٨

انظر تفسير الآية ٩

٩

قوله تعالى: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} أي أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه اللّه عز وجل:

{يقول أهلكت} أي أنفقت. {مالا لبدا} أي كثيرا مجتمعا.

{أيحسب} أي أيظن. {أن لم يره} أي أن لم يعاينه {أحد} بل علم اللّه عز وجل ذلك منه، فكان كاذبا في قوله: أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال: يوقف العبد، فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك؟ فيقول: أنفقته وزكيته. فيقال: كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سخي، فقد قيل ذلك. ثم يؤمر به إلى النار. وعن سعيد عن قتادة: إنك مسؤول عن مالك من أين جمعت؟ وكيف أنفقت؟ وعن ابن عباس قال: كان أبو الأشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأمره أن يُكَفِّر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.

وقرأ أبو جعفر {مالا لبدا} بتشديد الباء مفتوحة، على جمع لا بد؛ مثل راكع وركع، وساجد وسجد، وشاهد وشهد، ونحوه. وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا، جمع لبود. الباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا، جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد؛ يريد الكثرة. وقد مضى في سورة {الجن} القول فيه.

وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقرأ {أيحسُب} بضم السين في الموضعين. وقال الحسن: يقول أتلفت مالا كثيرا، فمن يحاسبني به، دعني أحسبه. ألم يعلم أن اللّه قادر على محاسبته، وأن اللّه عز وجل يرى صنيعه، ثم عدد عليه نعمه فقال:

{ألم نجعل له عينين} يبصر بهما {ولسانا} ينطق به. {وشفتين} يستر بهما ثغره. والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه ونحصي عليه ما عمله. وقال أبو حازم: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(إن اللّه تعالى قال: يا ابن آدم، إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق؛ وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق؛ وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق).

والشفة: أصلها شفهة، حذفت منها الهاء، وتصغيرها: شفيهة، والجمع: شفاه. ويقال: شفهات وشفوات، والهاء أقيس، والواو أعم، تشبيها بالسنوات. وقال الأزهري: يقال هذه شفة في الوصل وشفه، بالتاء والهاء. وقال قتادة: نعم اللّه ظاهرة، يقررك بها حتى تشكر.

١٠

{وهديناه النجدين} يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد. الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.

وروى قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (يا أيها الناس، إنما هما النجدان: نجد الخير، ونجد الشر، فلم نجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير).

وروي عن عكرمة قال: النجدان: الثديان. وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك،

وروي عن ابن عباس وعلي رضي اللّه عنهما؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. فالنجد: العلو، وجمعه نجود؛ ومنه سميت {نجد}، لارتفاعها عن انخفاض تهامة. فالنجدان: الطريقان العاليان. قال امرؤ القيس:

فريقان منهم جازع بطن نخلة وآخر منهم قاطع نجد كبكب

١١

{فلا اقتحم العقبة} أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن والاقتحام: الرمي بالنفس في شيء من غير روية؛ يقال منه: قحم في الأمر قحوما: أي رمى بنفسه فيه من غير روية. وقحم الفرس فارسه. تقحيما على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفس في الشيء: إدخالها فيه من غير روية. والقُحمة بالضم المهلكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الأعراب القُحمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقُحم: صعاب الطريق. وقال الفراء

والزجاج: وذكر {لا} مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد {لا} مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يعيدوها في كلام آخر؛ ك قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: ٣١] {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه؛ فيجوز أن يكون قوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: ١٧] قائما مقام التكرير؛ كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن.

وقيل: هو جار مجرى الدعاء؛ كقوله: لا نجا ولا سلم.

وقال: معنى {فلا اقتحم العقبة} أي فلم يقتحم العقبة، كقول زهير: وكان طوى كشحا على مستكِنَّة فلا هو أبداها ولم يتقدمأي فلم يبدها ولم يتقدم. وكذا قال المبرد وأبو علي: {لا}: بمعنى لم. وذكره البخاري عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فسر العقبة وركوبها فقال

{فك رقبة} وكذا وكذا؛ فبين وجوها من القرب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار؛ تقديره: أفلا اقتحم العقبة؛ أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغْبَان، ليجاوز به العقبة، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

ثم قيل: اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل، أي هل تحمل عظام الأمور فغي إنفاق ماله في طاعة ربه، والإيمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل

{فلا اقتحم العقبة} على الدعاء؛ أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا.

