٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ ... }

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} أن اللّه الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي الأرض ولا فـي السماء، {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} يعنـي بـالكتاب: القرآن. وقد أتـينا علـى البـيان فـيـما مضى عن السبب الذي من أجله سُمّي القرآن كتابـا بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وأما قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ} فإنه يعنـي من الكتاب آيات، يعنـي بـالاَيات آيات القرآنوأما الـمـحكمات: فإنهنّ اللواتـي قد أحكمن بـالبـيان والتفصيـل، وأثبتت حججهن وأدلتهن علـى ما جعلن أدلة علـيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الاَيات الـمـحكمات بأنهنّ هنّ أمّ الكتاب، يعنـي بذلك أنهنّ أصل الكتاب الذي فـيه عماد الدين والفرائض والـحدود، وسائر ما بـالـخـلق إلـيه الـحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض فـي عاجلهم وآجلهم. وإنـما سماهنّ أم الكتاب، لأنهنّ معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الـحاجة إلـيه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الـجامع معظم الشيء أُمّا له، فتسمي راية القوم التـي تـجمعهم فـي العساكر أمهم، والـمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها. وقد بـينا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. ووحد أمّ الكتاب، ولـم يجمع فـ

يقول: هنّ أمهات الكتاب، وقد قال هنّ لأنه أراد جميع الاَيات الـمـحكمات أمّ الكتاب، لا أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب، ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب، لكان لا شكّ قد

قـيـل: هنّ أمهات الكتاب. ونظير قول اللّه عزّ وجلّ: {هُنّ أُمّ الكِتَابِ} علـى التأويـل الذي قلنا فـي توحيد الأم وهي خبر لـ(هُنّ) قوله تعالـى ذكره: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَـمَ وأُمّهُ آيَةً} ولـم يقل آيتـين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية، إذ كان الـمعنى واحدا فـيـما جُعلا فـيه للـخـلق عبرة. ولو كان مراده الـخبر عن كل واحد منهما علـى انفراده، بأنه جعل للـخـلق عبرة، لقـيـل: وجعلنا ابن مريـم وأمه آيتـين¹ لأنه قد كان فـي كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريـم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلـم فـي الـمهد صبـيا، فكان فـي كل واحد منهما للناس آية.

وقد قال بعض نـحويـي البصرة: إنـما

قـيـل: {هُنّ أُمّ الكِتَابِ} ولـم يقل: (هنّ أمهات الكتاب) علـى وجه الـحكاية، كما يقول الرجل: ما لـي أنصار، فتقول: أنا أنصارك، أو ما لـي نظير، فتقول: نـحن نظيرك

قال: وهو شبـيه (دعنـي من تـمرتان)، وأنشد لرجل من فقعس:

تَعَرّضَتْ لِـي بِـمَكانٍ حَلّتَعَرّضَ الـمُهْرَةِ فـي الطّوَلّ

تَعَرّضا لَـمْ تَأْلُ عَنْ قَتْلاً لِـي

حَلّ أي يحلّ به، علـى الـحكاية، لأنه كان منصوبـا قبل ذلك، كما

يقول: نودي: الصلاةَ الصلاةَ، يحكي قول القائل: الصلاةَ الصلاةَ!

وقال: قال بعضهم: إنـما هي أن قتلاً لـي، ولكنه جعله (عن) لأن أن فـي لغته تـجعل موضعها (عن) والنصب علـى الأمر، كأنك قلت: ضربـا لزيد. وهذا قول لا معنى له، لأن كل هذه الشواهد التـي استشهد بها، لا شكّ أنهنّ حكايات حالتهن بـما حكي عن قول غيره وألفـاظه التـي نطق بهنّ، وأن معلوما أن اللّه جل ثناؤه لـم يحك عن أحد قوله: أمّ الكتاب، فـيجوز أن يقال: أخرج ذلك مخرج الـحكاية عمن قال ذلك كذلك.

وأما قوله {وأُخرَ} فإنها جمع أخرى.

ثم اختلف أهل العربـية فـي العلة التـي من أجلها لـم يصرف (أُخر)،

فقال بعضهم: لـم يصرف أُخَر من أجل أنها نعت واحدتها أخرى، كما لـم تصرف جُمع وكُتع، لأنهنّ نعوت.

وقال آخرون: إنـما لـم تصرف الأُخَر لزيادة الـياء التـي فـي واحدتها، وأن جمعها مبنـي علـى واحدها فـي ترك الصرف،

قالوا: وإنـما ترك صرف أخرى، كما ترك صرف حمراء وبـيضاء فـي النكرة والـمعرفة لزيادة الـمدة فـيها والهمزة بـالواو، ثم افترق جمع حمراء وأخرى، فبنى جمع أخرى علـى واحدته، فقـيـل: فُعَل أُخَر، فترك صرفها كما ترك صرف أخرى، وبنى جمع حمراء وبـيضاء علـى خلاف واحدته، فصرف، فقـيـل حُمْر وبِـيض. فلاختلاف حالتـيهما فـي الـجمع اختلف إعرابهما عندهم فـي الصرف، ولاتفـاق حالتـيهما فـي الواحدة اتفقت حالتهما فـيها.

