١٣٩ثم قال { ولا تحزنوا } وقيل يعني على ما أصابكم يوم أحد من القتل والهزيمة { وأنتم الأعلون } يعني الغالبون يقول آخر الأمر لكم ويقال { وأنتم الأعلون } في الحجة ويقال هذا وعد لأصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في المستأنف { وأنتم الأعلون } يعني الغالبون على الأعداء بعد أحد فلم يخرجوا بعد ذلك في عسكر إلا ظفروا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي كل عسكر كان بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم فهذه البلدان كلها إنما فتحت في عهد أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم بعد انقراضهم ما فتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتحون في ذلك الوقت ويقال في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام { إنك أنت الأعلى } طه ٦٨ وقال لهذه الأمة { وأنتم الأعلون } ويقال أشتقت هذه اللفظة من اسم اللّه تعالى لأن اسمه العلي الأعلى وقال للمؤمنين { وأنتم الأعلون } ثم قال تعالى { إن كنتم مؤمنين } يعني إن كنتم مصدقين بوعد اللّه ويقال معناه إذ كنتم مؤمنين ويقال في الآية تقديم وتأخير فكأنه قال ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون ويقال هذا وعد لهم بأنهم غالبون إن ثبتوا وصدقوا فلو أنهم ثبتوا وصدقوا لغلبوا كما غلبوا يوم بدر ولكنهم تركوا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرجع الأمر عليهم وكانت القصة في ذلك أنهم لما غلبوا المشركين يوم بدر وأصابوا منهم ما أصابوا وسنذكر في سورة الأنفال قصة بدر إن شاء اللّه تعالى فرجع أبو سفيان بن حرب بالعير إلى مكة وانهزم المشركون وذهب عكرمة بن أبي جهل ورجال أصيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب وهو رئيس مكة فكلموه وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال فقالوا إن محمدا قد قتل خياركم فاستعينوا بهذا المال على حربه ففعلوا قال الضحاك قد أعانهم أبو سفيان بمائة راحلة وما يصلحها من السلاح والزاد فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل وعليهم أبو سفيان بن حرب وكان في القوم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وذلك قبل دخولهم في الإسلام فلم يبق أحد من قريش إلا وقد خرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم فلما سمع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطب الناس فقال إني رأيت فيما يرى النائم كأن في سيفي ثلمة فأولتها مصيبة في نفسي ورأيت بقورا قد ذبحت فأولتها قتلى في أصحابي ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فأشيروا علي ما ترون وكره الخروج إليهم وكان رأي عبد اللّه بن أبي ابن سلول مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن لا يخرج ولكنه كان منافقا فقال يا رسول اللّه لا تخرج إليهم فإنا ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم اللّه بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر اخرج يا رسول اللّه لكي لا يرى أعداء اللّه أنا قد جبنا لهم أو ضعفنا عنهم فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته ثم خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم وقد خرج الناس فقالوا استكرهنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا يا رسول اللّه قد استكرهناك وما كان لنا ذلك فإن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما ينبغي لنبي أن يضع سلاحه إذا لبسه حتى يقاتل فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسار إلى أحد فانخذل عبد اللّه بن أبي ابن سلول قال في رواية الكلبي فرجع معه ثلث الناس وبقي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحو سبعمائة رجل وقال في رواية الضحاك فانخذل في ستمائة رجل من اليهود وبقي مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألف رجل من المؤمنين الطيبين ثم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزل بالشعب من أحد وأمر عبد اللّه بن جبير على الرماة وقال لهم لا تبرحوا عن هذا الموضع واثبتوا هاهنا إن كان الأمر علينا أو لنا وقال في رواية الكلبي كان الرماة خمسين رجلا وقال في رواية الضحاك كانوا سبعين رجلا فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ظهره إلى أحد ودنا المشركون وأخذوا في الحرب وقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب يضربن بالدفوف خلف قريش ويقلن ( نحن بنات طارق نمشي على النمارق ) ( إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق ) ( المسك في المفارق والدر في المخانق ) ( فراق غير وامق ) فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالا شديدا وقاتل علي بن أبي طالب حتى التوى سيفه وقاتل سعد بن أبي وقاص وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لسعد ارم فداك أبي وأمي فقتلوا جماعة من المشركين وصدقهم اللّه وعده وأنزل نصره حتى كانت هزيمة القوم لا شك فيها وكشفوهم عن معسكرهم قال الزبير رأيت هندا وصواحبتها هوارب فلما نظر الرماة إلى القوم قد انهزموا أقبلوا على النهب فقال لهم عبد اللّه