وقيل: شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة اللّه. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلا وصعودا وهبوطا. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء.

وقيل: اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أنجى الناس منها أخفهم حملا.

وقيل: النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبداللّه بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق اللّه عز وجل بكل عضو منها عضوا منه.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(من أعتق رقبة أعتق اللّه بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه).

وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فكاكها من النار، يجزي كل عضو منها عضوا منها). قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

وقيل: العقبة خلاصه من هول العرض. وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر. وقال الحسن: هي واللّه عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. وأنشد بعضهم:

إني بليت بأربع يرمينني  بالنبل قد نصبوا علي شراكا

إبليس والدنيا ونفسي والهوى  من أين أرجو بينهن فكاكايا

رب ساعدني بعفو إنني  أصبحت لا أرجو لهن سواكا

١٢

{وما أدراك ما العقبة} فيه حذف، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين؛ والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، ليعلمه اقتحام العقبة.

قال القشيري: وحمل العقبة على عقبه جهنم بعيد؛ إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم؛ إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا.

واختار البخاري قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا.

قال ابن العربي: وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية:

{وما أدراك ما العقبة}، ثم قال في الآية الثالثة:

{فك رقبة}، وفي الآية الرابعة

{أو إطعام في يوم ذي مسغبة}، ثم قال في الآية الخامسة:

{يتيما ذا مقربة}، ثم قال في الآية السادسة:

{أو مسكينا ذا متربة} ؛ فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا.

المعنى: فلم يأت في الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة. وقال سفيان ابن عيينة: كل شيء قال فيه {وما أدراك}، فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه {وما يدريك}، فإنه لم يخبر به.

١٣

قوله تعالى: {فك رقبة} فكها: خلاصها من الأسر.

وقيل: من الرق. وفي الحديث: فك الرقبة أن تعين في ثمنها). من حديث البراء، وقد تقدم في سورة {التوبة}. والفك: هو حل القيد؛ والرق قيد. وسمي المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته. وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر. قال حسان: كم من أسير فككناه بلا ثمن وجز ناصية كنا مواليهاوروى عقبة بن عامر الجُهَني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار)

قال الماوردي: ويحتمل ثانيا أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات؛ ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.

قوله تعالى: {رقبة} قال أصبغ: الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن؛ لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد سئل أي الرقاب أفضل؟ قال:

(أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها).

ابن العربي: والمراد في هذا الحديث: من المسلمين؛ بدليل قوله عليه السلام: (من أعتق امرأ مسلما) و (من أعتق رقبة مؤمنة). وما ذكره أصبغ وهلة؛ وإنما نظر إلى تنقيص المال، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة، وتفريغه للتوحيد، أولى.

العتق والصدقة من أفضل الأعمال. وعن أبي حنيفة: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه الصدقة أفضل. والآية أدل على قول أبي حنيفة؛ لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من فك رقبة فك اللّه بكل عضو منها عضوا من النار).

١٤

انظر تفسير الآية ١٦

١٥

انظر تفسير الآية ١٦

١٦

قوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} أي مجاعة. والسغب: الجوع. والساغب الجائع. وقرأ الحسن {أو إطعام في يوم ذا مسغبة} بالألف في {ذا} - وأنشد أبو عبيدة:

فلو كنت جارا يا ابن قيس بن عاصم لما بت شبعانا وجارك ساغبا

وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وقال النخعي في قوله تعالى:

{أو إطعام في يوم ذي مسغبة} قال: في يوم عزيز فيه الطعام. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان).

{يتيما ذا مقربة} أي قرابة. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يكفله.