وأما قوله: {مُتَشَابِهَاتٌ} فإن معناه: متشابهات فـي التلاوة، مختلفـات فـي الـمعنى، كما قال جلّ ثناؤه: {وأتُوُا بِهِ مُتَشابِها} يعنـي فـي الـمنظر: مختلفـا فـي الـمطعم، وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بنـي إسرائيـل أنه قال: {إنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا} يعنون بذلك: تشابه علـينا فـي الصفة، وإن اختلفت أنواعه.

فتأويـل الكلام إذا: إن الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي الأرض ولا فـي السماء، هو الذي أنزل علـيك يا مـحمد القرآن، منه آيات مـحكمات بـالبـيان، هنّ أصل الكتاب الذي علـيه عمادك وعماد أمتك فـي الدين، وإلـيه مفزعك ومفزعهم فـيـما افترضت علـيك وعلـيهم من شرائع الإسلام، وآيات أخر هنّ متشابهات فـي التلاوة، مختلفـات فـي الـمعانـي.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُمّ أمّ الكتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} وما الـمـحكم من آي الكتاب، وما الـمتشابه منه؟

فقال بعضهم: الـمـحكمات من آي القرآن: الـمعمول بهنّ، وهن الناسخات، أو الـمثبتات الأحكام¹ والـمتشابهات من آية: الـمتروك العمل بهن، الـمنسوخات. ذكر من قال ذلك:

٥٢٩١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: هي الثلاث الاَيات التـي ههنا: {قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَـيْكُمْ} إلـى ثَلاث آيات، والتـي فـي بنـي إسرائيـل: {وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ} إلـى آخر الاَيات.

٥٢٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} الـمـحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به

قال: {وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} والـمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به.

٥٢٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـىَ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} فـالـمـحكمات التـي هي أم الكتاب: الناسخ الذي يدان به ويعمل به¹ والـمتشابهات: هن الـمنسوخات التـي لا يدان بهن.

٥٢٩٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} إلـى قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} أما الاَيات الـمـحكمات: فهن الناسخات التـي يعمل بهنّ وأما الـمتشابهات: فهنّ الـمنسوخات.

٥٢٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُمّ أُمّ الكِتابِ} والـمـحكمات: الناسخ الذي يعمل به ما أحلّ اللّه فـيه حلاله وحرم فـيه حرامه وأما الـمتشابهات: فـالـمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.

٥٢٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: الـمـحكم: ما يعمل به.

٥٢٩٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أمّ الكتاب وأخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمـحكمات: الناسخ الذي يعمل به، والـمتشابهات: الـمنسوخ الذي لا يعمل به، ويؤمن به.

٥٢٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: الناسخات، {وأُخَرَ مُتَشابِهاتٌ} قال: ما نسخ وترك يتلـى.

حدثنـي ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: الـمـحكم ما لـم ينسخ، وما تشابه منه: ما نسخ.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: الناسخ، {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمنسوخ.

٥٢٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أمّ الكِتابِ وأخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمـحكمات: الذي يعمل به.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يحدث، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} يعنـي: الناسخ الذي يعمل به، {وَأُخَرُ مُتَشابِهات} يعنـي الـمنسوخ، يؤمن به ولا يعمل به.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سلـمة، عن الضحاك : {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: ما لـم ينسخ، {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: ما قد نسخ.

وقال آخرون: الـمـحكمات من آي الكتاب: ما أحكم اللّه فـيه بـيان حلاله وحرامه¹ والـمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضا فـي الـمعانـي وإن اختلفت ألفـاظه. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} ما فـيه من الـحلال والـحرام وما سوى ذلك، فهو متشابه يصدّق بعضه بعضا، وهو مثل قوله: {وَما يَضِلّ بِهِ إلاّ الفـاسِقِـينَ}، ومثل قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّه الرّجْسَ عَلـى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}،، ومثل قوله: {وَالّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد. مثله.

وقال آخرون: الـمـحكمات من آي الكتاب: ما لـم يحتـمل من التأويـل غير وجه واحد¹ والـمتشابه منه: ما احتـمل من التأويـل أوجها. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} فـيهن حجة الربّ، وعصمة العبـاد، ودفع الـخصوم والبـاطل، لـيس لها تصريف ولا تـحريف عما وضعت علـيه. وأُخر متشابهة فـي الصدق، لهنّ تصريف وتـحريف وتأويـل، ابتلـى اللّه فـيهنّ العبـاد كما ابتلاهم فـي الـحلال والـحرام، لا يصرفن إلـى البـاطل ولا يحرّفن عن الـحقّ.

وقال آخرون: معنى الـمـحكم: ما أحكم اللّه فـيه من آي القرآن وقصص الأمـم ورسلهم الذين أرسلوا إلـيهم، ففصله ببـيان ذلك لـمـحمد وأمته. والـمتشابه: هو ما اشتهبت الألفـاظ به من قصصهم عند التكرير فـي السور فقصة بـاتفـاق الألفـاظ واختلاف الـمعانـي، وقصة بـاختلاف الألفـاظ واتفـاق الـمعانـي. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد وقرأ: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيـمٍ خَبِـيرٍ} قال: وذكر حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي أربع وعشرين آية منها، وحديث نوح فـي أربع وعشرين آية منها. ثم قال: {تِلكَ مِنْ أنبـاءِ الغَيْبِ} ثم ذكر: {وَإلـى عاد} فقرأ حتـى بلغ: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ} ثم مضى ثم ذكر صالـحا وإبراهيـم ولوطا وشعيبـا، وفرغ من ذلك. وهذا يقـين، ذلك يقـين أحكمت آياته ثم فصلت

