١

{لإيلاف قريش} قيل: إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى. يقول: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش؛ أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها. وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا. وقال عمرو بن ميمون الأودي: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه؛ فقرأ في الأولى: {والتين والزيتون} [التين: ١] وفي الثانية {ألم تر كيف} [الفيل: ١] و {لإيلاف قريش} [قريش: ١]. وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: {لإيلاف قريش} أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش.

وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها، فلا يُغار عليها ولا تُقرب في الجاهلية. يقولون هم أهل بيت اللّه جل وعز؛ حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة، ويأخذ حجارتها، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم اللّه عز وجل، فذكرهم نعمته. أي فجعل اللّه ذلك لإيلاف قريش، أي ليألفوا الخروج ولا يجتزأ عليهم؛ وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه.

ذكره النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال: حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، قال: حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لإيلاف قريش} قال: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما؛ على ما نبينه أثناء السورة.

وقيل: ليست بمتصلة؛ لأن بن السورتين {بسم اللّه الرحمن الرحيم} وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى، وأن اللام متعلقة ب قوله تعالى: {فليعبدوا} أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار. وكذا قال الخليل: ليست متصلة؛ كأنه قال: أَلَّف اللّه قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت. وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها لأنها زائدة غير عاطفة؛ كقولك: زيدا فاضرب.

وقيل: اللام في قوله تعالى: {لإيلاف قريش} لام التعجب؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش؛ قاله الكسائي والأخفش. وقيل: بمعنى إلى.

وقرأ ابن عامر: {لائلاف قريش} مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو جعفر والأعرج {ليلاف} بلا همز طلبا للخفة. الباقون {لإيلاف} بالياء مهموزا مشبعا؛ من آلفت أولف إيلافا. وقال الشاعر:

المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف

ويقال: ألفته إلفا وإلافا. وقرأ أبو جعفر أيضا: {لإلف قريش} وقد جمعهما من قال:

زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف

قال الجوهري: وفلان قد ألف هذا الموضع {بالكسر} يألف إلفا، وآلفه إياه غيره. ويقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا. وكذلك: آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا؛ فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة. وقرأ عكرمة {ليألف} بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره. وكان عكرمة يعيب على من يقرأ {لإيلاف}.

وقرأ بعض أهل مكة {إلاف قريش} استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

فلا تتركنه ما حييت لمعظم وكن رجلا ذا نجدة وعفاف

تذود العدا عن عصبة هاشمية إلافهم في الناس خير إلاف

وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه. وربما قالوا: قريشي، وهو القياس؛ وقال الشاعر:

بكل قريشي عليه مهابة

فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه؛ وقال الشاعر:

وكفى قريش المعضلات وسادها

والتقريش: الاكتساب، وتقرشوا أي تجمعوا. وقد كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي ابن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مسكنا. وقال الشاعر:

أبونا قصي كان يدعي مجمعا به جمع اللّه القبائل من فهر

وقد قيل: إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر. فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي. والأول أصح وأثبت. وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

(إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أُمنا، ولا ننتفي من أبينا). وقال وائلة بن الأسقع: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم

(إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم). صحيح ثابت، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال:

أحدهما: لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع والالتئام. قال أبو جلدة اليشكري:

إخوة قرشوا الذنوب علينا في حديث من دهرهم وقديم

الثاني: لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم. والتقرش: التكسب. وقد قرش يقرش قرشا: إذا كسب وجمع. قال الفراء: وبه سميت قريش.

الثالث: لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخلة، فيسدون خلته. والقرش: التفتيش. وقال الشاعر:

أيها الشامت المقرش عنا عند عمرو فهل له إبقاء

الرابع: ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القرش؛ تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تُعلى. وأنشد قول تبع:

قريش هي التي تسكن البحــر بها سميت قريش قريشا

تأكل الرث والسمين ولا تتـ ـرك فيها لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا

﴿ ١