وأهل اللغة يقولون: سمي يتيما لضعفه. يقال: يتم الرجل يتما: إذا ضعف. وذكروا أن اليتيم في الناس من قبل الأب. وفي البهائم من قبل الأمهات. وقد مضى في سورة {البقرة} مستوفى، وقال بعض أهل اللغة: اليتيم الذي يموت أبواه. وقال قيس بن الملوح:

إلى اللّه أشكو فقد ليلى كما شكا إلى اللّه فقد الوالدين يتيم

قوله تعالى: {أو مسكينا ذا متربة} أي لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب. قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق، الذي لا بيت له. مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: إنه ذو العيال. عكرمة: المديون. أبو سنان: ذو الزمانة. ابن جبير: الذي ليس له أحد.

وروى عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة البعيد التربة؛ يعني الغريب البعيد عن وطنه. وقال أبو حامد الخارزنجي: المتربة هنا: من التريب؛ وهي شدة الحال. يقال ترب: إذا افتقر. قال الهذلي:

وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا سفكنا دماء البدن في تربة الحال

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {فكَ} بفتح الكاف، على الفعل الماضي.

{رقبة} نصبا لكونها مفعولا {أو أَطعم} بفتح الهمزة نصب الميم، من غير ألف، على الفعل الماضي أيضا؛ لقوله:

{ثم كان من الذين آمنوا} فهذا أشكل بـ {فك وأطعم}. وقرأ الباقون: {فك} رفعا، على أنه مصدر فككت.

{رقبة} خفض بالإضافة. {أو إطعام} بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضا. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنه تفسير ل قوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة}، ثم أخبره فقال: {فك رقبة أو إطعام}.

المعنى: اقتحام العقبة: فك رقبة أو إطعام. ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى؛ أي ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذا مسغبة؛ فكيف يجاوز العقبة.

وقرأ الحسن وأبو رجاء: {ذا مسغبة} بالنصب على أنه مفعول {إطعام} أي يطعمون ذا مسغبة و {يتيما} بدل منه. الباقون {ذي مسغبة} فهو صفة لـ {يوم}. ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور لأن قوله: {في يوم} ظرف منصوب الموضع، فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ.

١٧

انظر تفسير الآية ٢٠

١٨

انظر تفسير الآية ٢٠

١٩

انظر تفسير الآية ٢٠

٢٠

قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} يعني: أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة، أو أطعم في يوم ذا مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا؛ أي صدقوا، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان باللّه. فالإيمان باللّه بعد الإنفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان، قال اللّه تعالى في المنافقين: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله}. [التوبة: ٥٤]. وقالت عائشة: يا رسول اللّه، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويفك العاني، ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله للّه، فعل ينفعه ذلك شيئا؟ قال: (لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).

وقيل: {ثم كان من الذين آمنوا} أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة؛ نظيره قوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: ٨٢].

وقيل: المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند اللّه تعالى.

وقيل: أتى بهذه القرب لوجه اللّه، ثم أمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم، يا رسول اللّه، إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية، فهل لنا منها شيء؟ فقال عليه السلام: (أسلمت على ما أسلفت من الخير).

وقيل: إن {ثم} بمعنى الواو؛ أي وكان هذا المعتق الرقبة، والمطعم في المسغبة، من الذين أمنوا.

{وتواصوا} أي أوصى بعضهم بعضا. {بالصبر} أي بالصبر على طاعة اللّه، وعن معاصيه؛ وعلى ما أصابهم من البلاء والمصايب.

{وتواصوا بالمرحمة} بالرحمة على الخلق؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين.

قوله تعالى: {أولئك أصحاب الميمنة} أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم؛ قال محمد بن كعب القرظي وغيره. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن.

وقيل: لأن منزلتهم عن اليمين؛ قاله ميمون بن مهران.

{والذين كفروا بآياتنا} أي كفروا بالقرآن.

{هم أصحاب المشأمة} أي يأخذون كتبهم بشمائلهم؛ قال محمد بن كعب. يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر. ميمون: لأن منزلتهم عن اليسار. قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشأمة أصحاب النار؛ قال اللّه تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود}، وقال: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم} [الواقعة: ٤٢]. وما كان مثله.

