٩

قوله تعالى: {يا أيها الإنسان} خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبي بن خلف.

وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا:

{ما غرك بربك الكريم} أي ما الذي غرك حتى كفرت؟

{بربك الكريم} أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن: غرة شيطانه الخبيث.

وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي اللّه عنه.

وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: ٦] قال: (غره الجهل) وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه قرأ {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} ؟ فقال: (غره جهله). وقال عمر رضي اللّه عنه: كما قال اللّه تعالى {إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب: ٧٢].

وقيل: غره عفو اللّه، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الأشعث: قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك اللّه تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: {ما غرك بربك الكريم} ؟ [الانفطار: ٦] ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة، لأن الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال:

يا كاتم الذنب أما تستحي واللّه في الخلوة ثانيكا

غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا

وقال ذو النون المصري: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعروأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:

يا من غلا في العجب والتيه  وغره طول تماديه

أملى لك اللّه فبارزته  ولم تخف غب معاصيه

وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو اللّه به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟

{الذي خلقك} أي قدر خلقك من نطفة {فسواك} في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك {فعدلك} أي جعلك معتدلا سوى الخلق؛ كما يقال: هذا شيء معدل. وهذه قرأءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: ٤]. وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: {فعدلك} مخففا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال موسى بن علي بن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده قال: قال لي النبي صلى اللّه عليه وسلم (إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه كل نسب بينها وبين آدم). أما قرأت هذه الآية

{في أي صورة ما شاء ركبك} فيما بينك وبين آدم، وقال عكرمة وأبو صالح: {في أي صورة ما شاء ركبك} إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى.

قال مجاهد: {في أي صورة} أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. و {في} متعلقة بـ {ركب}، ولا تتعلق بـ {عدلك}، على قرأءة من خفف؛ لأنك تقول عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلت في كذا؛ ولذلك منع الفراء التخفيف؛ لأنه قدر {في} متعلقة بـ {عدلك}، و {ما} يجوز أن تكون صلة مؤكدة؛أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير، فـ {ما} بمعنى الشرط والجزاء؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك.

قوله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين} يجوز أن تكون {كلا} بمعنى حقا و {ألا} فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى {لا}، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير اللّه محقون. يدل على ذلك قوله تعالى: {ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: ٦] وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غررت به.

وقيل: أي ليس الأمر كما يقولون، من أنه لا بعث.

وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا وقتروا بحلم اللّه وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الأنباري: الوقف الجيد على {الدين}، وعلى {ركبك}، والوقف على {كلا} قبيح. {بل تكذبون} يا أهل مكة {بالدين} أي بالحساب، و {بل} لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.

﴿ ٩