٦

{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} أي إن مع الضيقة والشدة يسرا، أي سعة وغنى. ثم كرر فقال: {إن مع العسر يسرا}، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام؛ كما يقال: ارم ارم، اعجل اعجل؛ قال اللّه تعالى: {كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: ٣]. ونظيره في تكرار الجواب: بلى بلى، لا لا. وذلك للإطناب والمبالغة؛ قاله الفراء. ومنه قول الشاعر:

هممت بنفسي بعض الهموم فأولى لنفسي أولى لها

وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر؛ قاله ثعلب.

وقال ابن عباس: يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه السورة: أنه قال:

(لن يغلب عسر يسرين). وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر رضي اللّه عنهما: أما بعد، فإنهم مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل اللّه بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللّه لعلكم تفلحون} [آل عمران: ٢٠٠]. وقال قوم منهم الجرجاني: هذا قول مدخول؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان. والصحيح أن يقال: إن اللّه بعث نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مقلا مخفا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالا؛ فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره؛ فعزاه اللّه، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله:

{فإن مع العسر يسرا} أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر؛ فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا؛ أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده؛ فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا؛ وإن كان خاصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء اللّه تعالى. ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى اللّه عليه وسلم، فقال مبتدئا:

{إن مع العسر يسرا} فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه؛ أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة. والذي في الخبر: (لن يغلب عسر يسرين) يعني العسر الواحد لن يغلبهما،

وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا؛

فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء. أو يقال: {إن مع العسر} وهو إخراج أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة {يسرا}، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف.

﴿ ٦