٢٦ { ان اللّه لا يستحى ان يضرب مثلا ما بعوضة } عن الحسن وقتادة لما ذكر اللّه الذباب والعنكبوت فى كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام اللّه فانزل اللّه هذه الآية. والحياء تغير وانكسار يعترى الانسان من تخوف ما ياب به ويذم وهو جار على سبيل التمثيل لا يترك ضرب المئل بالبعوضة ترك من يستحيى ان يمثل بها لحقارتها فمحل ان يضرب اى يذكر النصب على المفعولية وما اسمية ابهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر ابهاما وشياعا كانه قيل مثلا ما من الامثال اى مثل كان فهى صفة لما قبلها وبعوضة بدل من مثلا والبعوضة صغار البق سميت بعوضة لانها كانها بعض البق { فما فوقها } اى فيذكر الذى هو ازيد منها كالذباب والعنكبوت او فما دونها فى الصغر قيل انه من الاضداد ويطلق على الاعلى والادنى وهو دابة يسرتها السكون ويظهرها التحرك يعنى لا تلوح للبصر الحاد الا بتحركها. فان قلت مثل اللّه آلهتهم ببيت العنكبوت وبالذباب فاين تمثيلها بالبعوضة فما دونها. قلت فى هذه الآية كأنه قال ان اللّه لا يستحيى ان يضرب مثل آلهتكم بالبعوضة فما دونها فما ظنكم بالعنكبوت والذباب. قال الربيع بن انس ضرب المثل بالبعوضة عبرة لاهل الدنيا فان البعوضة تحيى ما جاعت وتموت اذا شبعت فكذا صاحب الدنيا اذا استغنى طغى واحاط به الردى. وقال الامام ابو منصور الاعجوبة فى الدلالة على وحدانية اللّه تعالى فى الخلق الصغير الجثة والجسم اكثر منها فى الكبار العظام لان الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب وتركيب ما يحتاج من الفم والانف والعين والرجل واليدو المدخل والمخرج ما قدروا عليه ولعلهم يقدرون على تصوير العظام من الاجسام الكبار منها فالبعوضة اعطيت على قدر حجمها الحقير كل آلة وعضو أعطيه الفيل الكبير القوى. وفيه اشارة الى حال الانسان وكمال استعداده كما قال عليه السلام ( ان اللّه خلق آم على صورته ) اى على صفته فعلى قدر ضعف الانسان اعطاه اللّه تعالى من كل صفة من صفات جماله وجلاله نموذجا ليشاهد فى مرآة صفات نفسه كمال صفات ربه كما قال ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وليس لشئ من المخلوقات هذه الكرامة المختصة بالانسان كما قال تعالى { ولقد كرمنا بنى آدم } قال فى المثنوى ى زحق آموخت علم ... ابهفتم آسمان افروخت علم نام وناموس ملك را در شكست ... ورئ آنكس كه باحق درشكست قطره دلر يكى كوهر فتاد ... ان بكردونها ودرباها نداد جند صورت آخر اى صورت برست ... ان بى معنيت از صورت نرست كر بصورت آدمى انسان بدى ... وبو جهل خود يكسان بدى قاب بعضهم ان اللّه تعالى قوى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الاجناس وعرف الخلق قدرته فى خلق الضعفاء على هيآت الاقوياء فان البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره وفى البعوض زيادة جناحين فلا يستبعد من كرمه ان يعطى على قليل العمل ما يعطى على كثير العمل من الخلق كما اعطى صغير الجثة مع اعطى كبير الجثة من الخلقة ومن العجيب ان هذا الصغير يؤذى هذا الكبير فلا يمتنع منه ومن لطف اللّه تعالى انه خلق الاسد بغاية القوة والبعوض والذباب بغاية الضعف ثم اعطى البعوض والذباب جراءة اظهرها فى طيرانهما فى وجوه الناس وتماديهما فى ذلك مع مبالغة الناس فى ذبهما بالمذبة وركب الجبن فى الاسد واظهر ذلك تتباعده عن مساكن الناس وطرقهم ولو تجاسر الاسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس فمن اللّه تعالى وجل فى الضعيف - وحكى - انه خطب المأمون فوقع ذباب على عينه فطرده فعاد مرارا حتى قطع عليه الخطبة فلما صلى احضر ابا هذيل شيخ البصريين فى الاعتزال فقال له لم خلق اللّه الذباب قال ليذل به الجبابرة قال صدقت واجازه بمال كذا فى روضة الاخيار ففى خلق مثل الذباب حكم ومصالح. قال وكيع لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا وفن الاعاجيب ان هذا الضعيف اذا طار فى وجهك ضاق به قلبك ونغص به عيشك وفسد عليك بستانك وكرمك واعجب منه جراءتك مع ضعفك على ما يورثك العار ويوردك النار فاذا كان جزعك هذا من العبوض فى الدنيا فكيف حالك اذا تسلطت عليك الحيات والعقارب فى لظى. قال القشيرى رحمه اللّه الخلق فى التحقيق بالاضافة الى قدرة الخالق اقل من ذرة من الهباء فى الهواء وسيان فى قدرته العشر والبعوضة فلا خلق العرش عليه اعسر ولا خلق البعوضة عليه ايسر سبحانه وتقدس عن لحوق العسر واليسر. واعلم انه يمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وان كان الممثل اعظم من كل عظيم كما مثل فى الانجيل غل الصدر بالنخالة قال لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك انتم تخرج الحكمة من افواهكم وتبقون الغل فى صدوركم ومثل مخاطبة السفهاء باثارة الزنابير قال لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم وقال فيه ايضا لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والارضة فتفسدها ولا فى البرية حيث اللصوص والسموم فيسرقها اللصوص ويحرقها السموم ولكن ذخائركم عند اللّه تعالى. وجاء فى الانجيل ايضا مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع فى قريته حنطة جيدة نقية فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان وهو بفتح الزاى وضمها حب مر يخالط البر فقال عبيد الزراع يا سيدنا أليس حنطة جيدة زرعت فى قريتك قال بلى قالوا فمن اين هذا الزوان قال لعلكم ان ذهبتم لتلقطوا الزوان تقلعوا معه حنطة دعوهما يتربيان جميعا حتى الحصاد فامر الحصادين ان يلقطوا الزوان من الحنطة وان يربطوه حزما ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة الى الجرين. والتفسير الزراع ابو البشر والقرية العالم والحطنة الطاعة وزراع الزوان ابليس والزوان المعاصى والحصادون الملائكة يتوفون بنى آدم. وللعرب امثال مثل قولهم هو اجمع من ذرة يزعمون انها تدخر قوت سبع سنين واجرأ من الذباب لانه يقع على أنف الملك وجفن الاسد فاذا ذب اى منع آب اى رجع واسمع من قراد تزعم العرب ان القراد يسمع الهمس الخفى من من اسم الابل اى اخفافها على مسيرة سبع ليال او سبعة اميال وفلان اعمر من القراد وذلك انها تعيش سبعمائة سنة وقيل اعمر من حية لانها لا تموت الاقتلا ويقال اعمر من النسر لانه يعيش ثلاثمائة سنة وفلان أصرد من جرادة اى ابرد لانها لا تظهر فى الشتاء ابدا لقلة صبرها على البرد وأطيش من فراشة اى اخف منها وهى بالفارسية ( بروانه ) وأعز من مخ البعوض يقال لما لا يجود ويقال كلفتنى مخ البعوض فى تكليف ما لا يطاق وأضعف من بعوضة وآكل من السوس وهو القمل الذى يأكل الحنطة والشعير والدويبة التى تقع على الصوف والجوخ وغيرهما فتأكلها. وبالجملة ان اللّه تعالى يضرب الامثال للناس ولا يستحيى من الحق وله فى امثاله مطلقا حكم ومصالح وما يتذكر اولوا الالباب : قال المولى جلال الدين قدس سره بيت من بيت نسيت اقليمست ... هزل من هزل نيست تعليمست { فاما الذين آمنوا } بالقرآن محمد صلىللّه عليه وسلم والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل فيضربه فاما الذين آمنوا { فيعلمون انه } اى المثل بالبعوضة والذباب { الحق } اى الثابت الذى لا يسوغ انكاره { من ربهم } حال من الضمير المستكن فى الحق او من الضمير العائد الى المثل اى كائنا منه تعالى فيتفكرون فى هذا المثل الحق ويوقنون ان اللّه هو خالق الكبير والصغير وكل ذلك فى قدرته سواء فيؤمنون به { واما الذين كفروا } وهم اليهود والمشركون { فيقولون ماذا } اى ما الذى او اى شئ { اراد اللّه بهذا } اى بالمثل الخسيس وفى كلمة هذا تحقير للمشار اليه واسترذال له { مثلا } اى بهذا المثل فلما حذف الالف واللام نصب على الحال اى ممثلا او على التمييز فاجابهم اللّه تعالى بقوله { يضل } اى يخذل بهذا المثل والاضلال هو الصرف عن الحق الى الباطل واسناد الاضلال اى خلق الضلال اليه سبحانه مبنى على ان جميع الاشياء مخلوقة له تعالى وان كانت افعال العباد من حيث الكسب مستندة اليهم { كثير } من الكفار وذلك انهم يكذبونه فيزدادون ضلالة { ويهدى به } اى يوفق بهذا المثل { كثير } من المؤمنين لتصديقهم به فيزدادون هداية يعنى يضل به من علم منهم انه يختار الضلالة ويهدى به من علم انه يختار الهدى. فان قلت لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم. قلت اهل الهدى كثر فى انفسهم وحين يوصفون بالقلة انما يوصفون بها بالقياس الى اهل الضلال وايضا فان القليل من المهديين كثير فى الحقيقة وان قلوا فى الصورة لان هؤلاء على الحق وهم على الباطل. وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه الواد الاعظم هو الواحد على الحق { وما يضل به } اى لا يخذل بالمثل وتكذيبه { الا الفاسقين } اى الكافرين باللّه الخارجين عن امره. والفسق فى اللغة الخروج وفى الشريعة الخروج عن طاعة اللّه بارتكاب الكبيرة التى من جملتها الاصرار على الصغير وله طبقات ثلاث الاولى التغابى وهو ارتكابها احيانا مستقبحا لها والثانية الانهماك فى تعاطيها والثالثة المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذى عليه يدور الايمان. { الذين ينقضون عهد اللّه } اى يخالفون ويتركون امر اللّه تعالى. والنقض الفسخ وفك التركيب فان قلت من اين ساغ استعمال النقض فى ابطال العهد. قلت من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين قيل عهد اللّه ثلاثة الاول ما اخذه على ذرية آدم عليه السلام بان يقروا بربوبيته تعالى والثانى بان يبنوا الحق ولا يتكموه { من بعد ميثاقهم } اى بعد توثيق ذلك العهد وتوكيده بالقبول فالضمير للعهدا وبعد توثيق اللّه ذلك بانزال الكتب وارسال الرسل فالضمير الى اللّه فالمراد بالميثاق هنا نفس المصدر النفس العهد - يحكى - عن مالك بن دينار رحمه اللّه انه كان له ابن عم عامل سلطان فى زمانهم وكان ظالما جائرا فمرض ذلك الرجل ونذر وعهد على نفسه وقال لو عافانى اللّه تعالى مما انا فيه لا ادخل فى عمل السلطان ابدا قال فأبرأه اللّه من ذلك المرض فدخل فى عمل السلطان ثانيا فظلم الناس اكثر مما ظلمهم فى المرة الاولى فمرض ثانيا فنذر ثانيا ان لا يرجع الى عمل السلطان فبرئ ونقض العهد ودخل فيه ولظم اكثر مما ظلم فى المرتين فظهرت به علة شديدة فاخبر بذلك مالك بن دينار فراره وقال يا بنى اوجب على نفسك شيأ وعاهد مع اللّه عهدا لعلك تنجو من هذه العلة فقال المريض عاهدت اللّه ان لو قمت من فراشى