٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ ... }

وهذا نهي من اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يتـخذوا الكفـار أعوانا وأنصارا وظهورا، ولذلك كسر (يتـخذ) لأنه فـي موضع جزم بـالنهي، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقـيه وهي ساكنة. ومعنى ذلك: لا تتـخذوا أيها الـمؤمنون الكفـار ظهرا وأنصارا، توالونهم علـى دينهم، وتظاهرونهم علـى الـمسلـمين من دون الـمؤمنـين، وتدلونهم علـى عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فلـيس من اللّه فـي شيء يعنـي بذلك، فقد برىء من اللّه ، وبرىء اللّه منه بـارتداده عن دينه، ودخوله فـي الكفر، إلا أن تتقوا منهم تقاة، إلا أن تكونوا فـي سلطانهم، فتـخافوهم علـى أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم علـى ما هم علـيه من الكفر، ولا تعينوهم علـى مسلـم بفعل. كما:

٥٤٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {لا يَتّـخَذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ} قال: نهى اللّه سبحانه الـمؤمنـين أن يلاطفوا الكفـار، أو يتـخذوهم ولـيجة من دون الـمؤمنـين، إلا أن يكون الكفـار علـيهم ظاهرين، فـيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم فـي الدين. وذلك قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}.

٥٤٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: كان الـحجاج بن عمرو حلـيف كعب بن الأشرف وابن أبـي الـحقـيق، وقـيس بن زيد، قد بطنوا بنفر من الأنصار لـيفتنوهم عن دينهم. فقال رفـاعة بن الـمنذر بن زبـير وعبد اللّه بن جبـير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء الـيهود، واحذروا لزومهم ومبـاطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مبـاطنتهم ولزومهم، فأنزل اللّه عزّ وجل: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ}.. إلـى قوله: {وَاللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

٥٤٩٦ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ}

يقول: لا يتـخذ الـمؤمن كافرا ولـيا من دون الـمؤمنـين.

٥٤٩٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ} إلـى: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} أما أولـياء: فـيوالـيهم فـي دينهم، ويظهرهم علـى عورة الـمؤمنـين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برىء اللّه منه، إلا أن يتقـي منهم تقاة، فهو يظهر الولاية لهم فـي دينهم والبراءة من الـمؤمنـين.

٥٤٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عبـاس : {إلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: التقاة: التكلـم بـاللسان، وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان.

٥٤٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الـحكم بن أبـان، عن عكرمة فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: ما لـم يهرق دم مسلـم، وما لـم يستـحل ماله.

٥٥٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ} إلا مصانعة فـي الدنـيا ومخالقة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٥٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ} إلـى: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: قال أبو العالـية: التقـية بـاللسان ولـيس بـالعمل.

٥٥٠٢ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: التقـية بـاللسان مَنْ حُمِلَ علـى أمر يتكلـم به وهو لله معصية، فتكلـم مخافة علـى نفسه، وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان، فلا إثم علـيه، إنـما التقـية بـاللسان.

٥٥٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} فـالتقـية بـاللسان: من حمل علـى أمر يتكلـم به وهو معصية لله فـيتكلـم به مخافة الناس وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان، فإن ذلك لا يضرّه، إنـما التقـية بـاللسان.

وقال آخرون: معنى: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} إلا أن يكون بـينك وبـينه قرابة. ذكر من قال ذلك:

٥٥٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {لا يَتّـخَذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} نهى اللّه الـمؤمنـين أن يوادّوا الكفـار أو يتولوهم دون الـمؤمنـين، وقال اللّه : {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} الرحم من الـمشركين من غير أن يتولوهم فـي دينهم، إلا أن يصل رحما له فـي الـمشركين.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياء} قال: لا يحلّ لـمؤمن أن يتـخذ كافرا ولـيا فـي دينه،

وقوله: {إِلاّ أن تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: أن يكون بـينك وبـينه قرابة، فتصله لذلك.

٥٥٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: صاحبهم فـي الدنـيا معروفـا الرحم وغيره، فأما فـي الدين فلا.

وهذا الذي قاله قتادة تأويـل له وجه، ولـيس بـالوجه الذي يدلّ علـيه ظاهر الاَية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة.

فـالأغلب من معانـي هذا الكلام: إلا أن تـخافوا منهم مخافة. فـالتقـية التـي ذكرها اللّه فـي هذه الاَية إنـما هي تقـية من الكفـار، لا من غيرهم، ووجهه قتادة إلـى أن تأويـله: إلا أن تتقوا اللّه من أجل القرابة التـي بـينكم وبـينهم تقاة، فتصلون رحمها. ولـيس ذلك الغالب علـى معنى الكلام والتأويـل فـي القرآن علـى الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب الـمستعمل فـيهم.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} علـى تقدير فعلة مثل تـخمة وتؤدة وتكأة من اتقـيت، وقرأ ذلك آخرون: (إلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تَقِـيّةً) علـى مثال فعيـلة.

والقراءة التـي هي القراءة عندنا، قراءة من قرأها: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} لثبوت حجة ذلك بأنه القراءة الصحيحة، بـالنقل الـمستفـيض الذي يـمتنع منه الـخطأ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ويُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وإلـى اللّه الـمَصِيرُ}.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ويخوّفكم اللّه من نفسه أن تركبوا معاصيه أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم ومصيركم بعد مـماتكم، ويوم حشركم لـموقـف الـحساب، يعنـي بذلك: متـى صرتـم إلـيه، وقد خالفتـم ما أمركم به، وأتـيتـم ما نهاكم عنه من اتـخاذ الكافرين أولـياء من دون الـمؤمنـين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قبل لكم به،

يقول: فـاتقوه واحذوره أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العذاب.

﴿ ٢٨