٥

قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد} قرأ العامة {قاف} بالجزم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم {قاف} بكسر الفاء؛ لأن الكسر أخو الجزم، فلما سكن آخره حركوه بحركة الخفض. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى أخف الحركات. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع {قاف} بالضم؛ لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذ وقد وقبل وبعد. واختلف في معنى {قاف} ما هو؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مقبية، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. والمعنى أبو الجوزاء عن عبداللّه بن عباس. قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في {ق} ؛ لأنه اسم وليس بهجاء. قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه؛ كقوله القائل:

قلت لها قفي فقالت قاف

أي أنا واقفة. وهذا وجه حسن وقد تقدم أول {البقرة}. وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه الجبال حولك ؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد اللّه أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض؛ فقال له: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة اللّه؛ قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم به بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حر جهنم. فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض واللّه أعلم بموضعها؛ وأين هي من الأرض. قال: زدني، قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي اللّه ترعد فرائصه، يخلق اللّه من كل رعدة مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي اللّه تعالى منكسو رؤوسهم، فاذا أذن اللّه لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا اللّه؛ وهو قوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} {النبأ: ٣٨} يعني قوله: لا إله إلا اللّه. وقال الزجاج: قوله {ق} أي قضي الأمر، كما قيل في {حم} أي حم الأمر. وقال ابن عباس: {ق} اسم من أسماء اللّه تعالى أقسم به. وعنه أيضا: أنه اسم من أسماء القرآن. وهو قول قتادة. وقال القرظي: افتتاح أسماء اللّه تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض. وقال الشعبي: فاتحة السورة. وقال أبوبكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال محمد بن عاصم الأنطاكي: هو قرب اللّه من عباده، بيانه {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} {ق: ١٦} وقال ابن عطاء: أقسم اللّه بقوة قلب حبيبه محمد صلى اللّه عليه وسلم، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله.

قوله تعالى: {والقرآن المجيد} أي الرفيع القدر.

وقيل: الكريم؛ قاله الحسن.

وقيل: الكثير؛ مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد، من قولهم: كثير فلان في النفوس؛ ومنه قول العرب في المثل السائر: {كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار}. أي استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر؛ قال ابن بحر. وجواب القسم قيل هو: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} على إرادة اللام؛ أي لقد علمنا.

وقيل: هو {إن في ذلك لذكرى} وهو اختيار الترمذي محمد بن علي قال: {ق} قسم باسم هو أعظم الأسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد، ثم اقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد، وخلق الآدميين، وصفة يوم القيامة والجنة والنار، ثم قال: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} {ق: ٣٧} فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال: {ق} أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما أقتصصت في هذه السورة {لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} {ق: ٣٧}. وقال ابن كيسان: جوابه {ما يلفظ من قول}. وقال أهل الكوفة: جواب هذا القسم {بل عجبوا}. وقال الأخفش: جوابه محذوف كأنه قال: {ق والقرآن المجيد} لتبعثن؛ يدل عليه {أئذا متنا وكنا ترابا}.

قوله تعالى: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} {أن} في موضع نصب على تقدير لأن جاءهم منذر منهم، يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم والضمير للكفار.

وقيل: للمؤمنين والكفار جميعا. ثم ميز بينهم {فقال الكافرون} ولم يقل فقالوا، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فأسمعني المكروه، وقال لي الفاسق أنت كذا وكذا.

{هذا شيء عجيب} العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد.

وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى.

قوله تعالى: {أئذا متنا وكنا ترابا} نبعث؛ ففيه إضمار.

{ذلك رجع بعيد} الرجع الرد أي هو رد بعيد أي محال. يقال: رجعته أرجعه رجعا، ورجع هو يرجع رجوعا، وفيه إضمار آخر؛ أي وقالوا أنبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في مواضع، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة.

{قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شيء حتى تتعذر علينا الإعادة. وفي التنزيل: {قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} {طه: ٥١}.

وفي الصحيح: {كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب} وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء والأولياء والشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم؛ حرم اللّه على الأرض أن تأكل أجسادهم. وقد بينا هذا في كتاب {التذكرة} وتقدم أيضا في هذا الكتاب. وقال السدي: النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن يبقى؛ لأن من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الناس. وعن ابن عباس: هو من يدخل في الإسلام من المشركين.

{وعندنا كتاب حفيظ} أي بعدتهم وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل.

وقيل: اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء. وقيل: الكتاب عبارة عن العلم والإحصاء؛ كما تقول: كتبت عليك هذا أي حفظته؛ وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة.

وقيل: أي وعندنا كتاب حفيظ لأعمال بني آدم لنحاسبهم عليها.

قوله تعالى: {بل كذبوا بالحق} أي القرآن في قول الجميع؛ حكاه الماوردي. وقال الثعلبي: بالحق القرآن. وقيل: الإسلام.

وقيل: محمد صلى اللّه عليه وسلم.

{فهم في أمر مريج} أي مختلط. يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن؛ قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة: مختلف. الحسن: ملتبس؛ والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة: فاسد، ومنه مرجت أمانات الناس أي فسدت؛ ومرج الدين والأمر اختلط؛ قال أبو دواد:

مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتد

وقال ابن عباس: المريج الأمر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء: {مريج} مختلط. وأنشد:

فجالت فالتمست به حشاها فخر كأنه خوط مريج

الخوط الغصن. وقال عنه العوفي: في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن.

وقيل: متغير. وأصل المرج الاضطراب والقلق؛ يقال: مرج أمر الناس ومرج أمر الدبن ومرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال.

وفي الحديث: {كيف بك يا عبداللّه إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا} وشبك بين أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب {التذكرة}..

﴿ ٥