ومعنى {مؤصدة} أي مطبقة مغلقة. قال: تحن إلى جبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده

وقيل: مبهمة، لا يدري ما داخلها. وأهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وأصدته؛ أي أغلقته. فمن قال أوصدت، فالاسم الوصاد، ومن قال آصدته، فالاسم الإصاد. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي {موصدة} بالهمز هنا، وفي {الهمزة}. الباقون بلا همز. وهما لغتان. وعن أبي بكر بن عياش قال: لنا إمام يهمز {مؤصدة} فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.

 

ÓõęŃóÉõ ĒįŌųóćśÓö ćóßųöķųóÉń

ęóåöķó ĪóćśÓó ŚóŌóŃóÉó ĀķóÉš

سورة الشّمس

١

{والشمس وضحاها} قال مجاهد: {وضحاها} أي ضوءها وإشراقها. وهو قسم ثان. وأضاف الضحى إلى الشمس، لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس. وقال قتادة: بهاؤها. السدي: حرها.

وروى الضحاك عن ابن عباس: {وضحاها} قال: جعل فيها الضوء وجعلها حارة. وقال اليزيدي: هو انبساطها.

وقيل: ما ظهر بها من كل مخلوق؛ فيكون القسم بها وبمخلوقات الأرض كلها. حكاه الماوردي والضحا: مؤنثة. يقال: ارتفعت الضحا، وهي فوق الضحو. وقد تذكر. فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة. ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل، نحو صرد ونغر. وهو ظرف غير متمكن مثل سحر. تقول: لقيته ضحا وضحا؛ إذا أردت به ضحا يومك لم تنونه. وقال الفراء: الضحا هو النهار؛ كقول قتادة. والمعروف عند العرب أن الضحا: النهار كله، فذلك لدوام نور الشمس، ومن قال: إنه نور الشمس أو حرها، فنور الشمس لا يكون إلا مع حر الشمس. وقد استدل من قال: إن الضحى حر الشمس ب قوله تعالى: {ولا تضحى} [طه: ١١٩] أي لا يؤذيك الحر.

وقال المبرد: أصل الضحا من الضح، وهو نور الشمس، والألف مقلوبة من الحاء الثانية. تقول: "ضحوة وضحوات، وضحوات وضحا، فالواو من ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف في ضحا مقلوبة عن الواو. وقال أبو الهيثم: الضح: نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله الضحا فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء، فقلبوها ألفا.

٢

{والقمر إذا تلاها} أي تبعها: وذلك إذا سقطت رؤي الهلال. يقال: تلوت فلانا: إذا تبعته. قال قتادة: إنما ذلك ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. القراء: {تلاها}: أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس.

وقال قوم: {والقمر إذا تلاها} حين استوى واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور؛ وقاله الزجاج.

٣

{والنهار إذا جلاها} أي كشفها. فقال قوم: جلى الظلمة؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ كما تقول: أضحت باردة، تريد أضحت غداتنا باردة. وهذا قول الفراء والكلبي وغيرهما.

وقال قوم: الضمير في {جلاها} للشمس؛ والمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها. ومنه قول قيس بن الخطيم:

تجلت لنا كالشمس تحت غمامة بدا حاجب منها وضنت بحاجب

وقيل: جلى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر، لاستتاره ليلا وانتشاره نهارا. وقيل: جلى الدنيا.

وقيل: جلى الأرض؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ ومثله قوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} [ص: ٣٢] على ما تقدم آنفا.

٤

{والليل إذا يغشاها} أي يغشى الشمس، فيذهب بضوئها عند سقوطها؛ قال مجاهد وغيره. وقيل: يغشى الدنيا بالظلم، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور.

٥

{والسماء وما بناها} أي وبنيانها. فما مصدرية؛ كما قال: {بما غفر لي ربي} [يس: ٢٧] أي بغفران ربي؛ قاله قتادة، واختاره المبرد.

