تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية وهي تسع وستون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{الم

٢

أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} الحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر كالظن بخلاف الشك فهو الوقوف بينمها والعلم فهو القطع على أحدهما ولا يصح تعليقهما لمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل فلو قلت حسبت زيدا وظننت الفرس لم يكن شيئا حتى تقول حسبت زيدا عالما وظننت الفرس جوادا لأن قولك زيد عالم والفرس جواد كلام دال على مضمون فإذا أردت الأحبار على ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظن لا اليقين أدخلت على شطري الجملة فعل الحسبان حتى يتم لك غرضك والكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يقتنون وذلك أن تقديره أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم آمنا هو الخبر وأما غير مفتونين فتتمة الترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير كقول عنترة فتركته جزر السباع يفشنه ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبا ن تقدران تقول تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قيل اللام هو استفهام توبيخ والفتنة الإمتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطاعات الشاقة وهجر الشهوات وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على آذاهم وكيدهم وروى أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين أو في عمار بن ياسر وكان يعذب في اللّه

٣

{ولقد فتنا} اختبرنا وهو موصول بأحسب أو بلا يفتنون

{الذين من قبلهم} بأنواع الفتن فمنهم من يوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ومنهم من يمشط بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه

{فليعلمن اللّه} بالامتحان

{الذين صدقوا} في الإيمان

{وليعلمن الكاذبين} فيه ومعنى علمه تعالى وهو عالم بذلك فيما لم يزل أن يعلمه موجودا عند وجوده كما علمه قبل وجوده أنه يوجد والمعنى وليتميزن الصادق منهم من الكاذب قال بن عطاء يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء فمن شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين

٤

{أم حسب الذين يعملون السيئات أن} أي الشرك والمعاصي

{أن يسبقونا} أي يفوتونا يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة واشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مفعولين كقوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازي بمساويه وقالوا الأول في المؤمنين وهذا في الكافرين

{ساء ما يحكمون} ما في موضع رفع على معنى ساء الحكم حكمهم أو نصب على معنى ساء حكما يحكمون والمخصوص بالذنب محذوف أي بئس حكما يحكمونه حكمهم

٥

{من كان يرجو لقاء اللّه} أي يأمل ثوابه أو يخاف حسابه فالرجاء يحتملهما

{فإن أجل اللّه} المضروب للثواب والعقاب

{لآت} لا محالة فاليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله

{وهو السميع} لما يقوله عباده

{العليم} بما يفعلونه فلا يفوته شيء ما وقال الزجاج من للشرط ويرتفع بالإبتداء وجواب الشرط فإن اجل اللّه لآت كقولك إن كان زيد الدار فقد صدق الوعد

٦

{ومن جاهد} نفسه بالصبر على طاعة اللّه أو الشيطان بدفع وساوسة أو الكفار

{فإنما يجاهد لنفسه} لأن منفعة ذلك ترجع إليها

{إن اللّه لغني عن العالمين} وعن طاعتهم ومجاهدتهم وإنما أمر ونهي رحمة للعباده

٧

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم} أي الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة

{ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} أي أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام

٨

{ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} وصى حمكمه حكم أمر في معناه وتصرفه يقال وصيت زيدا بأن يفعل خيرا كما تقول أمرته بأن يفعل ومنه قوله وصى بها ابراهيم بنيه أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها وقولك وصيت وزيدا بعمر ومعناه وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك وكذلك معنى قوله ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ووصيناه بإيتاء والديه حسنا أو بإيلاء والديه حسنا أي فعلا ذا حسن أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه كقوله وقولوا للناس حسنا ويجوز أن يجعل حسنا من باب قولك زيدا بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب فتنصبه بإضمار أولهما أو إفعل بهما لأن التوصية بهما دالة عليه وما بعده مطابق له كأنه قال قلنا أولهما معروفا ولا تطعهما في الشرك إذا حملاك عليه وعلى هذا التفسيران وقف علي بوالديه وابتدىء حسنا حسن الوقف على التفسير الأول لابد من اضمار القول معناه وقلنا

{وإن جاهداك} أيها الإنسان

{لتشرك بي ما ليس لك به علم} أي لا علم بإلهيته والمراد بنفي العلم نفى المعلوم كأنه قال لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها

{فلا تطعهما} في ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

{إلي مرجعكم} مرجع من آمن منكم ومن أشرك

{فأنبئكم بما كنتم تعملون} فأجازيكم حق جزائكم وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك وحث على الثبات والاستقامة في الدين روى أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم نذرت أمه أن لا تأكل ولا تشرب حتى يرتد فشكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف

٩

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات} هو مبتدأ والخبر

{لندخلنهم في الصالحين} في جملتهم والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين وهو متمنى الأنبياء عليهم السلام قال سليمان عليه السلام وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وقال يوسف عليه السلام توفني مسلما وألحقني بالصالحين أو في مدخل الصالحين وهو الجنة ونزلت في المنافقين

١٠

{ومن الناس من يقول آمنا باللّه فإذا أوذي في اللّه} أي إذا مسه أذى من الكفار

{جعل فتنة الناس كعذاب اللّه} أي جزع من ذلك كما يجزع من عذاب اللّه تعالى

{ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} أي وإذا نصر اللّه المؤمنين وغنهم اعترضوهم وقالوا إنا كنا معكم أي متابعين لكم في دينكم ثابتين عليه بثباتكم فأعطونا نصيبنا من الغنم

{أو ليس اللّه بأعلم بما في صدور العالمين} أي هو أعلم بما في صدور العالمين من العالمين بما في صدورهم ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق وما في صدرو المؤمنين من الإخلاص ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين بقوله

١١

{وليعلمن اللّه الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} أي حالهما ظاهرة عند من يملك الجزاء عليهما

١٢

{وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} أموراهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سيبلنا وأن نحمل خطاياكم والمعنى تعليق الحمل بالإتباع أي أن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم وهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث نحن ولا أنتم فإن كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الأثم

{وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف

١٣

{وليحملن أثقالهم} أي أثقال أنفسهم يعنى أوزارهم بسب كفرهم

{وأثقالا مع أثقالهم} أي أثقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها وهي أثقال الذين كانوا سببا في ضلالهم وهو كما قال ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم

{وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} يختلقون من الأكاذيب والأباطيل

١٤

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} كان عمره ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين وعن وهب أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة فقال له ملك الموت يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا قال كدار لها بابان دخلت وخرجت ولم يقل تسعمائة وخمسين سنة لأنه لو قيل كذلك لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل هنا فكانه قيل تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة ولأن القصة سبقت لما إبتلى به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لنبينا عليه السلام فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض وجيء بالمميز أولا بالسنة ثم بالعام لأن تكرارا لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة

{فأخذهم الطوفان} هو ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما

{وهم ظالمون} أنفسهم بالكفر

١٥

{فأنجيناه} أي نوحا

{وأصحاب السفينة} وكانوا ثمانية وسبعين نفسا نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم

{وجعلناها} أي السفينة أو الحادثة أو القصة

{آية} عبرة وعظة

{للعالمين} يتعظون بها

١٦

{وإبراهيم} نصب باضمار أذكر وأبدل عنه

{إذ قال} بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها أو معطوف على نوح أي وأرسلنا ابراهيم أو ظرف لأرسلنا يعني أرسلناه حين بلغ من السن أو العلم مبلغا صلح فيه لأن يعظ قومه ويأمرهم بالعبادة والتقوى وقرأ ابراهيم النخعي وأبو حنيفة رضي اللّه عنهما ابراهيم بالرفع على معنى ومن المرسلين ابراهيم

{لقومه اعبدوا اللّه واتقوه ذلكم خير لكم} من الكفر

{إن كنتم تعلمون} إن كان لكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم

١٧

{إنما تعبدون من دون اللّه أوثانا} أصناما

{وتخلقون} وتكذبون أو تصنعون وقرأ أبو حذيفة والسلمى رضي اللّه عنهما وتخلقون من خلق بمعنى التكثير في خلق

{إفكا} وقرىء أفكا وهو مصدر نحو كذب ولعب والافك مخفف منه كالكذب واللعب من أصلهما واختلافهم الافك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء للّه

{إن الذين تعبدون من دون اللّه لا يملكون لكم رزقا} لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق

{فابتغوا عند اللّه الرزق} كله فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره

{واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه وبفتح التاء وكسر الجيم يعقوب

١٨

{وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين} أي وإن تكذبوني فلا تضروني بتكذيبكم فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم وما ضروهم وإنما ضروا أنفسهم حيث حل بهم العذاب بسبب تكذيبهم وأما الرسول فقد تم أمره حيث بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشك وهو اقترانه بآيات اللّه ومعجزاته أو وأن كنت مكذبا فيما بينكم فلى في سائر الأنبياء اسوة حيث كذبوا وعلى الوسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله فما كان جواب قومه محتملة أو تكون من جملة قول ابراهيم عليه السلام لقومه والمراد بالأمم قبله قوم شيث وادريس ونوح وغيرهم وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشأن قريش بين أول قصة ابراهيم وآخرها فإن قلت فالجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه فلا تقول مكة وزيد قائم خير بلاد اللّه قلت نعم وبيانه أن إيراد قصة ابراهيم عليه السلام ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأن تكون مسلاة له بأن اباه ابراهيم عليه السلام كان مبتلى نحو ما ابتلى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان فاعترض بقوله وإن تكذبوا على معنى أنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها لأن قوله فقد كذب أمم من قبلكم لابد من تناوله لأمة ابراهيم وهو كما ترى اعتراض متصل ثم سائر الآيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله وهدم الشرك وتوهين قواعده وصفة قدرة اللّه تعالى وسلطانه ووضوح حجته وبرهانه

