١١٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَآأَنْتُمْ أُوْلآءِ تُحِبّونَهُمْ وَلاَ يُحِبّونَكُمْ ... } يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ها أنتـم أيها الـمؤمنون الذين تـحبونهم، يقول: تـحبون هؤلاء الكفـار الذين نهيتكم عن اتـخاذهم بطانة من دون الـمؤمنـين، فتودّونهم وتواصلونهم، وهم لا يحبونكم، بل ينتظرون لكم العداوة والغش، وتؤمنون بـالكتاب كله. ومعنى الكتاب فـي هذا الـموضع، معنى الـجمع، كما يقال: أكثر الدرهم فـي أيدي الناس، بـمعنى الدراهم، فكذلك قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ}، إنـما معناه: بـالكتب كلها كتابكم الذي أنزل اللّه إلـيكم، وكتابهم الذي أنزله إلـيهم، وغير ذلك من الكتب التـي أنزلها اللّه علـى عبـاده. يقول تعالـى ذكره: فأنتـم إذ كنتـم أيها الـمؤمنون تؤمنون بـالكتب كلها، وتعلـمون أن الذين نهيتكم عن أن تتـخذوهم بطانة من دونكم، كفـار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود اللّه إلـيهم، وتبديـلهم ما فـيه من أمر اللّه ونهيه، أولـى بعداوتكم إياهم، وبغضائهم وغشهم منهم بعداوتكم وبغضائكم مع جحودهم بعض الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما: ٦٢١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ}: أي بكتابكم وكتابهم، وبـما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتـم أحقّ بـالبغضاء لهم منهم لكم. وقال: {ها أنْتُـمْ أُولاءِ} ولـم يقل: (هؤلاء أنتـم)، ففرّق بـين (ها) و(أولاء) بكناية اسم الـمخاطبـين، لأن العرب كذلك تفعل فـي هذا إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلـى تـمام الـخبر، وذلك مثل أن يقال لبعضهم: أين أنت؟ فـيجيب الـمقول ذلك له: ها أنا ذا، فـيفرّق بـين التنبـيه و(ذا) بـمكْنّـي اسم نفسه، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، ثم يثنى ويجمع علـى ذلك، وربـما أعادوا حرف التنبـيه مع ذا، فقالوا: ها أنا هذا ولا يفعلون ذلك إلا فـيـما كان تقريبـا، فأما إذا كان علـى غير التقريب والنقصان، قالوا: هذا هو، وهذا أنت، وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة، يقولون: هذا عمرو قائما، إن كان هذا تقريبـا. وإنـما فعلوا ذلك فـي الـمكنـي مع التقريب تفرقة بـين هذا إذا كان بـمعنى الناقص الذي يحتاج إلـى تـمام، وبـينه وبـين ما إذا كان بـمعنى الاسم الصحيحوقوله: {تُـحِبّوَنَهمْ} خبر للتقريب. وفـي هذه الاَية إبـانة من اللّه عزّ وجلّ عن حال الفريقـين، أعنـي الـمؤمنـين والكافرين، ورحمة أهل الإيـمان ورأفتهم بأهل الـخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم علـى أهل الإيـمان. كما: ٦٢١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ها أنْتُـمْ أُولاءِ تُـحِبّوَنَهُمْ وَلا يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ} فواللّه إن الـمؤمن لـيحبّ الـمنافق ويأوي له ويرحمه، ولو أن الـمنافق يقدر علـى ما يقدر علـيه الـمؤمن منه لأبـاد خضراءه. ٦٢١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: الـمؤمن خير للـمنافق من الـمنافق للـمؤمن يرحمه، ولو يقدر الـمنافق من الـمؤمن علـى مثل ما يقدر الـمؤمن علـيه منه لأبـاد خضراءه. وكان مـجاهد يقول: نزلت هذه الاَية فـي الـمنافقـين. ٦٢١٧ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنِ الغَيْظِ}. يعنـي بذلك تعالـى ذكره: إن هؤلاء الذين نهى اللّه الـمؤمنـين أن يتـخذوهم بطانة من دونهم، ووصفهم بصفتهم إذا لقوا الـمؤمنـين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أعطوهم بألسنتهم تقـية، حذرا علـى أنفسهم منهم، فقالوا لهم: قد آمنا وصدّقنا بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وإذا هم خـلوا فصاروا فـي خلاء حيث لا يراهم الـمؤمنون، عضوا علـى ما يرون من ائتلاف الـمؤمنـين، واجتـماع كلـمتهم، وصلاح ذات بـينهم، {أنامِلَهُمْ} وهي أطراف أصابعهم، تغيظا مـما بهم من الـموجدة علـيهم، وأَسًى علـى ظهر يسندون إلـيه لـمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم الـمـحاربة. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٦٢١٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}: إذا لقوا الـمؤمنـين قالوا آمنا لـيس بهم إلا مخافة علـى دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك. {وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ} يقول: مـما يجدون فـي قلوبهم من الغيظ والكراهة لـما هم علـيه لو يجدون ريحا لكانوا علـى الـمؤمنـين، فهم كما نعت اللّه عزّ وجلّ. ٦٢١٩ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله، إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم علـيه، ولـم يقل: لو يجدون ريحا وما بعده. ٦٢٢٠ـ حدثنا عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا مسلـم، قال: ثنـي يحيـى بن عمرو بن مالك البكري، قال: حدثنا أبـي، قال: كان أبو الـجوزاء إذا تلا هذه الاَية: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظ} قال: هم الإبـاضية. والأنامل: جمع أَنْـمُلَة، ويقال أُنْـمُلَة، وربـما جمعت أَنْـمُلاً، قال الشاعر: أوَدّكُمَا ما بَلّ حَلْقِـيَ رِيقَتِـيوَما حَمَلَتْ كَفّـايَ أَنْـمُلِـيَ العَشْرَا وهي أطراف الأصابع¹ كما: ٦٢٢١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، الأنامل: أطراف الأصابع. ٦٢٢٢ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، بـمثله. ٦٢٢٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ}: الأصابع. ٦٢٢٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه ، قوله: {عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ} قال: عضوا علـى أصابعهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنّ اللّه عَلِـيـمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد لهؤلاء الـيهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك، قالوا آمنا، وإذا خـلوا عضوا علـيكم الأنامل من الغيظ: موتوا بغيظكم الذي بكم علـى الـمؤمنـين، لاجتـماع كلـمتهم، وائتلاف جماعتهم. وخرج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء من اللّه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بأن يدعو علـيهم بأن يهلكهم اللّه كمدا مـما بهم من الغيظ علـى الـمؤمنـين، قبل أن يروا فـيهم ما يتـمنون لهم من العنت فـي دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد، اهلكوا بغيظكم، إن اللّه علـيـم بذات الصدور، يعنـي بذلك: إن اللّه ذو علـم بـالذي فـي صدور هؤلاء الذين إذا لقوا الـمؤمنـين، قالوا: آمنا، وما ينطوون لهم علـيه من الغلّ والغمّ، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء، وبـما فـي صدور جميع خـلقه، حافظ علـى جميعهم ما هو علـيه منطو من خير وشرّ، حتـى يجازي جميعهم علـى ما قدّم من خير وشرّ، واعتقد من إيـمان وكفر، وانطوى علـيه لرسوله وللـمؤمنـين من نصيحة أو غِلّ وغِمْر. |
﴿ ١١٩ ﴾