قال: والـمتشابه ذكر موسى فـي أمكنة كثـيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد ومتشابه: {اسْلُكْ فِـيها} {احْمِلْ فِـيها} {اسْلُكْ يَدَكَ} {أدْخِـلْ يَدَكَ} {حَيّةً تَسْعَى} {ثُعْبَـانٌ مُبِـينٌ}

قال: ثم ذكر هودا فـي عشر آيات منها، وصالـحا فـي ثمانـي آيات منها وإبراهيـم فـي ثمانـي آيات أخرى، ولوطا فـي ثمانـي آيات منها، وشعيبـا فـي ثلاث عشرة آية، وموسى فـي أربع آيات، كل هذا يقضي بـين الأنبـياء وبـين قومهم فـي هذه السورة، فـانتهى ذلك إلـى مائة آية من سورة هود، ثم قال: {ذَلِكَ مِنْ أنْبـاءِ القُرَى نَقُصّهُ عَلَـيْكَ مِنْها قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}

وقال فـي الـمتشابه من القرآن: من يرد اللّه به البلاء والضلالة،

يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا؟

وقال آخرون: بل الـمـحكم من آي القرآن: ما عرف العلـماء تأويـله، وفهموا معناه وتفسيره¹ والـمتشابه: ما لـم يكن لأحد إلـى علـمه سبـيـل مـما استأثر اللّه بعلـمه دون خـلقه، وذلك نـحو الـخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريـم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقـيام الساعة، وفناء الدنـيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلـمه أحد. و

قالوا: إنـما سمى اللّه من آي الكتاب الـمتشابه الـحروف الـمقطعة التـي فـي أوائل بعض سور القرآن من نـحو الـم، والـمص، والـمر، والر، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات فـي الألفـاظ، وموافقات حروف حساب الـجمل. وكان قوم من الـيهود علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلـموا نهاية أُكْلِمـحمد وأمته، فأكذب اللّه أحدوثتهم بذلك، وأعلـمهم أن ما ابْتَغَوْا علـمه من ذلك من قبل هذه الـحروف الـمتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلـمه إلا اللّه . وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد اللّه بن رئاب أن هذه الاَية نزلت فـيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره مـمن قال نـحو مقالته فـي تأويـل ذلك فـي تفسير قوله: {الـم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِـيهِ}. وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد اللّه أشبه بتأويـل الاَية، وذلك أن جميع ما أنزل اللّه عز وجل من آي القرآن علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنـما أنزله علـيه بـيانا له ولأمته وهدى للعالـمين، وغير جائز أن يكون فـيه ما لا حاجة بهم إلـيه، ولا أن يكون فـيه ما بهم إلـيه الـحاجة، ثم لا يكون لهم إلـى علـم تأويـله سبـيـل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فـيه لـخـلقه إلـيه الـحاجة، وإن كان فـي بعضه ما بهم عن بعض معانـيه الغنى، وإن اضطرته الـحاجة إلـيه فـي معان كثـيرة، وذلك كقول اللّه عز وجل: {يَوْمَ يَأتِـي بَعْضُ آياتِ رَبّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيـمَانُها لَـمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ فِـي إيـمانِها خَيْرا} فأعلـم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أمته أن تلك الاَية التـي أخبر اللّه جل ثناؤه عبـاده أنها إذا جاءت لـم ينفع نفسا إيـمانها لـم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها. فـالذي كانت بـالعبـاد إلـيه الـحاجة من علـم ذلك هو العلـم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تـحديده بعد بـالسنـين والشهور والأيام، فقد بـين اللّه ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم علـى لسان رسول صلى اللّه عليه وسلم مفسّرا. والذي لا حاجة لهم إلـى علـمه منه هو العلـم بـمقدار الـمدة التـي بـين وقت نزول هذه الاَية ووقت حدوث تلك الاَية، فإن ذلك مـما لا حاجة بهم إلـى علـمه فـي دين ولا دنـيا، وذلك هو العلـم الذي استأثر اللّه جل ثناؤه به دون خـلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو الـمعنى الذي طلبت الـيهود معرفته فـي مدة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته من قبل قوله: الـم، والـمص، والر، والـمر، ونـحو ذلك من الـحروف الـمقطعة الـمتشابهات، التـي أخبر اللّه جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويـل ذلك من قِبَله، وأنه لا يعلـم تأويـله إلا اللّه .

فإذا كان الـمتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمـحكم، لأنه لن يخـلو من أن يكون مـحكما بأنه بـمعنى واحد لا تأويـل له غير تأويـل واحد، وقد استغنـي بسماعه عن بـيان يبـيّنه، أو يكون مـحكما، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف فـي معان كثـيرة، فـالدلالة علـى الـمعنى الـمراد منه إما من بـيان اللّه تعالـى ذكره عنه أو بـيان رسوله صلى اللّه عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علـم ذلك عن علـماء الأمة لـما قد بـينا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُنّ أمّ الكِتابِ}.