١٩

{أو لم يروا} وبالتاء كوفى غير حفص

{كيف يبدئ اللّه الخلق} أي قدروا ذلك وعلموه وقوله

{ثم يعيده} ليس بمعطوف على يبدىء وليست الرؤية واقعة عليه وإنما هو اخبار على حياله بالإعادة بعد الموت كما وقع النظر في قوله كيف بدأ الخلق ثم اللّه ينشىء النشأة الآخرة على البدء دون الانشاء بل هو معطوف على جملة قوله أو لم يروا كيف يبدىء اللّه الخلق

{إن ذلك} أي الإعادة

{على اللّه يسير} سهل

٢٠

{قل} يا محمد وإن كان من كلام ابراهيم فتقديره وأوحينا إليه أن قل

{سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} على كثرتهم واختلاف أحوالهم لتعرفوا عجائب فطرة اللّه لمشاهدة وبدأ وأبدأ بمعنى

{ثم اللّه ينشئ النشأة الآخرة} أي البعث وبالمد حيث كان مكي وأبو عمرو وهذا دليل على أنهما نشأتان وأن كل واحدة منهما انشاء أي ابتداء واختراع وإخراج من العدم إلى الوجود غير أن الآخرة لأن الكلام معهم وقع في الإعادة فلما قررهم في الابداء بأنه من اللّه احتج عليهم بأن الإعادة انشاء مثل الإبداء فإذا لم يعجزه الإبداء وجب أن لا يعجزه الإعادة فكأنه قال ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشىء النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ

{إن اللّه على كل شيء قدير} قادر

٢١

{يعذب من يشاء} بالخذلان

{ويرحم من يشاء} بالهداية أو بالحرص والقناعة أو بسوء الخلق وحسنة أو الاعراض عن اللّه وبالاقبال عليه أو بمتابعة البدع وبملازمة السنة

{وإليه تقلبون} تردون وترجعون

٢٢

{وما أنتم بمعجزين} ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه

{في الأرض} الفسيحة

{ولا في السماء} التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها

{وما لكم من دون اللّه من ولي} يتولى أموركم

{ولا نصير} ولا ناصر يمنعكم من عذابي

٢٣

{والذين كفروا بآيات اللّه} دلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته

{ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي} جنتي

{وأولئك لهم عذاب أليم

٢٤

فما كان جواب قومه} قوم ابراهيم حين دعاهم إلى الإيمان

{إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه} قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين فكانوا جميعا في حكم القائلين فاتفقوا تحريقه

{فأنجاه اللّه من النار} حين قذفوه فيها

{إن في ذلك} فيما فعلوا به وفعلنا

{لآيات لقوم يؤمنون} روى أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار يعني يوم ألقي إبراهيم في النار وذلك لذهاب حرها

٢٥

{وقال} ابراهيم لقومه

{إنما اتخذتم من دون اللّه أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا} حمزة وحفص مودة بينكم مدني وشامي وحماد ويحيى وخلف مودة بينكم مكي وبصرى وعلى مودة بينكم الشمنى والبرجمي النصب على وجهين على التعليل أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لإجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تجابهم وأن يكون مفعولا ثانيا كقوله اتخذ إلهه هواه وما كافة أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم على تقدير حذف المضاف أو اتخذتموها مودة بينكم أي مودودة بينكم كقوله ومن الناس من يتخذ من دون اللّه أندادا يحبونهم كحب اللّه وفي الرفع وجهان أن يكولا خبرا لأن ما موصولة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي مودة بينكم والمعنى أن الأوثان مودة بينكم أي مودودة أو سبب مودة ومن أضاف المودة جعل بينكم اسما لا ظرفا كقوله شهادة بينكم ومن نون مودة ونصب بينكم فعلى الظرف

{ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} تتبرأ الأصنام من عابديها

{ويلعن بعضكم بعضا} أي يوم القيامة يقوم بينكم التلاعن فيلعن الاتباع القادة

{ومأواكم النار} أي مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع

{وما لكم من ناصرين} ثمة

٢٦

{فآمن له} لإبراهيم عليه السلام

{لوط} هو ابن أخي ابراهيم وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه

{وقال} إبراهيم

{إني مهاجر} من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين وهي من برية الشام ومن ثم قالوا الكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان وكان معه في هجرته لوط وسارة وقد تزوجها إبراهيم

{إلى ربي} إلى حيث أمرني ربي بالهجرة إليه

{إنه هو العزيز} الذي يمنعني من أعدائي

{الحكيم} الذي لا يأمرني إلا بما هو خير

٢٧

{ووهبنا له إسحاق} ولدا

{ويعقوب} ولد ولد ولم يذكر اسمعيل لشهرته

{وجعلنا في ذريته النبوة} أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء

{والكتاب} والمراد به الجنس يعني التوراة والانجيل والزبور والفرقان

{وآتيناه} أي إبراهيم

{أجره} الثناء الحسن والصلاة عليه إلى آخر الدهر ومحبة أهل الملل له أو هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لغيره

{في الدنيا} فيه دليل على أنه تعالى قد يعطي الاجر في الدنيا

{وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي من أهل الجنة عن الحسن

٢٨

{ولوطا} أي واذكر لوطا

{إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة} الفعلة البالغة في القبح وهي اللواطة

{ما سبقكم بها من أحد من العالمين} جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة كان قائلا قال لم كانت فاحشة فقيل لأن احدا قبلهم لم يقدم عليها قالوا لم ينزل ذكر على ذكر قبل قوم لوط

٢٩

{أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل} بالقتل وأخذ المال كما هو عمل قطاع الطريق وقيل اعتراضهم السابلة بالفاحشة

{وتأتون في ناديكم} مجلسكم ولا يقال للمجلس ناد إلا مادام فيه أهله

{المنكر} أي المضارطة والمجامعة والسباب والفحش في المزاح والحذف بالحصى ومضغ العلك والفرقعة والسواك بين الناس

{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب اللّه إن كنت من الصادقين} فيما تعدنا من نزول العذاب أنكم أئنكم شامى وحفص وهو الموجود في الإمام وكل واحدة بهمزتين كوفي غير حفص آينكم آينكم بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة أو عمرو أينكم أينكم بهمزة مقصورة بعدها ياء مكسورة مكي ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد

٣٠

{قال رب انصرني} بإنزال العذاب

{على القوم المفسدين} كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش

٣١

{ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} بالبشارة لإبراهيم بالولد والنافلة يعني اسحق ويعقوب

{قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية} إضافة مهلكوا لم تفد تعريفا لأنها بمعنى الاستقبال والقرية سدوم التي قيل فيها أجور من قاضي سدوم وهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع ابراهيم عليه السلام قالوا أنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع ابراهيم عليه السلام

{إن أهلها كانوا ظالمين} أي الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة وهم عليه مصرون وظلمهم كفرهم وأنواع معاصيهم

٣٢

{قال} ابراهيم

{إن فيها لوطا} أي أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم وهو لوط

{قالوا} أي الملائكة

{نحن أعلم} منك

{بمن فيها لننجينه} لننجينه يعقوب وكوفي غير عاصم

{وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} الباقين في العذاب ثم أخبر عن مسيرة الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم ابراهيم يقوله

٣٣

{ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم} ساءه مجيئهم وأن صلة أكدت وجود الفعلين مرتبا احدهما على الآخر كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل كما أحسن بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث خيفة عليهم من قومه أن يتناولوهم بالفجور سيء بهم مدني وشامي وعلى

{وضاق بهم ذرعا} وضاق بشأنهم ويتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته وقد جعلوا ضيق الذرع والذراع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا رحب الذرع إذا كان مطيقا والأصل فيه ان الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والمقدرة وهو نصب على التمييز

{وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك} وبالتخفيف مكي وكوفي غير حفص

{وأهلك} الكاف في محل الجر ونصب أهللك بفعل محذوف أي وننجي أهلك

{إلا امرأتك كانت من الغابرين

٣٤

إنا منزلون} منزلون شامي

{على أهل هذه القرية رجزا} عذابا

{من السماء بما كانوا يفسقون} بفسقهم وخروجهم عن طاعة اللّه ورسوله

٣٥

{ولقد تركنا منها} من القرية

{آية بينة} هي آثار منازلهم الخربة وقيل الماء الأسود على وجه الأرض

{لقوم} يتعلق بتركنا أو ببينة

{يعقلون

٣٦

وإلى مدين} وأرسلنا إلى مدين

{أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا اللّه وارجوا اليوم الآخر} وافعلوا ما ترجون به الثواب في العاقبة أو خافوه

