تفسير السمرقندي: بحر العلوم

أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي

الفقيه الحنفي

المتوفى سنة (ت ٣٧٥هـ ٩٨٥ م)

_________________________________

مقدمة المصنف

قال أخبرنا أبو الفضل جبريل بن أحمد اليوناني قال أنبأنا أبو محمد لقمان بن حكيم بن خلف الفرغاني بأوزكندة قال حدثنا الفقيه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رحمة اللّه عليه قال أخبرنا أبو جعفر الكرابيسي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن مرة الهمذاني قال قال ابن مسعود رضي اللّه عنه ( من أراد العلم فليثر القرآن ) وفي رواية أخرى فليؤثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال ما من شيء إلا وعلمه فى القرآن غير أن آراء الرجال تعجز عنه

حدثنا أبو جعفر محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ( أنهم كانوا يقرؤون على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل )

قال حدثنا الفقيه أبو الليث رحمه اللّه حدثنا أبي قال حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المعلم قال حدثنا أبو عمران الفريابي قال حدثنا عبد الرحمن بن جبير قال حدثنا داود بن المخبر قال حدثنا عباد بن كثير عن عبد خير عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في خطبته ( أيها الناس قد بين اللّه لكم في محكم كتابه ما أحل لكم وما حرم عليكم فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وآمنوا بمتشابهة واعملوا بمحكمه واعتبروا بأمثاله )

قال فلما أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يحل حلاله ويحرم حرامه ثم لا يمكن أن يحل حلاله ويحرم حرامه إلا بعد ما يعلم تفسيره ولأن اللّه تعالى أنزل القرآن هدى للناس وجعله حجة على جميع الخلق لقوله تعالى { وأوحى إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ } الأنعام ١٩ فلما كان القرآن حجة على العرب والعجم ثم لا يكون حجة عليهم إلا بعد أن يعلموا تفسيره وتأويله فدل ذلك على أن طلب تفسيره وتأويله واجب ولكن لا يجوز لأحد أن يفسر القرآن برأيه من ذات نفسه ما لم يتعلم أو يعرف وجوه اللغة وأحوال التنزيل لأنه روي في الخبر ما حدثنا به محمد بن الفضيل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار )

وروى أبو صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار )

قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضيل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن ابن مجاهد قال قال رجل لأبي أنت الذي تفسر القرآن برأيك فبكى أبي ثم قال ( إني إذا لجرئ لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم)

وروى عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه سئل عن قوله تعالى { وفكهة وأبا } عبس ٣١ فقال لا أدري ما الأب فقيل له قل من ذات نفسك يا خليفة رسول اللّه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن بما لا أعلم فإذا لم يعلم الرجل وجوه اللغة وأحوال التنزيل فتعلم التفسير وتكلف حفظه فلا بأس ويكون بذلك على سبيل الحكاية واللّه أعلم

 

سورة فاتحة

سورة فاتحة الكتاب مدنية وهي سبع آيات

١

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا خالد عن داود عن عامر ع قال: كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يكتب باسمك اللّهم فلما نزل في سورة هود { بسم اللّه مجريها ومرسها } هود ٤١ كتب بسم اللّه فلما نزل في سورة بني إسرائيل { قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن } الإسراء ١١٠ كتب بسم اللّه الرحمن فلما نزل في سورة النمل { إنه من سليمن وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم } النمل ٣٠ كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم

ففي هذا الخبر دليل على أنه ليس من أول كل سورة ولكنه بعض آية من كتاب اللّه تعالى من سورة النمل

فأما تفسير قوله { بسم اللّه } له يعني بدأت باسم اللّه ولكن لم يذكر بدأت لأن الحال ينبئ أنك مبتدئ فيستغنى عن ذكره وأصله باسم اللّه بالألف ولكن حذفت من الاسم لكثرة الاستعمال لأنها ألف وصل وليست بأصلية بدليل أنها تسقط عند التصغير فتقول سمي