قد أتـينا علـى البـيان عن تأويـل ذلك بـالدلالة الشاهدة علـى صحة ما قلنا فـيه، ونـحن ذاكرو اختلاف أهل التأويـل فـيه. وذلك أنهم اختلفوا فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معنى قوله: {هُنّ أُمّ الكِتابِ} هنّ اللائي فـيهنّ الفرائض والـحدود والأحكام، نـحو قـيـلنا الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٣ـ حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيـى بن يعمر أنه قال فـي هذه الاَية: {مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال يحيـى: هنّ اللاتـي فـيهنّ الفرائض والـحدود وعماد الدين، وضرب لذلك مثلاً فقال: أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأمّ الـمسافرين الذين يجعلون إلـيه أمرهم، ويُعْنَى بهم فـي سفرهم، قال: فذاك أمهم.

٥٣٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: هنّ جماع الكتاب.

وقال آخرون: بل معنـيّ بذلك فواتـح السور التـي منها يستـخرج القرآن. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٥ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبـي فـاختة أنه قال فـي هذه الاَية: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: أم الكتاب: فواتـح السور، منها يستـخرج القرآن¹ {الـم ذَلِكَ الكِتابُ} منها استـخرجت البقرة، و {الـم اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ} منها استـخرجت آل عمران.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: فأما الذين فـي قلوبهم ميـل عن الـحقّ، وانـحراف عنه. يقال منه: زاغ فلان عن الـحقّ، فهو يزيغ عنه زَيْغا وَزَيَغانا وزَيْغُوغة وزُيُوغا، وأزاغه اللّه : إذا أماله، فهو يُزيغه، ومنه قوله جلّ ثناؤه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تـملها عن الـحقّ {بعدَ إذْ هَدَيْتَنا}.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميـل عن الهدى.

٥٣٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٣٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـي بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس : {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: من أهل الشك.

٥٣٠٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أما الزيغ: فـالشك.

٥٣١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: {زَيْغٌ}: شكّ. قال ابن جريج {الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الـمنافقون.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} ما تشابهت ألفـاظه وتصرفت معانـيه بوجوه التأويلات، لـيحققوا بـادعائهم الأبـاطيـل من التأويلات فـي ذلك ما هم علـيه من الضلالة والزيغ عن مـحجة الـحق تلبـيسا منهم بذلك علـى من ضعفت معرفته بوجوه تأويـل ذلك وتصاريف معانـيه. كما:

٥٣١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس : {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} فـيحملون الـمـحكم علـى الـمتشابه، والـمتشابه علـى الـمـحكم، ويـلبّسون، فلبّس اللّه علـيهم.

٥٣١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي ما تـحرف منه وتصرف، لـيصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، لـيكون لهم حجة علـى ما قالوا وشبهة.

٥٣١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فـي قوله: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} قال: البـاب الذي ضلوا منه وهلكوا فـيه ابتغاء تأويـله.

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

٥٣١٤ـ حدثنـي حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي قوله: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} يتبعون الـمنسوخ والناسخ، فـيقولون: ما بـال هذه الاَية عمل بها كذا وكذا مـجاز هذه الاَية، فتركت الأولـى وعمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الاَية قبل أن تـجيء الأولـى التـي نسخت. وما بـاله يعد العذاب من عمل عملاً يعدّ به النار وفـي مكان آخر من عمله فإنه لـم يوجب النار.

واختلف أهل التأويـل فـيـمن عنـي بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عنـي به الوفدُ من نصارى نـجران الذين قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحاجوه بـما حاجوه به، وخاصموه بأن

قالوا: ألست تزعم أن عيسى روح اللّه وكلـمته؟ وتأوّلوا فـي ذلك ما يقولون فـيه من الكفر. ذكر من قال ذلك:

٥٣١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: عمدوا ـ يعنـي الوفد الذين قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نصارى نـجران ـ فخاصموا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم،

قالوا: ألست تزعم أنه كلـمة اللّه وروح منه؟ قال: (بلـى)،

قالوا: فحسبنا! فأنزل اللّه عز وجل: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ}. ثم إن اللّه جل ثناؤه أنزل: {إنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ}.. الاَية.

وقال آخرون: بل أنزلت هذه الاَية فـي أبـي ياسر بن أخطب، وأخيه حيـي بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي قدر مدة أُكْله وأُكل أمته، وأرادوا علـم ذلك من قبل قوله: الـم، والـمص، والـمر، والر فقال اللّه جل ثناؤه فـيهم: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعنـي هؤلاء الـيهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والـحقّ، {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ} يعنـي معانـي هذه الـحروف الـمقطعة الـمـحتـملة التصريف فـي الوجوه الـمختلفة التأويلات ابتغاء الفتنة. وقد ذكرنا الرواية بذلك فـيـما مضى قبل فـي أول السورة التـي تذكر فـيها البقرة.