{ولا تعثوا في الأرض مفسدين} قاصدين الفساد

٣٧

{فكذبوه فأخذتهم الرجفة} الزلزلة الشديدة أو صيحة جبريل عليه السلام لأن القلوب رجفت بها

{فأصبحوا في دارهم} في بلدهم وأرضهم

{جاثمين} باركين على الركب ميتين

٣٨

{وعادا} منصوب باضمار أهلكنا لأن قوله فأخذتهم الرجفة يدل عليه لأنه في معنى الاهلاك

{وثمود} حمزة وحفص وسهل ويعقوب

{وقد تبين لكم} ذلك يعني ما وصفه من إهلاكهم

{من مساكنهم} من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها

{وزين لهم الشيطان أعمالهم} من الكفر والمعاصي

{فصدهم عن السبيل} السبيل الذي امروا بسلوكه هو الإيمان باللّه ورسله

{وكانوا مستبصرين} عقلاء متمكنين من النظر وتمييز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا

٣٩

{وقارون وفرعون وهامان} أي وأهلكناهم

{ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين} فائتين أدركهم أمر اللّه فلم يفوتوه

٤٠

{فكلا أخذنا بذنبه} فيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب

{فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا} هي ريح عاصف فيها حصباء وهي لقوم لوط

{ومنهم من أخذته الصيحة} هي لمدين وثمود

{ومنهم من خسفنا به الأرض} يعني قارون

{ومنهم من أغرقنا} يعني قوم نوح وفرعون

{وما كان اللّه ليظلمهم} ليعاقبهم بغير ذنب

{ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بالكفر والطغيان

٤١

{مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء} أي آلهة يعني مثل من أشرك باللّه الأوثان في الضعف وسوء الإختيار

{كمثل العنكبوت اتخذت بيتا} أي كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإن ذلك بيت لا يدفع عنها الحر والبرد ولا يقي ما تقي البيوت فكذلك الأوثان لا تنفعهم في الدنيا والآخرة جعل حاتم اتخذت حالا

{وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} لابيت أوهن من بيتها عن علي رضي اللّه عنه طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر

{لو كانوا يعلمون} إن هذا مثلهم وإن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن وقيل معنى الآية مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد اللّه مثل عنكبوت تتخذ بيتا بالإضافة إلى رجل يبني بيتا بآجر وجص أو ينحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون وقال الزجاج في جماعة تقدير الآية مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء لو كانوا يعلمون كمثل العنكبوت

٤٢

{إن اللّه يعلم ما يدعون} بالياء بصرى وعاصم وبالتاء غيرهما غير الأعشى والبرجمي وما بمعنى الذي وهو مفعول يعلم ومفعول يدعون مضمر في يدعونه يعني يعبدونه

{من دونه من شيء} من في شيء للتبيين

{وهو العزيز} الغالب الذي لا شريك له

{الحكيم} في ترك المعاجلة بالعقوبة وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جمادا لا علم له ولا قدرة وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء الحكيم الذي لا يفعل كل شيء إلا بحكمة وتدبير

٤٣

{وتلك الأمثال} الأمثال نعت والخبر

{نضربها} نبينها

{للناس} كان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون أن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك فلذلك قال

{وما يعقلها إلا العالمون} به وبأسمائه وصفاته أي لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا هم لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستترة حتى تبرزها وتصورها للأفهام كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعته واجتنب سخطه ودلت الآية على فضل العلم على العقل

٤٤

{خلق اللّه السماوات والأرض بالحق} أي محقا يعني لم يخلقهما باطلا بل لحكمة وهي أن تكونا مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم دلائل على عظم قدرته ألا ترى قوله

{إن في ذلك لآية للمؤمنين} وخصهم بالذكر لإنتفاعهم بها

٤٥

{اتل ما أوحي إليك من الكتاب} تقربا إلى اللّه تعالى بقراءة كلامه ولتقف على ما أمر به ونهى عنه

{وأقم الصلاة} أي دم على إقامة الصلاة

{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء} الفعلة القبيحة كالزنا مثلا

{والمنكر} هو ما ينكره الشرع والعقل قيل من كان مراعيا للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوما ما فقد روى أنه قيل يوما لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه وروى أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال إن صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب وقال ابن عوف أن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر وعن الحسن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست صلاته بصلاة وهي وبال عليه