بن جبير لا تبرحوا عن هذا الموضع فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد عهد إليكم فلم يلتفتوا إلى قوله وظنوا أن المشركين قد انهزموا فبقي عبد اللّه بن جبير مع ثمانية نفر فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قبل الشعب وقتلوا من بقي من الرماة ودخلوا خلف أقفية المسلمين وتفرق المسلمون ورجع المشركون وحملوا حملة واحدة فصار المسلمون ثلاثة أنواع بعضهم جريح وبعضهم قتيل وبعضهم منهزم وكان مصعب بن عمير يذب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل دونه ثم قام زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل وخلص الحرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه وأصيبت رباعيته وكلمت شفته وأدمي ساقه فقال سفيان بن عيينة لقد أصيب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحو ثلاثين رجلا كلهم جثوا بين يدي رسول اللّه أو قال يتقدم بين يديه ثم يقول وجهي لوجهك الوقاء ونفسي لنفسك الفداء وعليك سلام اللّه غير مودع فرجع الذي قتل مصعب بن عمير فظن أنه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال للمشركين قتلت محمدا فصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ويقال كان ذلك إبليس لعنه اللّه فولى المسلمون هاربين متحيرين وجاء إبليس لعنه اللّه ونادى في المدينة ألا إن محمدا قد قتل وأخذت النسوة في البكاء في البيوت فأقبل أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد اللّه في رجال من الم هاجرين والأنصار فقال لهم ما يحبسكم قالوا قتل محمد فقال ما تصنعون بالحياة بعده موتوا كراما على ما مات عليه نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم ثم أقبل نحو العدو فقاتل حتى قتل قال كعب بن مالك فأول من كنت عرفت من المسلمين عرفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عرفت عينية من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأشار إلي بأن أسكت وقال أنس بن مالك قد شج وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ويقال إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا يا رسول اللّه لو دعوت اللّه على هؤلاء الذين صنعوا بك فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لم أبعث طعانا ولا لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فجاءه أبيبن خلف الجمحي وهو يقول يا محمد لا نجوت إن نجوت مني فهم المسلمون به فقال لهم دعوه حتى دنا منه فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الحربه من الحارث بن الصمة ورماه به فخدشه في عنقه خدشا غير كبير وقد كان قبل ذلك لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة وقال عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة أقتلك عليه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بل أنا أقتلك عليه إن شاء اللّه فلما خدشه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول قتلني محمد فقالوا له ما بك من طعن فقال بلى لقد قال لي أنا أقتلك واللّه لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني فمات قبل إن يصل إلى مكة في الطريق وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واقفا عند أحد وقد اجتمع إليه بعض أصحابه فعلت عليه من قريش في الجبل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا ينبغي لهم أن يعلونا فأقبل عمر ورهط من المهاجرين فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له يقال له وحشي إن أنت قتلت محمدا جعلت لك أعنة الخيل وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر فقال وحشي أما محمد فعليه حافظ من اللّه لا يخلص إليه أحد وأما علي فما برز إليه رجل إلا قتله وأما حمزة فرجل شجاع فعسى أن أصادفه في غرته فاقتله مكانه وكانت هند كلما مر بها وحشي أو مرت به قالت له أيها أبا دسمه اشف واستشف فكمن وحشي خلف صخرة وكان حمزة قد حمل على قوة من المشركين فلما رجع من حملته مر بوحشي وهو خلف الصخرة فزرقه بالمزراق فأصابه فسقط فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى يجدعن الآذان والأنوف وشقت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها نحن جزيناكم بيوم بدر وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته اعل هبل يوما بيوم بدر فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعمر أجبه يا عمر فأجابه عمر اللّه أعلى وأجل لا سواه قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ثم ركب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بغلته وظاهر بين درعيه وأخرج يده من جيب الدرع وسل سيفه ذا الفقار وباشر القتال بنفسه وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فاعانوه وهزم اللّه جمع المشركين وقتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلا أربعة نفر من المهاجرين وستة وستون من الأنصار وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلا أو أكثر وكثرت القروح في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعزاهم اللّه تعالى في ذلك |
﴿ ١٣٩ ﴾