وقال آخرون: بل عنى اللّه عزّ وجلّ بذلك كل مبتدع فـي دينه بدعة مخالفة لـما ابتعث به رسوله مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بتأويـل يتأوّله من بعض آي القرآن الـمـحتـملة التأويلات، وإن كان اللّه قد أحكم بـيان ذلك، إما فـي كتابه وإما علـى لسان رسوله. ذكر من قال ذلك:

 

٥٣١٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {فأمّا الّذِين فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاء الفِتْنَةِ}. وكان قتادة إذا قرأ هذه الاَية: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لـم يكونوا الـحرورية والسبئية فلا أدري من هم. ولعمري لقد كان فـي أهل بدر والـحديبـية الذين شهدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـيعة الرضوان من الـمهاجرين والأنصار، خبر لـمن استـخبر، وعبرة لـمن استعبر، لـمن كان يعقل أو يبصر. إن الـخوارج خرجوا وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ كثـير بـالـمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذ أحياء، واللّه إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط، ولا رضوا الذي هم علـيه ولا مالئوهم فـيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياه ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ويعادونهم بألسنتهم وتشتدّ واللّه علـيهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الـخوارج هدى لاجتـمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرّق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير اللّه وجدت فـيه اختلافـا كثـيرا، فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويـل، فهل أفلـحوا فـيه يوما أو أنـجحوا؟ يا سبحان اللّه كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا علـى هدى قد أظهره اللّه وأفلـحه ونصره، ولكنهم كانوا علـى بـاطل أكذبه اللّه وأدحضه، فهم كما رأيتهم كلـما خرج لهم قرن أدحض اللّه حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرق دماءهم¹ وإن كتـموا كان قرحا فـي قلوبهم وغما علـيهم، وإن أظهروه أهراق اللّه دماءهم، ذاكم واللّه دين سوء فـاجتنبوه. واللّه إن الـيهود لبدعة، وإن النصرانـية لبدعة، وإن الـحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة، ما نزل بهنّ كتاب ولا سنهنّ نبـيّ.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فَـيَتّبِعُون ما تَشابَه مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاء تأوِيـلِهِ} طلب القوم التأويـل فأخطأوا التأويـل، وأصابوا الفتنة، فـاتبعوا ما تشابه منه فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان فـي أصحاب بدر والـحديبـية الذين شهدوا بـيعة الرضوان. وذكر نـحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.

٥٣١٧ـ حدثنـي مـحمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا إسماعيـل بن علـية، عن أيوب، عن عبد اللّه بن أبـي ملـيكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـى قوله: {وَما يَذّكَرُ إلاّ أُولُوا الألْبـابِ} فقال: (فإذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فـاحْذَرُوهُمْ).

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أيوب، عن عبد اللّه بن أبـي ملـيكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـى: {وَما يَذّكَرُ إلاّ أولُوا الألْبـابِ}. قالت: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فإذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ) أو قال: {يَتَـجَادَلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فـاحْذَرُوهُمْ} قال مطر، عن أيوب أنه قال: (فلا تـجالسوهم، فهم الذين عنى اللّه فـاحذروهم).

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، بنـحو معناه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، نـحوه.

٥٣١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا الـحارث، عن أيوب، عن ابن أبـي ملـيكة عن عائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قالت: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}.. الاَية كلها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ وَالّذِينَ يُجَادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه ، أُولَئِكَ الّذِينَ قال اللّه : فَلا تُـجالسُوهُمْ) .

٥٣١٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيـم، عن ابن أبـي ملـيكة، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يحدّث عن عائشة، قالت: تلا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} ثم قرأ إلـى آخر الاَيات،

فقال: (إذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَـأُولَئِكَ الّذِينَ سَمّى اللّه فَـاحْذَرُوهُمْ).

٥٣٢٠ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، عن حماد بن سلـمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: نزع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {يَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قَدْ حَذّرَكُمُ اللّه ، فإذَا رأيْتُـمُوهُمْ فـاعْرِفُوهُمْ).

٥٣٢١ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا الولـيد، عن نافع، عن عمر، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا رأيْتُـمُوهُمْ فـاحْذَرُوهُمْ!)، ثم نزع: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} (وَلا يَعْمَلُونَ بِـمُـحْكَمِهِ).

حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنـي شبـيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن هذه الاَية: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ وَما يَعْلَـمُ تَأوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي الْعِلْـمِ} فقال: (فإذَا رَأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فَـاحْذَرُوهُمْ).

حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة فـي هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَل عَلَـيْكَ الكِتابَ}.. الاَية. يتبعها: يتلوها، ثم

يقول: (فإذا رَأَيْتُـمُ الّذِنَ يُجَادِلُونَ فِـيهِ فَـاحْذَرُوهُمْ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلـمة، عن ابن أبـي ملـيكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم فـي هذه الاَية: {هُو الّذِي أنْزل عَلَـيْك الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} إلـى آخر الاَية، قال: (هُمُ الّذِينَ سَمّاهُمُ اللّه ، فإذَا رَأيْتُـمُوهُمْ فـاحْذَرُوهُمْ).

قال أبو جعفر: والذي يدلّ علـيه ظاهر هذه الاَية أنها نزلت فـي الذين جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـمتشابه ما أنزل إلـيه من كتاب اللّه إما فـي أمر عيسى، وإما فـي مدة أُكُله وأُكْل أمته، وهو بأن تكون فـي الذين جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـمتشابهه فـي مدته ومدة أمته أشبه، لأن قوله: {وما يَعْلَـمُ تأوِيـلَهُ إلاّ اللّه } دالّ علـى أن ذلك إخبـار عن الـمدة التـي أرادوا علـمها من قبل الـمتشابه الذي لا يعلـمه إلا اللّه . فأما أمر عيسى وأسبـابه، فقد أعلـم اللّه ذلك نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وأمته وبـينه لهم، فمعلوم أنه لـم يعن إلا ما كان خفـيا عن الاَحاد.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ}.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} قال: إرادة الشرك.

٥٣٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {ابْتِغاء الفِتْنَةِ} يعنـي الشرك.