وقيل: المعنى ومن بناها؛ قاله الحسن ومجاهد؛ وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها، وهو اللّه تعالى. وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له؛ أي سبحان من سبحت له.

٦

{والأرض وما طحاها} أي وطحوها. وقيل: ومن طحاها؛ على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها؛ كذا قال عامة المفسرين؛ مثل دحاها.

قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد؛ أي بسطها من كل جانب. والطحو: البسط؛ طحا يطحو طحوا، وطحى يطحي طحيا، وطحيت: اضطجعت؛ عن أبي عمرو. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها. وقيل: خلقها؛ وقال الشاعر:

وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرفيع

الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز؛ لأنه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي؛ أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو: طحا الرجل: إذا ذهب في الأرض. يقال: ما أدري أين طحا! ويقال: طحا به قلبه: إذا ذهب به في كل شيء. قال علقمة:

طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب

٧

{ونفس وما سواها} قيل: المعنى وتسويتها. {فما}: بمعنى المصدر. وقيل: المعنى ومن سواها، وهو اللّه عز وجل. وفي النفس قولان: أحدهما آدم. الثاني: كل نفس منفوسة. وسوى: بمعنى هيأ. وقال مجاهد: سواها: سوى خلقها وعدل. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه.

٨

{فألهمها فجورها وتقواها} قوله تعالى: {فألهمها} أي عرفها؛ كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى؛ وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد اللّه عز وجل بعبده خيرا، ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر فعمل به. وقال الفراء: {فألهمها} قال: عرفها طريق الخير وطريق الشر؛ كما قال: {وهديناه النجدين} [البلد: ١٠].

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال: بين لها فجورها وتقواها. والمعنى متقارب.

وروي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {فألهمها فجورها وتقواها} قال:

(اللّهم آت نفسي تقواها، و زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).

والمعنى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية: {فالهمها فجورها وتقواها} رفع صوته بها، وقال:

(اللّهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير من زكاها).

وفي صحيح مسلم، عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق اللّه وملك يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. فقال لي: يرحمك اللّه إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا: يا رسول اللّه، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه: أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم؟ فقال:

(لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب اللّه عز وجل: {ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها}). والفجور والتقوى: مصدران في موضع المفعول به.

٩

انظر تفسير الآية ١٠

١٠

قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} هذا جواب القسم، بمعنى: لقد أفلح. قال الزجاج: اللام حذفت، لأن الكلام طال، فصار طول عوضا منها.

وقيل: الجواب محذوف؛ أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري: تقديره ليدمدمن اللّه عليهم؛ أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحا.

وأما {قد أفلح من زكاها} فكلام تابع لأوله؛ لقوله: {فألهمها فجورها وتقواها} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.

وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف؛ والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها.

{أفلح} فاز. {من زكاها} أي من زكى اللّه نفسه بالطاعة.

{وقد خاب من دساها} أي خسرت نفس دسها اللّه عز وجل بالمعصية. وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها.

وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه، وصالح الأعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي؛ قال قتادة وغيره. وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد؛ لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة {البقرة} مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض، ليشتهر مكانها للمعتفين، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، زمر المروءة غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي.

وقيل: دساها: أغواها. قال: وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت حلائله منه أرامل ضيعاقال أهل اللغة: والأصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء، فأبدلت سينه ياء؛ كما يقال: قصيت أظفاري؛ وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضي.

وقال ابن الأعرابي: {وقد خاب من دساها} أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.

١١

انظر تفسير الآية ١٤

١٢

انظر تفسير الآية ١٤

١٣

انظر تفسير الآية ١٤

١٤

قوله تعالى: {كذبت ثمود بطغواها} أي بطغيانها، وهو خروجها عن الحد في العصيان؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.

وعن ابن عباس {بطغواها} أي بعذابها الذي وعدت به. قال: وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي؛ لأنه طغى عليهم. وقال محمد بن كعب: {بطغواها} بأجمعها.

وقيل: هو مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برؤوس الآي.