وقال بعضهم معنى قوله { بسم اللّه } يعني بدأت بعون اللّه وتوفيقه وبركته وهذا تعليم من اللّه تعالى لعباده ليذكروا اسم اللّه تعالى عند افتتاح القراءة وغيرها حتى يكون الافتتاح ببركة اسم اللّه

وقوله { اللّه } هو اسم موضوع ليس له اشتقاق وهو أجل من أن يذكر له اشتقاق وهو قول الكسائي

قال أبو الليث رحمه اللّه هكذا سمعت أبا جعفر يقول روي عن محمد بن الحسن أنه قال هو اسم موضوع ليس له اشتقاق

وروي عن الضحاك أنه قال إنما سمي { اللّه } إلها لأن الخلق يألهون إليه فى قضاء حوائجهم ويتضرعون إليه عند شدائدهم وذكر عن الخليل بن أحمد البصري أنه قال لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام ويألهون بكسر اللام أيضا وهما لغتان

وقيل أيضا إنه إنما اشتق من الارتفاع فكانت العرب تقول للشيء المرتفع لاه وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس طلعت لاهة وغربت لاهة

وقيل أيضا إنما سمي { اللّه } لأنه لا تدركه الأبصار ولاه معناه احتجب كما قال القائل

( لاه ربي عن الخلائق طرا لا يرى خالق الخلق وهو يرى )

وقيل إنما سمي { اللّه } لأنه يوله قلوب العباد بحبه بقوله { الرحمن} فالعاطف على جميع خلقه بالرزق لهم ولا يزيد فى رزق التقي لأجل تقواه ولا ينقص من رزق الفاجر لأجل فجوره وما كان فى لغة العرب على ميزان فعلان يراد به المبالغة في وصفه كما يقال شبعان من شبع وغضبان من غضب إذا امتلأ غضبا

فلهذا سمى نفسه رحمانا لأن رحمته وسعت كل شيء فلا يجوز أن يقال لغير اللّه تعالى الرحمن لأن هذا الوصف لا يوجد لغيره

وأما { الرحيم } فالرفيق بالمؤمنين خاصة يستر عليهم ذنوبهم في الدنيا ويرحمهم في الآخرة ويدخلهم الجنة

وقيل أيضا إنما سمى نفسه رحيما لأنه لا يكلف عباده جميع ما لا يطيقون وكل ملك يكلف عباده جميع ما لا يطيقون فليس برحيم

وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال في قوله { بسم اللّه } ( اسمه شفاء من كل دواء ) وعون على كل داء

وأما { الرحمن } فهو عون لمن آمن به فهو اسم لم يسم به غيره

وأما { الرحيم } فلمن تاب وآمن وعمل صالحا وقد فسره بعضهم على الحروف

وروى عبد الرحمن المدني عن عبد اللّه بن عمر أن عثمان بن عفان رضي اللّه عنهم سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن التفسير { بسم اللّه الرحمن الرحيم } فقال أما ( الباء فبلاء اللّه وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء اللّه وأما الميم فملك اللّه وأما اللّه فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة )

وروي عن كعب الأحبار أنه قال ( الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه )

وقد قيل إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه فالباء مفتاح اسمه بصير والسين مفتاح اسمه سميع والميم مفتاح اسمه مليك

وقيل مجيد والألف مفتاح اسمه اللّه واللام مفتاح اسمه لطيف والهاء مفتاح اسمه هادي والراء مفتاح اسمه رزاق والحاء مفتاح اسمه حليم والنون مفتاح اسمه نور ومعنى هذا كله ودعاء اللّه تعالى عند الافتتاح

روي عن مجاهد أنه قال سورة فاتحة الكتاب مدنية

وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال هي مكية ويقال نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة

قال الفقيه رحمه اللّه حدثنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي قال حدثنا أبو حامد المروزي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا عمر بن يونس قال حدثنا جهضم بن عبد اللّه بن العلاء عن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن في كتاب اللّه لسورة ما أنزل اللّه على نبي مثلها فسأله أبي بن كعب عنها فقال ( إني لأرجو أن لا تخرج من الباب حتى تعلمها ) فجعلت أتبطأ ثم سأله أبي عنها فقال كيف تقرأ في صلاتك قال بأم الكتاب فقال والذي نفسي بيده ما أنزل اللّه في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته

وقال بعضهم السبع المثاني هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والخمس التي بعدها وقال أكثر أهل العلم هي سورة الفاتحة وإنما سميت السبع المثاني لأنها سبع آيات وإنما سميت المثاني لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة

وقيل إنما سماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين

٢

قال الفقيه رحمه اللّه حدثنا أبي قال حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن حامد الخزعوني قال حدثنا علي بن إسحاق قال حدثنا محمد بن مروان عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس في قوله عز وجل { الحمد للّه } قال الشكر للّه ومعنى قول ابن عباس الشكر للّه يعني الشكر للّه على نعمائه كلها

وقد قيل { الحمد للّه } يعني الوحدانية للّه

وقد قيل الألوهية للّه وروي عن قتادة أنه قال معناه الحمد للّه الذي لم يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين

ثم معنى قوله { الحمد للّه } قال بعضهم قل فيه مضمر يعني قل الحمد للّه

وقال بعضهم حمد الرب نفسه ليعلم عباده فيحمدونه

وقال أهل اللغة الحمد هو الثناء الجميل وحمد اللّه تعالى هو الثناء عليه بصفاته الحسنى وربما أنعم على عباده ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد

وقال بعضهم الشكر أعم لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب والحمد يكون باللسان خاصة كما قال { اعملوا آل داود شكرا }

وروي عن ابن عباس أنه قال ( الحمد للّه كلمة كل شاكر ) وذلك أن آدم عليه السلام قال حين عطس الحمد للّه فقال اللّه تعالى يرحمك اللّه فسبقت رحمته غضبه وقال اللّه تعالى لنوح { فقل الحمد للّه الذي نجنا من القوم الظلمين } المؤمنون ٢٨ وقال إبراهيم عليه السلام { الحمد للّه الذي وهب لى على الكبر إسمعيل وإسحق } إبراهيم ٣٩ وقال في قصة داود وسليمان { وقالا الحمد للّه الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } النمل ١٥ وقال لمحمد عليه السلام { وقل الحمد للّه الذى لم يتخذ ولدا } الإسراء ١١١ وقال أهل الجنة { الحمد للّه الذى أذهب عنا الحزن } فاطر ٣٤ فهي كلمة كل شاكر

وقوله تعالى { رب العالمين } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما سيد العالمين وهو رب كل ذي روح دب على وجه الأرض ويقال معنى قوله { رب العالمين } خالق الخلق ورازقهم ومربيهم ومحولهم من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة

والرب في اللغة هو السيد قال اللّه تعالى { ارجع إلى ربك } يوسف ٥٠ يعني إلى سيدك والرب هو المالك يقال رب الدار ورب الدابة والرب هو المربي من قولك ربى يربي تربية

وقوله { العالمين } كل ذي روح ويقال كل من كان له عقل يخاطب مثل بني آدم والملائكة والجن ولا يقع على البهائم ولا على غيرها وروي عن أبي بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ( إن للّه تعالى ثمانية عشر ألف عالم وإن دنياكم منها عالم واحد ) ويقال كل صنف عالم على حدة

٣

قوله { الرحمن الرحيم } قال فى رواية الكلبي هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر

وقال بعض أهل اللغة هذا اللفظ شنيع فلو قال هما اسمان لطيفان لكان أحسن ولكن معناه عندنا واللّه أعلم أنه أراد بالرقة الرحمة يقال رق فلان فلانا إذا رحمه يقال رق يرق إذا رحمه وقوله أحدهما أرق من الآخر