ان لا اعود الى عمل السلطان ابدا فهتف هاتف يا مالك انا قد جربناه مرار فوجدناه كذوبا فلا ينفعه نذره اى جربناه بنفسه فاكذب نفسه فمات الفتى على هذه الحالة كذا فى روضة العلماء : قال فى المثنوى نقض ميثاق وشكست توبها موجب لعنت شود درانتها. { ويقطعون ما امر به اللّه ان يوصل } محل ان يوصل النصب على أنه بدل من ضمير الموصول اى ما امر اللّه به ان يوصل وهو يحتمل كل قطيعة لا يرضى بها اللّه سبحانه كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقة بين الانبياء عليهم السلام والكتب فى التصديق وترك الجماعات المفروضة وساسر ما فيه رفض خير او تعاطى شر فانه يقطع ما بين اللّه تعالى وبين العبد من الوصلة التى هى المقصودة بالذات من كل وصل وفصل وفى الحديث ( اذا اظهر الناس العلم ويضعوا العمل به وتحابوا بالالسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا الارحام لعنهم اللّه عند ذلك فاصمهم واعمى ابصارهم ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( ثلاثة فى ظل عرش اللّه يوم القيامة امرأة مات عنها زوجها وترك عليها يتامى صغارا فخطبت فلم تتزوج وقالت اقوم على ايتامى حتى يغنيهم اللّه او يميت ) يعنى اليتيم او ( هى ورجل له مال صنع طعاما فاطاب صنعته واحسن ثفقته فدعا عليه اليتيم والمسكين ورجل وصل الرحم يوسف له فى رزقه ويمد له فى اجله ويكون تحت ظل عرش ربه ) { ويفسدون فى الارض } بالمنع عن الايمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التى عليها يدور فلك نظام العالم وصلاحه { اولئك هم الخاسرون } اى المغبونون بالعقوبة فى الآخرة مكان المثوبة فى الجنة لانهم استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها. قيل ليس من مؤمن ولا كافر الا وله منزل واهل وخدم فى الجنة فان اطاعة تعالى اتى اهله وخدمه ومنزلة فى الجنة وان عصاه ورثه اللّه المؤمن فقد غبن عن اهله وخدمه ومنزله وفى التأويلات النجمية { ان اللّه لا يستحى ان يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فاما الذين آمنوا } بنور الايمان يشاهدون الحقائق والمعانى فى صورة الامثلة { فيعلمون انه الحق من ربهم واما الذين كفروا فيقولون } حيث انكروا الحق فجعل ظلمة انكارهم غشاوة فى ابصارهم فما شاهدوا الحقائق فى كسوة الامثلة كما ان العجم لا يشاهدون المعانى فى كسوة اللغة العربية فكذلك الكفار والجهار عند تحيرهم فىدراك حقائق الامثال قالوا { ما اذا اراد اللّه بهذا مثلا } فبجهلهم زادوا انكارا على انكار فتاهوا فى اودية الضلالة بقدم الجهالة { يضل به كثيرا } ممن اخطأه رشاش النور فى بدء الخلق كما قال عليه السلام ( ان اللّه خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن اصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن اخطأه فقد ضل ) فمن اخطأه ذلك النور فى عالم الارواح فقد اخطأه نور الايمان ههنا ومن اخطأه نور الايمان فقد اخطأه نور القرآن فلا يهتدى ومن اصابه ذلك هنالك اصابه ههنا نور الايمان ومن اصابه نور الايمان فقد اصابه نور القرآن ومن اصابه نور القرآن فهو ممن قال { ويهدى به كثيرا } وكان القرآن لقوم شفاء ورحمة ولقوم شقاء ونقمة لانه كلامه وصفته شاملة اللطف والقهر فبلطفه هدى الصادقين وبقهره اضل الافسقين لقوله { وما يضل به الا الفاسقين } الخاجرين من اصابه رشاش النور فى بدء الخلقة ثم اخبر عن نتائج ذكر الخروج ونقض العهود كما قال اللّه تعالى. |
﴿ ٢٦ ﴾