{ولذكر اللّه أكبر} أي الصلاة أكبر من غيرها من الطاعات وإنما قال ولذكر اللّه ليستقل بالتعليل كأنه قال والصلاة أكبر لأنها ذكر اللّه وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما ولذكر اللّه إياكم برحمته أكبر من ذكركم اياه بطاعته وقال ابن عطاء ذكر اللّه لكم أكبر من ذكركم له لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني ولأن ذكره لا يفني وذكركم لا يبقى وقال سلمان ذكر اللّه أكبر من كل شيء وأفضل فقد قال عليه السلام ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا وما ذاك يا رسول اللّه قال ذكر اللّه وسئل أي الأعمال أفضل قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر اللّه أو ذكر اللّه أكبر من أن تحويه أفهاكم وعقولكم أو ذكر اللّه أكبر من أن تلقى معه معصية أو ذكر اللّه أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من غيره

{واللّه يعلم ما تصنعون} من الخير والطاعة فيثيبكم أحسن الثواب

٤٦

{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} بالخصلة التى هى أحسن للثواب وهى مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال ادفع بالتى هى أحسن ( إلا الذين ظلموا منهم ) فأفرطوا فى الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة وقيل إلا الذين آذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد اللّه مغلولة أو معناه ولا تجادلوا الداخلين فى الذمة المؤدين للجزية إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فمجادلتهم بالسيف والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة فى الدين وعلى جواز تعلم علم الكلام الذى به تتحقق المجادلة وقوله

{وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} من جنس المجادلة بالاحسن وقال عليه السلام: ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا باللّه وكتبه ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوهم وان كان حقا لم تكذبوهم

٤٧

{وكذلك} ومثل ذلك الانزال

{أنزلنا إليك الكتاب} أى أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماويةأو كما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب

{فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} هم عبداللة بن سلام ومن معه

{ومن هؤلاء} أى من اهل مكة

{من يؤمن به} أو أراد بالذين أوتو الكتاب الذين تقدموا عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب ومن هؤلاء الذين كانوا فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{وما يجحد بآياتنا} مع ظهورها وزوال الشبهة عنها

{إلا الكافرون} إلا المتوغلون فى الكفرالمصممون عليه ككعب بن الاشرف واضرابه

٤٨

{وما كنت تتلو من قبله} من قبل القرآن

{من كتاب ولا تخطه بيمينك} خص اليمين لأن الكتابة عالبا تكون باليمين أى ما كنت قرأت كتابا من الكتب ولا كنت كاتبا

{إذا} أى لو كان شيء من ذلك أى من التلاوة ومن الخط

{لارتاب المبطلون} من أهل الكتاب وقالوا الذى نجد نعته فى كتبنا امى لا يكتب ولا يقرأ وليس به أو لارتاب مشركو مكة وقالوا لعله تعلمه أو كتبه بيده وسماهم مبطلين لا نكارهم نبوته وعن مجاهد والشعبى ما مات النبى صلى اللّه عليه وسلم حتى كتب وقرأ

٤٩

{بل هو} أى القرآن

{آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} أى فى صدور العلماء به وحفاظه وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الاعجاز وكونه محفوظا فى الصدور بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزات ولا كانت تقرأ إلا من المصاحف

{وما يجحد بآياتنا} الواضحة

{إلا الظالمون} أى المتوغلون فى الظلم

٥٠

{وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه} آية بغير الف مكى وكوفى غير حفص أرادواهلا انزل عليه آيات مثل الناقة والعصا ومائدة عيسى عليهم السلام ونحو ذلك

{قل إنما الآيات عند اللّه} ينزل أيتها شاء ولست املك شيئا منها

{وإنما أنا نذير مبين} كلفت الانذار وابانته بما اعطيت من الآيات وليس لى ان اقول انزل على آيه كذا دون آيه كذا مع علمى ان المراد من الآيات ثبوت الدلالة والآيات كلها فى حكم آية واحدة فى ذلك

٥١

{أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} أى أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات ان كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذى تدوم تلاوته عليهم فى كل مكان وزمان فلا يزال معهم آيه ثابتة لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها أو تكون فى مكان دون مكان

{إن في ذلك} أى فى مثل هذه الآية الموجودة فى كل مكان وزمان إلى آخر الدهر

{لرحمة} لنعمة عظيمة

{وذكرى} وتذكرة

{لقوم يؤمنون} دون المتعنتين

٥٢

{قل كفى باللّه بيني وبينكم شهيدا} اى شاهدا بصدق ما ادعيه من الرسالة وانزال القرآن على وبتكذيبكم