قال بعضهم الرحمن أرق لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين

وقال بعضهم الرحيم أرق لأنه في الدنيا وفي الآخرة

وقال بعضهم كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه فلهذا المعنى لم يبين وقال أحدهما أرق من الآخر يعني كل واحد منهما أرق من الآخر

٤

قوله تعالى { مالك يوم الدين } قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر { ملك } بغير الألف وقرأ عاصم والكسائي بالألف { مالك }

فأما من قرأ { مالك } قال لأن المالك أبلغ فى الوصف لأنه يقال مالك الدار ومالك الدابة ولا يقال ملك إلا لملك من الملوك

وأما الذي قرأ ملك قال إن ملك أبلغ في الوصف لأنك إذا قلت فلان ملك ( قال إن ملك أبلغ في الوصف لأنك إذا قلت فلان ملك ) هذه البلدة يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك وإذا قلت فلان مالك هذه البلدة كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة

وروى مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتتحون الصلاة ب { الحمد للّه رب العالمين } وكلهم يقرؤون { مالك يوم الدين } بالألف

قال الفقيه رحمه اللّه سمعت أبي يحكي عن أبي عبد اللّه محمد بن شجاع البلخي يقول كنت أقرأ بحرف الكسائي { مالك يوم الدين } بالألف فقال لي بعض أهل اللغة الملك أبلغ في الوصف فأخذت بقراءة حمزة { ملك يوم الدين } فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي لم حذفت الألف من { مالك } أما بلغك الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ( اقرؤوا القرآن فخما مفخما ) فلم أترك القراءة ب ملك حتى أتاني بعد ذلك آت فقال لي لم حذفت الألف من { مالك } أما بلغك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ( من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ) فلم نقصت من حسناتك عشرا في كل قراءة فلما أصبحت أتيت قطربا وكان إماما في اللغة فقلت له ما الفرق بين ملك ومالك فقال بينهما فرق كثير

فأما ملك فهو ملك الملوك

وأما مالك فهو مالك الملوك فرجعت إلى قراءة الكسائي

ثم معنى قوله { مالك } يعني قاضي وحاكم { يوم الدين } يعني يوم الحساب كما قال اللّه تعالى { ذلك الدين القيم } التوبة ٣٦ وغيرها

وقيل أيضا معنى يوم الدين يعني يوم القضاء كما قال اللّه تعالى { ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك } يوسف ٧٦ يعني في قضائه

وقيل { يوم الدين } يعني يوم الجزاء كما يقال كما تدين تدان يعني كما تجازي تجازى به

فإن قيل ما معنى تخصيص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره

قيل له إن في الدنيا كانوا منازعين له في الملك مثل فرعون ونمرود وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه وكلهم خضعوا له كما قال اللّه تعالى { لمن الملك اليوم } غافر ١٦ فأجاب جميع الخلق { للّه الواحد القهار } الرعد ١٦ وغيرها فكذلك هاهنا قال { مالك يوم الدين } يعني في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره

٥

قوله تعالى ( إياك نعبد ) هو تعليم علم المؤمنين كيف يقولون إذا قاموا بين يديه في الصلاة فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم وضعفهم حتى يوفقهم ويعينهم فقال { إياك نعبد } أي نوحد ونطيع

وقال بعضهم { إياك نعبد } يعني إياك نطيع طاعة نخضع فيها لك

قوله { وإياك تسعين } يقول بك نستوثق على عبادتك وقضاء الحقوق ففي هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة وبعضه على وجه المخاطبة لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة وهو قوله { الحمد للّه } ثم ذكر بلفظ المخاطبة فقال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهذا كما قال في آية أخرى { هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك } يونس ٢٢ فذكر بلفظ المخاطبة ثم قال { وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها } يونس ٢٢ على المغايبة ومثل هذا في القرآن كثير