وقال آخرون: معنى ذلك ابتغاء الشبهات. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} قال: الشبهات بها أهلكوا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} الشبهات، قال: هلكوا به.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} قال: الشبهات، قال: والشبهات ما أهلكوا به.

٥٣٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} أي اللبس.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: إرادة الشبهات واللبس. فمعنى الكلام إذا: فأما الذين فـي قلوبهم ميـل عن الـحقّ وَحَيْفٌ عنه، فـيتعبون من آي الكتاب ما تشابهت ألفـاظه، واحتـمل صرفه فـي وجوه التأويلات، بـاحتـماله الـمعانـي الـمختلفة إرادة اللبس علـى نفسه وعلـى غيره، احتـجاجا به علـى بـاطله الذي مال إلـيه قلبه دون الـحقّ الذي أبـانه اللّه فأوضحه بـالـمـحكمات من آي كتابه.

وهذه الاَية وإن كانت نزلت فـيـمن ذكرنا أنها نزلت فـيه من أهل الشرك، فإنه معنـيّ بها كل مبتدع فـي دين اللّه بدعة، فمال قلبه إلـيها، تأويلاً منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الـحقّ، وعدل عن الواضح من أدلة آيه الـمـحكمات إرادة منه بذلك اللبس علـى أهل الـحقّ من الـمؤمنـين، وطلبـا لعلـم تأويـل ما تشابه علـيه من ذلك كائنا من كان، وأيّ أصناف البدعة كان من أهل النصرانـية كان أو الـيهودية أو الـمـجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا، كالذي قال صلى اللّه عليه وسلم: (فإذَا رَأيْتُـمُ الّذِينَ يُجَادِلُونَ بِهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فَـاحْذَرُوهُمْ). وكما:

٥٣٢٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا سفـيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وذكر عنده الـخوارج، وما يـلقون عند الفرار،

فقال: يؤمنون بـمـحكمه، ويهلكون عند متشابهه. وقرأ ابن عبـاس : {وما يَعْلَـمُ تأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه }.. الاَية.

وإنـما قلنا: القول الذي ذكرنا أنه أولـى التأويـلـين بقوله: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} لأن الذين نزلت فـيهم هذه الاَية كانوا أهل شرك، وإنـما أرادوا بطلب تأويـل ما طلبوا تأويـله اللبس علـى الـمسلـمين والاحتـجاج به علـيهم لـيصدّوهم عما هم علـيه من الـحقّ، فلا معنى لأن يقال: فعلوا ذلك إرادة الشرك، وهم قد كانوا مشركين.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وابْتِغاءَ تأوِيـلِهِ}.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى التأويـل الذي عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: {وابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} فقال بعضهم معنى ذلك: الأجل الذي أرادت الـيهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمر أمته من قِبَل الـحروف الـمقطعة من حساب الـجمل كـ(الـم)، و(الـمص)، و(الر)، و(الـمر) وما أشبه ذلك من الاَجال. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : أما قوله: {وما يَعْلَـمُ تأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه } يعنـي تأويـله يوم القـيامة إلا اللّه .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: عواقب القرآن. و

قالوا: إنـما أرادوا أن يعلـموا متـى يجيء ناسخ الأحكام التـي كان اللّه جل ثناؤه شرعها لأهل الإسلام قبل مـجيئه، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيـلِهِ} أرادوا أن يعلـموا تأويـل القرآن، وهو عواقبه، قال اللّه : {وَمَا يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه }، وتأويـله: عواقبه، متـى يأتـي الناسخ منه فـينسخ الـمنسوخ.

وقال آخرون: معنى ذلك: وابتغاء تأويـل ما تشابه من آي القرآن يتأوّلونه ـ إذ كان ذا وجوه وتصاريف فـي التأويلات ـ علـى ما فـي قلوبهم من الزيغ، وما ركبوه من الضلالة. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} وذلك علـى ما ركبوا من الضلالة فـي قولهم، خـلقنا وقضينا.

والقول الذي قاله ابن عبـاس من أن ابتغاء التأويـل الذي طلبه القوم من الـمتشابه هو معرفة انقضاء الـمدة، ووقت قـيام الساعة، والذي ذكرنا عن السدي من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هُو جاءٍ قبل مـجيئه أولـى بـالصواب، وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلـى حصره علـى أن معناه: إن القوم طلبوا معرفة وقت مـجيء الناسخ لـما قد أحكم قبل ذلك.

وإنـما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مـجيئه الـمـحجوب علـمه عنهم وعن غيرهم بـمتشابه آي القرآن، أولـى بتأويـل قوله: {وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} لـما قد دللنا علـيه قبل من إخبـار اللّه جل ثناؤه أن ذلك التأويـل لا يعلـمه إلا اللّه ، ولا شك أن معنى قوله: (قضينا) و(فعلنا)، قد علـم تأويـله كثـير من جهلة أهل الشرك، فضلاً عن أهل الإيـمان وأهل الرسوخ فـي العلـم منهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: وما يعلـم وقت قـيام الساعة وانقضاء مدة أُكل مـحمد وأمته وما هو كائن، إلا اللّه ، دون من سواه من البشر الذين أمّلوا إدراك علـم ذلك من قبل الـحساب والتنـجيـم والكهانة.