{يعلم ما في السماوات والأرض} فهو مطلع على امرى وامركم وعالم بحقى وباطلكم

{والذين آمنوا بالباطل} منكم وهو ما يعبدون من دون اللّه

{وكفروا باللّه} وآياته

{أولئك هم الخاسرون} والمغبونون فى صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالايمان إلا أن الكلام ورد مورد الانصاف كقوله وانا أو اياكم لعلى هدى أوفى ضلال مبين وروى أن كعب بن الاشراف وأصحابه قالوا يا محمد من يشهد لك بأنك رسول اللّه فنزلت

٥٣

{ويستعجلونك بالعذاب} بقولهم فَأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء الآية

{ولولا أجل مسمى} وهو يوم القيامة أو يوم بدر أو وقت فنائهم بآجالهم والمعنى ولولا اجل قد سماه اللّه وبينه فى اللوح لعذبهم والحكمة تقتضى تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى

{لجاءهم العذاب} عاجلا

{وليأتينهم} العذاب عاجلا أو ليأتينهم العذاب فى الأجل المسمى

{بغتة} فجأة

{وهم لا يشعرون} بوقت مجيئه

٥٤

{يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أى ستحيط بهم

٥٥

{يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم} لقوله تعالى من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ولا وقف على بالكافرين لأن يوم ظرف إحاطة النار بهم

{ويقول} بالياء كوفى ونافع وقوله

{ذوقوا ما كنتم تعملون} أى جزاء أعمالكم

٥٦

{يا عبادي} وبسكون الياء بصرى وكوفى غير عاصم

{الذين آمنوا إن أرضي واسعة} وبفتح الياء شامى يعنى أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة فى بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبا واصح دينا وأكثر عبادة والبقاع تتفاوت فى ذلك تفاوتا كثيرا وقالوا لم نجد أعون على قهر النفس واجمع للقلب واحث على القناعة واطرد للشيطان وابعدمن الفتن واربط للأمر الدينى من مكة حرسها اللّه تعالى وعن سهل إذا ظهرت المعاصى والبدع فى أرض فأخرجوا منها إلى الأرض المطيعين وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة

{فإياي فاعبدون} وبالياء يعقوب وتقديره فاياى فاعبدونى وجىء بالفاء فى فاعبدون لأنه جواب شرط محذوف لأن المعنى أن أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لى فى أرض فاخلصوها فى غيرها ثم حذف الشرط وعوض عن حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص ثم شجع المهاجر بقوله

٥٧

{كل نفس ذائقة الموت} أى واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفاوقة وطنها

{ثم إلينا ترجعون} بعد الموت للثوب والعقاب يرجعون يحيى ترجعون يقعوب

٥٨

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا} لننزلهم من الجنة علالى لبثوينهم كوفى غير عاصم من الثواء وهو النزول للاقامة وثوى غير مبتعد فإذا تعدى بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولا واحدا والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف أما أجراؤه مجرى لننزلنهم لنؤوينهم أو حذف الجار وإيصال الفعل أو تشبيه الظرف الؤقت بالمبهم

{تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} ويوقف على العاملين على أن

٥٩

{الذين صبروا} خبر مبتدأ محذوف أى هم الذين صبروا على مفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصى والوصل أجود ليكون الذين نعتا للعاملين

{وعلى ربهم يتوكلون} ولم يتوكلوا فى جميع ذلك إلا على اللّه ولما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أسلم من مكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فنزلت

٦٠

{وكأين من دابة} أى وكم من دابة وكائن بالمد والهمز مكى والدابة كل نفس دبت على وجه الأرض عقلت أم لم تعقل

{لا تحمل رزقها} لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حملة

{اللّه يرزقها وإياكم} أى لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا اللّه ولا يرزقكم أيضا أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل ارزاقكم وكسبها لأنه لو لم يقدركم ولم يقدر لكم أسباب الكسب لكنتم أعجز من الدواب التى لا تحمل وعن الحسن لا تحمل رزقها لا تدخره إنما تصبح فيرزقها اللّه وقيل لا يدخر شيء من الحيوان قوتا إلا ابن آدم والفأرة والنملة

{وهو السميع} لقولكم تخشى الفقر والعيلة

{العليم} بما فى ضمائركم

٦١

{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر} أى ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلق السموات والارض على كبرهما وسعتهما ومن الذى سخر الشمس والقمر

{ليقولن اللّه فأنى يؤفكون} فكيف يصرفون عن توحيد اللّه مع إقرارهم بهذا كله

٦٢

{اللّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} أى لمن يشاء فوضع الضمير موضع من يشاء لأن من يشاء مبهم غير معين فكان الضمير مبهما مثله قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه

{أن اللّه بكل شيء عليم} يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم فى الحديث ان من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وأن من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنينته لأفسده ذلك

