٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

يعنـي جل ثناؤه: إن شبه عيسى فـي خـلقـي إياه من غير فحل ـ فأخبرْ به يا مـحمد الوفد من نصارى نـجران ـ عندي كشبه آدم الذي خـلقته من تراب، ثم قلت له كن فكان، من غير فحل، ولا ذكر، ولا أنثى.

يقول: فلـيس خـلقـي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خـلقـي آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكان لـحما،

يقول: وأمري إذ أمرته أن يكون فكان، فكذلك خـلقـي عيسى أمرته أن يكون فكان.

وذكر أهل التأويـل أن اللّه عزّ وجلّ أنزل هذه الاَية احتـجاجا لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى الوفد من نصارى نـجران الذين حاجوه فـي عيسى. ذكر من قال ذلك:

٥٧٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر، قال: كان أهل نـجران أعظم قوم من النصارى فـي عيسى قولاً، فكانوا يجادلون النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الاَية فـي سورة آل عمران: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} إلـى قوله: {فَنَـجْعَلْ لَعْنَةَ اللّه علـى الكاذِبِـينَ}.

٥٧٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}، وذلك أن رهطا من أهل نـجران قدموا علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وكان فـيهم السيد والعاقب، فقالوا لـمـحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: (مَنْ هُوَ؟)

قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد اللّه ، فقال مـحمد: (أجَلْ إِنّهُ عَبْدُ اللّه ). قالوا له: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريـل صلى اللّه عليه وسلم بأمر ربنا السميع العلـيـم،

فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ}.. إلـى آخر الاَية.

٥٧٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}: ذكر لنا أن سيدي أهل نـجران وأسقـفـيهم، السيد والعاقب، لقـيا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسألاه عن عيسى؟ فقالا: كل آدميّ له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيه هذه الاَية: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}.

٥٧٧٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَاب} لـما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وسمع به أهل نـجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم، منهم: العاقب، والسيد، وماسرجس، وماريحز، فسألوه ما يقول فـي عيسى؟ فقال: هو عبد اللّه وروحه وكلـمته، قالوا هم: لا، ولكنه هو اللّه ، نزل من ملكه، فدخـل فـي جوف مريـم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خـلق من غير أب؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}.

٥٧٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريح، عن عكرمة، قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}

قال: نزلت فـي العاقب والسيد من أهل نـجران، وهما نصرانـيان. قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نـجران قدم وفدهم علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فـيهم السيد والعاقب، وهما يومئذٍ سيدا أهل نـجران،

فقالوا: يا مـحمد فـيـم تشتـم صاحبنا؟ قال: (مَنْ صَاحِبُكُما؟) قالا: عيسى ابن مريـم، تزعم أنه عبد. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أجَلْ إِنّهُ عَبْدُ اللّه وَكَلِـمَتُهُ ألْقاهَا إِلـى مَرْيَـمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، فغضبوا و

قالوا: إن كنت صادقا، فأرنا عبدا يحيـي الـموتـى، ويبرىء الأكمه، ويخـلق من الطين كهيئة الطير، فـينفخ فـيه، الاَية... لكنه اللّه ! فسكت حتـى أتاه جبريـل،

فقال: يا مـحمد {لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّه هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَـمَ}.. الاَية، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا جِبْرِيـلُ إِنّهُمْ سألُونِـي أنْ أُخْبِرَهُمْ بِـمَثَلِ عِيسَى). قال جبريـل: مثل عيسى كمثل آدم خـلقه من تراب ثم قال له كن فـيكون. فلـما أصبحوا عادوا، فقرأ علـيهم الاَيات.

٥٧٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه } فـاسمع! {كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِين}. فإن

قالوا: خـلق عيسى من غير ذكر، فقد خـلقت آدم من تراب بتلك القدرة، من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لـحما ودما وشعرا وبشرا، فلـيس خـلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.

٥٧٧٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول اللّه عزّ وجلّ {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} قال: أتـى نـجرانـيان إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا له: هل علـمت أن أحدا ولد من غير ذكر فـيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} أكان لاَدم أب أو أم، كما خـلقت هذا فـي بطن هذه؟

فإن قال قائل: فكيف قال: (كمثل آدم خـلقه)، وآدم معرفة، والـمعارف لا توصل؟

قـيـل: إن قوله: {خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} غير صلة لاَدم، وإنـما هو بـيان عن أمره علـى وجه التفسير عن الـمثل الذي ضربه وكيف كان.

وأما قوله: {ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} فإنـما قال: (فـيكون)، وقد ابتدأ الـخبر عن خـلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضى، وقد أخرج الـخبر عنه مخرج الـخبر عما قد مضى، فقال جل ثناؤه: {خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ}، لأنه بـمعنى الإعلام من اللّه نبـيه أن تكوينه الأشياء بقوله: {كُنْ}، ثم قال: (فـيكون) خبرا مبتدأ، وقد تناهى الـخبر عن أمر آدم عند قوله: (كن).

فتأويـل الكلام إذا: إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم، خـلقه من تراب، ثم قال له كن¹ واعلـم يا مـحمد أن ما قال له ربك: كن، فهو كائن. فلـما كان فـي قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ} دلالة علـى أن الكلام يراد به إعلام نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسائر خـلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداء من غير أصل ولا أول ولا عنصر، استغنى بدلالة الكلام علـى الـمعنى،

وقـيـل: فـيكون، فعطف بـالـمستقبل علـى الـماضي علـى ذلك الـمعنى. وقد قال بعض أهل العربـية: فـيكون رفع علـى الابتداء ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.

﴿ ٥٩