وأما الراسخون فـي العلـم، فـيقولون: آمنا به كل من عند ربنا، لا يعلـمون ذلك، ولكن فضل علـمهم فـي ذلك علـى غيرهم العلـم بأن اللّه هو العالـم بذلك دون من سواه من خـلقه.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، وهل الراسخون معطوف علـى اسم اللّه ، بـمعنى إيجاب العلـم لهم بتأويـل الـمتشابه، أو هم مستأنف ذكرهم بـمعنى الـخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بـالـمتشابه، وصدّقنا أن علـم ذلك لا يعلـمه إلا اللّه ؟

فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلـم تأويـل ذلك إلا اللّه وحده منفردا بعلـمهوأما الراسخون فـي العلـم فإنهم ابتدىء الـخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بـالـمتشابه والـمـحكم، وأن جميع ذلك من عند اللّه .) ذكر من قال ذلك:

٥٣٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، قوله: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قالت: كان من رسوخهم فـي العلـم أن آمنوا بـمـحكمه ومتشابهه، ولـم يعلـموا تأويـله.

٥٣٣١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، قال: كان ابن عبـاس

يقول: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه } يقول الراسخون: آمنا به.

٥٣٣٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن أبـي الزناد، قال: قال هشام بن عروة: كان أبـي يقول فـي هذه الاَية: {وَمَا يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} أن الراسخين فـي العلـم لا يعلـمون تأويـله، ولكنهم يقولون: {آمنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}.

٥٣٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن أبـي نهيك الأسدي قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} فـ

يقول: إنكم تصلون هذه الاَية وإنها مقطوعة {وَما يَعْلَـمُ تَأْويـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا} فـانتهى علـمهم إلـى قولهم الذي قالوا.

٥٣٣٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا ابن دكين، قال: حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد اللّه بن موهب، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز

يقول: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} انتهى علـم الراسخين فـي العلـم بتأويـل القرآن إلـى أن

قالوا: {آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}.

٥٣٣٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا أشهب، عن مالك فـي قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه } قال: ثم ابتدأ فقال: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} ولـيس يعلـمون تأويـله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلـم تأويـله إلا اللّه والراسخون فـي العلـم، وهم مع علـمهم بذلك ورسوخهم فـي العلـم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}. ذكر من قال ذلك:

٥٣٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس أنه قال: أنا من يعلـم تأويـله.

٥٣٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.

٥٣٣٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.

٥٣٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ} الذي أراد ما أراد إلا اللّه والراسخون فـي العلـم يقولون آمنا به. فكيف يختلف وهو قولٌ واحدٌ من رب واحد؟ ثم ردوا تأويـل الـمتشابهة علـى ما عرفوا من تأويـل الـمـحكمة التـي لا تأويـل لأحد فـيها إلا تأويـل واحد، فـاتسق بقولهم الكتاب، وصدّق بعضه بعضا، فنفذت به الـحجة، وظهر به العذر، وزاح به البـاطل، ودمغ به الكفر.

فمن قال القول الأول فـي ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلـمون تأويـل ذلك، وإنـما أخبر اللّه عنهم بإيـمانهم وتصديقهم بأنه من عند اللّه ، فإنه يرفع (الراسخين فـي العلـم) بـالابتداء فـي قول البصريـين، ويجعل خبره (يقولون آمنا به)وأما فـي قول بعض الكوفـيـين فبـالعائد من ذكرهم فـي (يقولون)، وفـي قول بعضهم بجملة الـخبر عنهم، وهي (يقولون). ومن قال القول الثانـي، وزعم أن الراسخين يعلـمون تأويـله عطف بـالراسخين علـى اسم اللّه فرفعهم بـالعطف علـيه.

والصواب عندنا فـي ذلك، أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو (يقولون)، لـما قد بـينا قبل من أنهم لا يعلـمون تأويـل الـمتشابه الذي ذكره اللّه عز وجل فـي هذه الاَية، وهو فـيـما بلغنـي مع ذلك فـي قراءة أبـيّ: (ويقول الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ) كما ذكرناه عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤه¹ وفـي قراءة عبد اللّه : (إن تأويـله إلا عند اللّه والراسخون فـي العلـم يقولون).

وأما معنى التأويـل فـي كلام العرب: فإنه التفسير والـمرجع والـمصير، وقد أنشد بعض الرواة بـيت الأعشى:

علـى أنّها كانَتْ تَأَوّلُ حُبّها

تَأَوّلَ رِبْعيّ السّقابِ فأصْحَبـا

وأصله من آل الشيء إلـى كذا، إذا صار إلـيه ورجع يَؤُولُ أَوْلاً وأوّلته أنا: صيرته إلـيه. وقد

قـيـل: إن قوله: {وأحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي جزاء، وذلك أن الـجزاء هو الذي آل إلـيه أمر القوم وصار إلـيه. ويعنـي بقوله: (تأول حبها): تفسير حبها ومرجعه، وإنـما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا فـي قلبه، فآل من الصغر إلـى العظم، فلـم يزل ينبت حتـى أصحب فصار قديـما كالسقب الصغير الذي لـم يزل يشبّ حتـى أصحب فصار كبـيرا مثل أمه. وقد ينشد هذا البـيت:

علـى أنّها كانَتْ تَوَابِعُ حُبّها

تَوَالَـى رِبْعِيّ السّقابِ فأصْحَبـا

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}.