وقيل: الأصل بطغياها، إلا أن {فعلى} إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري وحماد بن سلمة {بضم الطاء} على أنه مصدر؛ كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر.

وقيل: هما لغتان.

{إذ انبعث} أي نهض. {أشقاها} لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في {الأعراف} بيان هذا، وهل كان واحدا أو جماعة. وفي البخاري عن عبداللّه بن زمعة أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يخطب، وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(أتدري من أشقى الأولين) قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: (قاتلك).

قوله تعالى: {فقال لهم رسول اللّه} يعني صالحا.

{ناقة اللّه} {ناقة} منصوب على التحذير؛ كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي، والحذار الحذار. أي احذروا ناقة اللّه؛ أي عقرها.

وقيل: ذروا ناقة اللّه، كما قال: {هذه ناقة اللّه لكم آية فذروها تأكل في أرض اللّه ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}. [الأعراف: ٧٣].

{وسقياها} أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة {الشعراء} بيانه والحمد للّه. وأيضا في سورة {اقتربت الساعة} [القمر: ١]. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق ذلك عليهم.

{فكذبوه} أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم:

(إنكم تعذبون إن عقرتموها).

{فعقروها} أي عقرها الأشقى. وأضيف إلى الكل، لأنهم رضوا بفعله. وقال قتادة: ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم. وقال الفراء: عقرها اثنان: والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم؛ فلهذا لم يقل: أشقياها.

قوله تعالى: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم} أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر.

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: دمدم عليهم قال: دمر عليهم ربهم بذنبهم؛ أي بجرمهم.

وقال الفراء: دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال: دممت على الشيء أي أطبقت عليه، ودمم عليه القبر: أطبقه. وناقة مدومة: ألبسها الشحم. فإذا كررت الإطباق قلت: دمدمت. والدمدمة: إهلاك باستئصال؛ قاله المؤرج. وفي الصحاح: ودمدمت الشيء: إذا ألزقته بالأرض وطحطحته. ودمدم اللّه عليهم: أي أهلكهم. القشيري:

وقيل دمدمت على الميت التراب: أي سويت عليه. فقوله: {فدمدم عليهم} أي أهلكهم، فجعلهم تحت التراب. وقال ابن الأنباري: دمدم أي غضب. والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل. وقال بعض اللغويين: الدمدمة: الإدامة؛ تقول العرب: ناقة مدمدمة أي سمينة.

{فسواها} أي سوى عليهم الأرض. وعلى الأول {فسواها} أي فسوى الدمدمة والإهلاك عليهم. وذلك أن الصيحة أهلكتهم، فأتت على صغيرهم وكبيرهم.

وقيل: {فسواها} أي فسوى الأمة في إنزال العذاب بهم، صغيرهم وكبيرهم، وضيعهم وشريفهم، وذكرهم وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير {فدمدم} وهما، لغتان؛ كما يقال: امتقع لونه وانتقع.

١٥

ولا يخاف عقباهاأي فعل اللّه ذلك بهم غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد؛ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. والهاء في {عقباها} ترجع إلى الفعلة؛ كقوله: {من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت} أي بالفعلة والخصلة. قال السدي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر؛ أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع. وقال ابن عباس أيضا. وفي الكلام تقديم وتأخير، مجازه: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها.

وقيل: لا يخاف رسول اللّه صالح عاقبة إهلاك قومه، ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم؛ لأنه قد أنذرهم، ونجاه اللّه تعالى حين أهلكهم. وقرأ نافع وابن عامر {فلا} بالفاء، وهو الأجود؛ لأنه يرجع إلى المعنى الأول؛ أي فلا يخاف اللّه عاقبة إهلاكهم. والباقون بالواو، وهي أشبه بالمعنى الثاني؛ أي ولا يخاف الكافر عاقبة ما صنع.

وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا: أخرج إلينا مالك مصحفا لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف، وفيه: {ولا يخاف} بالواو. وكذا هي في في مصاحف أهل مكة والعراقيين بالواو، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اتباعا لمصحفهم.

﴿ ١٤