللّه المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال صلى اللّه عليه وسلم: {يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه} وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. وقال الشاعر: المرء إن كان عاقلا ورعا أشغله عن عيوبه ورعهكما السقيم المريض يشغله عن وجع الناس كلهم وجعهوقال آخر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك اللّه سترا عن مساويكاواذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا قوله تعالى: {ولا تنابزوا بالألقاب} النبز {بالتحريك} اللقب، والجمع الأنباز. والنبز {بالتسكين} المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب: أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية: {ولا تنابزوا بالألقاب}. قال هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري. وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة. وفي مصنف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة {ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} قال: قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول اللّه، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية: {ولا تنابزوا بالألقاب}. فهذا قول. وقول ثان - قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة. وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق، وقاله مجاهد والحسن أيضا. {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قال ابن زيد. وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح {من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه}. فمن فعل ما نهى اللّه عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي اللّه عنه كان عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه} يعني بالتقوى، ونزلت: {ولا تنابزوا بالألقاب}. وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى اللّه أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: {من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على اللّه أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة}. وقع من ذلك مستثني من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الأمة وأتفق على قول أهل الملة. قال ابن العربي: وقد ورد لعمر اللّه من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة، لأنه صحف {خرزة} فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مطين، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله: أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية. واللّه أعلم. قلت: وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه اللّه في {كتاب الأدب} من الجامع الصحيح. في {باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل} قال: وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ما يقول ذو اليدين} قال أبو عبداللّه بن خويز منداد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك. الزمخشري: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم {من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه}. ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي اللّه عنه: أشيعوا الكني فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللّه، وخالد بسيف اللّه. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب. قلت: فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبداللّه بن المبارك عن الرجل يقول: حُميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحُميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبداللّه بن سرجس قال: رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر. في رواية الأصيلع. قوله تعالى: {ومن لم يتب} أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون. {فأولئك هم الظالمون} لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي. |
﴿ ١١ ﴾