١٣٣

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ...}

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أمْ كُنْتُـمْ شهَدَاءَ أكنتـم، ولكنه استفهم ب(أمْ) إذ كان استفهاما مستأنفـا علـى كلام قد سبقه، كما

قـيـل: الـم تَنْزِيـل الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ مِنْ رَبّ العَالَـمِينَ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، وكذلك تفعل العرب فـي كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه تستفهم فـيه ب(أمْ)، والشهداء جمع شهيد كما الشركاء جمع شريك، والـخصماء جمع خصيـم.

وتأويـل الكلام: أكنتـم يا معشر الـيهود والنصارى الـمكذّبـين بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، الـجاحدين نبوّته، حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الـموت، أي أنكم لـم تـحضروا ذلك. فلا تدّعوا علـى أنبـيائي ورسلـي الأبـاطيـل، وتنـحلوهم الـيهودية والنصرانـية، فإنـي ابتعثت خـلـيـلـي إبراهيـم وولده إسحاق وإسماعيـل وذرّيتهم بـالـحنـيفـية الـمسلـمة، وبذلك وصوا بنـيهم وبه عهدوا إلـى أولادهم من بعدهم، فلو حضرتـموهم فسمعتـم منهم علـمتـم أنهم علـى غير ما تنـحلوهم من الأديان والـملل من بعدهم.

وهذه آيات نزلت تكذيبـا من اللّه تعالـى للـيهود والنصارى فـي دعواهم فـي إبراهيـم وولده يعقوب أنهم كانوا علـى ملتهم، فقال لهم فـي هذه الآية: أمْ كُنْتُـمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبُ الـمَوْتُ فتعلـموا ما قال لولده وقال له ولده. ثم أعلـمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٥٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: أمْ كُنْتُـمْ شُهَدَاءَ يعنـي أهل الكتاب.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: إذْ قَالَ لِبَنِـيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَـائِكَ إبْرَاهِيـمَ وَإِسْماعِيـلَ وإِسْحَاقَ إلَها وَاحِدا وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ قالَ لِبَنِـيهِ إذ قال يعقوب لبنـيه. و(إذ) هذه مكرّرة إبدالاً من (إذْ) الأولـى بـمعنى: أم كنتـم شهداء يعقوب إذ قال يعقوب لبنـيه حين حضور موته.

ويعنـي بقوله: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي شيء تعبدون من بعدي، أي من بعد وفـاتـي. قَالُوا نَعبدُ إلهَكَ يعنـي به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبـائك إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق إلها واحدا، أي نـخـلص له العبـادة ونوحد له الربوبـية فلا نشرك به شيئا ولا نتـخذ دونه ربـا.

ويعنـي بقوله: وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ ونـحن له خاضعون بـالعبودية والطاعة. ويحتـمل قوله: وَنَـحْن لَه مُسْلِـمُونَ أن تكون بـمعنى الـحال، كأنهم

قالوا: نعبد إلهك مسلـمين له بطاعتنا وعبـادتنا إياه. ويحتـمل أن يكون خبرا مستأنفـا، فـيكون بـمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونـحن له الاَن وفـي كل حال مسلـمون. وأحسن هذين الوجهين فـي تأويـل ذلك أن يكون بـمعنى الـحال، وأن يكون بـمعنى: نعبد إلَهك وإله آبـائك إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق مسلـمين لعبـادته.

وقـيـل: إنـما قدم ذكر إسماعيـل علـى إسحاق لأن إسماعيـل كان أسنّ من إسحاق. ذكر من قال ذلك:

١٥٩٤ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قَالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وَإِلَهَ آبَـائِكَ إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ وَإِسحَاقَ قال: يقال بدأ بإسماعيـل لأنه أكبر.

وقرأ بعض الـمتقدمين: (وَإِله أبِـيكَ إِبْرَاهِيـمَ) ظنّا منه أن إسماعيـل إذ كان عمّا لـيعقوب، فلا يجوز أن يكون فـيـمن تُرْجم به عن الاَبـاء وداخلاً فـي عدادهم. وذلك من قارئه كذلك قلة علـم منه بـمـجاري كلام العرب. والعرب لا تـمتنع من أن تـجعل الأعمام بـمعنى الاَبـاء، والأخوال بـمعنى الأمهات، فلذلك دخـل إسماعيـل فـيـمن ترجم به عن الاَبـاء. وإبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ترجمة عن الاَبـاء فـي موضع جرّ، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرّون. والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك: وإِلهَ آبَـائِكَ لإجماع القرّاء علـى تصويب ذلك وشذوذ من خالفه من القراء مـمن قرأ خلاف ذلك، ونصب قوله إلها علـى الـحال من قوله إلهك.

﴿ ١٣٣