يعنـي بـالراسخين فـي العلـم: العلـماء الذين قد أتقنوا علـمهم ووعوه فحفظوه حفظا لا يدخـلهم فـي معرفتهم وعلـمهم بـما علـموه شك ولا لبس، وأصل ذلك من رسوخ الشيء فـي الشيء، وهو ثبوته وولوجه فـيه، يقال منه: رسخ الإيـمان فـي قلب فلان فهو يَرْسَخ رَسْخا وَرُسُوخا.

وقد روي فـي نعتهم خبر عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، وهو ما:

٥٣٤٠ـ حدثنا موسى بن سهل الرملـي، قال: حدثنا مـحمد بن عبد اللّه ، قال: حدثنا فـياض بن مـحمد الرقـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن يزيد بن آدم، عن أبـي الدرداء وأبـي أمامة، قالا: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الراسخ فـي العلـم؟ قال: (مَنْ بَرّتْ يَـمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ بِهِ قَلْبُهُ، وَعَفّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرّاسِخُ فِـي العِلْـمِ).

٥٣٤١ـ حدثنـي الـمثنى وأحمد بن الـحسن الترمذي، قالا: حدثنا نعيـم بن حماد، قال: حدثنا فـياض الرقـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن يزيد الأودي ـ قال: وكان أدرك أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ قال: حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الراسخين فـي العلـم،

فقال: (مَنْ بَرّتْ يَـمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسانُهُ، وَاسْتَقامَ بِهِ قَلْبُهُ، وَعَفّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ¹ فَذَلِكَ الرّاسِخُ فِـي العِلْـمِ).

وقد قال جماعة من أهل التأويـل: إنـما سمى اللّه عزّ وجلّ هؤلاء القوم الراسخين فـي العلـم بقولهم: {آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}. ذكر من قال ذلك:

٥٣٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قال: الراسخون الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا.

٥٣٤٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} هم الـمؤمنون، فإنهم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} بناسخه ومنسوخه {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}.

٥٣٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج:

قال ابن عبـاس : قال عبد اللّه بن سلام: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} وعلـمهم قولهم. قال ابن جريج: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلـم يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} وهم الذين يقولون: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} ويقولون: {رَبّنَا إنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِـيَوْمٍ لا رَيْبَ فِـيهِ}.. الاَية.

وأما تأويـل قوله: {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} فإنه يعنـي: أن الراسخين فـي العلـم يقولون صدقنا بـما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ، وإن لـم نعلـم تأويـله. وقد:

٥٣٤٥ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك : {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قال: الـمـحكم والـمتشابه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} كل الـمـحكم من الكتاب والـمتشابه منه من عند ربنا، وهو تنزيـله ووحيه إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. كما:

٥٣٤٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} قال: يعنـي ما نسخ منه، وما لـم ينسخ.

٥٣٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ}

قالوا: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} آمنوا بـمتشابهه، وعملوا بـمـحكمه.

٥٣٤٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} يقولون: الـمـحكم والـمتشابه من عند ربنا.

٥٣٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا} يؤمن بـالـمـحكم ويدين به، ويؤمن بـالـمتشابه ولا يدين به، وهو من عند اللّه كله.

٥٣٥٠ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعملون به، يقولون: نعمل بـالـمـحكم ونؤمن به، ونؤمن بـالـمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا.

واختلف أهل العربـية فـي حكم (كل) إذا أضمر فـيها. فقال بعض نـحويـي البصريـين: إذا جاز حذف الـمراد الذي كان معها الذي (الكلّ) إلـيه مضاف فـي هذا الـموضع لأنها اسم، كما قال: {إنّا كُلّ فِـيهَا} بـمعنى: إنا كلنا فـيها، قال: ولا يكون (كلّ) مضمرا فـيها وهي صفة، لا يقال: مررت بـالقوم كل، وإنـما يكون فـيها مضمر إذا جعلتها اسما لو كان إنا كلا فـيها علـى الصفة، لـم يجز، لأن الإضمار فـيها ضعيف لا يتـمكن فـي كل مكان. وكان بعض نـحويـي الكوفـيـين يرى الإضمار فـيها وهي صفة أو اسم سواء، لأنه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافـية بنفسها عما كانت تضاف إلـيه من الـمضمر، وغير جائز أن تكون كافـية منه فـي حال، ولا تكون كافـية فـي أخرى، وقال: سبـيـل الكل والبعض فـي الدلالة علـى ما بعدهما بأنفسهما وكفـايتهما منه، بـمعنى واحد فـي كل حال، صفة كانت أو اسما، وهذا القول الثانـي أولـى بـالقـياس، لأنها إذا كانت كافـية بنفسها مـما حذف منها فـي حال لدلالتها علـيه، فـالـحكم فـيها أنها كلـما وجدت دالة علـى ما بعدها، فهي كافـية منه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما يَذّكّرُ إلاّ أُولُوا الألْبـابِ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول فـي متشابه آي كتاب اللّه ما لا علـم له به إلا أولو العقول والنّهَى. وقد:

٥٣٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما يَذّكّرُ إلاّ أولُوا الألْبـابِ}

يقول: وما يذكر فـي مثل هذا، يعنـي فـي ردّ تأويـل الـمتشابه إلـى ما قد عرف من تأويـل الـمـحكم حتـى يتسقا علـى معنى واحد، إلا أولو الألبـاب.

﴿ ٧