٦٣

{ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن اللّه} أي هم مقرون بذلك

{قل الحمد للّه} على إنزاله الماء لاحياء الأرض أو على أنه ممن أقر بنحوما أقروا به ثم نفعه ذلك فى توحيد اللّه ونفى الشركاء عنه ولم يكن إقرارا عاطلا كاقرار المشركين

{بل أكثرهم لا يعقلون} لا يتدبرون بما فيهم من العقول فيما نريهم من الآيات ونقيم عليهم من الدلالات أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد للّه

٦٤

{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} أى وما هى لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون وفيه ازدراء بالدنيا وتصغير لأمرها وكيف لا تضرها وهى لا تزن عنده جناح بعوضة واللّهو ما يتلذذ به الإنسان فيلهيه ساعة ثم ينقضى

{وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أى الحياة ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة لا موت فيها فكانها فى ذاتها حياة والحيوان مصدر حى وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واوا ولم يقل لهى الحياة لما فى بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب والحياة حركة والموت سكون فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة معنى الحياة ويوقف على الحيوان لأن التقدير

{لو كانوا يعلمون} حقيقة الدارين لما اختاروا اللّهو الفانى على الحيوان الباقى ولو وصل لصار وصف الحيوان معلقا بشرط علمهم ذلك وليس كذلك

٦٥

{فإذا ركبوا في الفلك} هو متصل بمحذوف دل عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا فى الفلك

{دعوا اللّه مخلصين له الدين} كائنين فى صورة من يخلص الدين للّه من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا اللّه ولا يدعون معه إلها آخر

{فلما نجاهم إلى البر} وآمنوا

{إذا هم يشركون} عادوا إلى حال الشرك

٦٦

{ليكفروا بما آتيناهم} من النعمة قيل هى لام كى وكذا فى

{وليتمتعوا} فيمن قرأها بالكسر أى لكى يكفروا وكى يتمتعوا والمعنى يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاه قاصدين التمتع بهم والتلذذ لا غير على خلاف عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة فإنهم يشكرون نعمة اللّه إذا أنجاهم ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة لا إلى التلذذ والتمتع وعلى هذا لا وقف على يشركون ومن جعله لام الأمر متثبتا بقراءة ابن كثير وحمزة وعلى ولتمتعوا بسكون اللام على وجه التهديد كقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وتحقيقه فى أصول الفقه يقف عليه

{فسوف يعلمون} سوء تدبيرهم عند تدميرهم

٦٧

{أولم يروا} أى أهل مكة

{إنا جعلنا} بلدهم

{حرما} ممنوعا مصونا

{آمنا} يأمن داخله

{ويتخطف الناس من حولهم} يستلبون قتلا وسببا

{أفبالباطل يؤمنون} أى بالشيطان والأصنام

{وبنعمة اللّه يكفرون} أى بمحمد عليه السلام والإسلام

٦٨

{ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} بأن جعل له شريكا

{أو كذب بالحق} بنبوة محمد عليه السلام والكتاب

{لما جاءه} أى لم يتلعثموا فى تكذيبه حين سمعوه

{أليس في جهنم مثوى للكافرين} هذا تقرير لثوائهم فى جهنم لأن همزة الإنكار إذا أدخلت على النفى صار إيجابا يعنى ألا يثوون فيها وقد افتروا مثل هذا التكذيب على اللّه وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو ألم يصح عندهم أن فى جهنم مثوى للكافرين حين اجترءوا مثل هذه الجراءة وذكر المثوى فى مقابلة لنبوثنهم يؤيد قراءة الثانى

٦٩

{والذين جاهدوا} أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين

{فينا} فى حقنا ومن أجلنا ولو جهنا خالصا

{لنهدينهم سبلنا} سبلنا أبو عمرو أى لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا وعن الدارانى والذين جاهدوا فيما علمو لنهدينهم إلى ما لم يعلموا فقد قيل من عمل بما علم وفق لما لا يعلم وقيل إن الذى ترى من حهلنا بما لا نعلم إنما هو لتقصيرنا فيما نعلم وعن فضيل والذين جاهدوا فى طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به وعن سهل والذين جاهدوا فى إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة وعن ابن عطاء جاهدوا فى رضاها لنهدينهم الوصول إلى محل الرضوان وعن ابن عباس جاهدوا فى طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وعن الجنيد جاهدرا فى التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص أو جاهدوا فى خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا أو جاهدوا فى طلبنا تحريا لرضانا لنهدينهم سبل الوصول الينا

{وإن اللّه لمع المحسنين} بالنصرة والمعونة فى الدينا وبالثواب والمغفرة فى العقبى

﴿ ٠