٦

قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم } رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ { السراط } بالسين وروي عن حمزة أنه قرأ بالزاي وقرأ الباقون بالصاد وكل ذلك جائز لأن مخرج السين والصاد واحد وكذلك الزاي مخرجها منهما قريب والقراءة المعروفة بالصاد { أهدنا الصراط المستقيم } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما { أهدنا الصراط المستقيم } يعني أرشدنا الطريق المستقيم وهو الإسلام

فإن قيل أليس هذا الطريق المستقيم وهو الإسلام فما معنى السؤال

قيل له الصراط المستقيم هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود ويعصمه من السبل المتفرقة

وقد روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال ( خط لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطا مستقيما وخط بجنبه خطوطا ثم قال إن هذا الصراط المستقيم وهذه السبل المتفرقة وعلى رأس كل طريق شيطان يدعو إليه ويقول هلم إلى الطريق ) وفي هذا نزلت هذه الآية { وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } الأنعام ١٥٣ فلهذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } واعصمنا من السبل المتفرقة قال الكلبي أمتنا على دين الإسلام

وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال { هدنا الصراط المستقيم } يعني ثبتنا عليه ومعنى قول علي ثبتنا عليه يعني أحفظ قلوبنا على ذلك ولا تقلبها بمعصيتك وهذا موافق لقوله تعالى { ويهديك صراطا مستقيما } الفتح ٢ فكذلك ههنا

٧

وقوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم } يعني طريق الذين مننت عليهم فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه وهم أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه فامنن علينا كما مننت عليهم

قال الفقيه أخبرنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا عمرو بن إسماعيل بن مجالد قال حدثنا هشام بن القاسم قال حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم عن أبي العالية في قوله تعالى { أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } قال هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما قال عاصم فذكرت ذلك للحسن البصري فقال صدق واللّه أبو العالية ونصح

قوله تعالى { غير المغضوب عليهم } أي غير طريق اليهود يقول لا تخذلنا بمعصيتنا كما خذلت اليهود ولم تحفظ قلوبهم حتى تركوا الإسلام { ولا الضالين } يعني ولا النصارى يعني لم تحفظ قلوبهم وخذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا وقد اجمع المفسرون أن { غير المغضوب عليهم } أراد به اليهود ( والضالين ) أراد به النصارى

فإن قيل أليس النصارى من المغضوب عليهم واليهود أيضا من الضالين فكيف صرف المغضوب عليهم إلى اليهود وصرف الضالين إلى النصارى

قيل له إنما عرف ذلك بالخبر واستدلالا بالآية

فأما الخبر فما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن رجلا سأله وهو بوادي القرى من المغضوب عليهم قال اليهود قال ومن الضالين فقال النصارى

وأما الآية فلأن اللّه تعالى قال في قصة اليهود { فباءو بغضب على غضب } البقرة ٩٠ وقال تعالى في قصة النصارى { ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل } المائدة ٧٧

وقوله { آمين } ليس من السورة ولكن روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان يقوله ويأمر به ومعناه ما قال ابن عباس يعني كذلك يكون وروي عن مجاهد أنه قال هو اسم من أسماء اللّه تعالى ويكون معناه يا اللّه استجب دعاءنا

وقال بعضهم هي لغة بالسريانية وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما حسدتكم النصارى في شيء كحسدهم في آمين يعني أنهم يعرفون ما فيها من الفضيلة وروي عن كعب الأحبار قال { آمين } خاتم رب العالمين يختم به دعاء عباده المؤمنين وقال مقاتل هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما معنى { آمين } قال يا رب أفعل ويقال فيه لغتان { أمين } بغير مد و { آمين } بالمد ومعناهما واحد وقد جاء في أشعارهم كلا الوجهين قال القائل

( تباعد عني فطحل إذ دعوته آمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا )

وقال الآخر

( يا رب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم اللّه عبدا قال آمينا ) و صلّى اللّه عليه وسلّم

﴿ ٠