١٧

قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا} أي يقرب ويحين، وقال الشاعر:

ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا

وماضيه أنى بالقصر يأنى. ويقال: آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي حان، مثل أنى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ابن السكيت:

ألما يئن لي تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا

فجمع بين اللغتين. وقرأ الحسن {ألما يأن} وأصلها {ألم} زيدت {ما} فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا، و {لم} نفي لقوله: كان كذا.

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كنا بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه بهذه الآية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه} إلا أربع سنين.

قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، تقول عاتبته معاتبة {أن تخشع} أي تذل وتلين

{قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق} روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى اللّه عليه وسلم:

{إن اللّه يستبطئكم بالخشوع} فقالوا عند ذلك: خشعنا. وقال ابن عباس: إن اللّه استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.

وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت: {الر تلك آيات الكتاب المبين} {يوسف: ١} إلى قوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص} {يوسف: ٣} الآية، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول فنزلت: {الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق} فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السدي وغيره: {ألم يأن للذين آمنوا} بالظاهر وأسروا الكفر {أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه}.

وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول اللّه لو قصصت علينا فنزل: {نحن نقص عليك} فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: {اللّه نزل أحسن الحديث} {الزمر: ٢٣} فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل اللّه تعالى: {ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق} ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه.

وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: {والذين آمنوا باللّه ورسله} {الحديد: ١٩} أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقران، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم.

قوله تعالى: {ولا يكونوا} أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على {أن تخشع}.

وقيل: مجزوم على النهي، مجازه ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب {لا تكونوا} بالتاء، وهي قراءة عيسى وابن إسحاق. يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم.

قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم. ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن ابن قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب اللّه في ورقة وجعلها في قرن وعلقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللّهم أصحاب ذي القرن. قال عبداللّه: ومن يعش منكم فسيرى منكرا، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم اللّه من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطؤوا بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم {فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع.

وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم.

وقيل: هم من لا يؤمن في علم اللّه تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم فأمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم اللّه.

وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم اللّه فأفاقوا. وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من اللّه ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى، فأرحموا أهل البلاء، واحمدوا اللّه على العافية. وهذه الآية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه} كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما اللّه تعالى. ذكر أبو المطرف عبدالرحمن بن مروان القلاني قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبداللّه بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده - ويقول: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق}

قلت: بلى واللّه! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود: ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوماوترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتمايبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجماوماذا على الظبي لو أنه أحل من الوصل ما حرماوأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه} فرجع القهقرى وهو يقول: بلى واللّه قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي اللّه، قوم من المسلمين يخافونني! اللّهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.

قوله تعالى: {اعلموا أن اللّه يحي الأرض بعد موتها} أي {يحيي الأرض} الجدبة {بعد موتها} بالمطر. وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور.

وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة.

وقيل: كذلك يحيي اللّه الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه.

{قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} أي إحياء اللّه الأرض بعد موتها دليل على قدرة اللّه، وأنه لمحيي الموتى.

﴿ ١٧