١٩٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّه ...}.

اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النـجاشي، وفـيه أنزلت. ذكر من قال ذلك:

٦٧٩٨ـ حدثنا عصام بن زياد بن رواد بن الـجراح، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، عن جابر بن عبد اللّه : أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (اخْرُجُوا فَصَلّوا علـى أخٍ لَكُمْ!) فصلـى بنا، فكبر أربع تكبـيرات،

فقال: (هَذَا النّـجاشِي أصَحمةُ)، فقال الـمنافقون: انظروا هذا يصلـي علـى علـج نصرانـي لـم يره قط! فأنزل اللّه : {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُوْمِنُ بـاللّه }.

٦٧٩٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبـي، عن قتادة: أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ أخاكُمْ النّـجاشِيّ قَدْ ماتَ فَصَلّوا عَلَـيّهِ!)

قالوا: نصلـي علـى رجل لـيس بـمسلـم؟ قال: فنزلت: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أُنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ خاشِعِينَ للّهِ} قال قتادة:

فقالوا: فإنه كان لا يصلـي إلـى القبلة. فأنزل اللّه : {ولِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه }.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ} ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت فـي النـجاشي وفـي ناس من أصحابه آمنوا بنبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وصدقوا به

قال: وذكر لنا أن نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم استغفر للنـجاشي، وصلـى علـيه حين بلغه موته، قال لأصحابه: (صَلّوا علـى أخٍ لَكُمْ قَدْ ماتَ بِغَيْرِ بِلادِكُمْ!) فقال أناس من أهل النفـاق: يصلـي علـى رجل مات لـيس من أهل دينه! فأنزل اللّه هذه الاَية: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بآياتِ اللّه ثَمَنا قَلِـيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ}.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ} قال: نزلت فـي النـجاشي وأصحابه مـمن آمن بـالنبـي صلى اللّه عليه وسلم، واسم النـجاشي أصحمة.

٦٨٠٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: قال عبد الرزاق، وقال ابن عيـينة: اسم النـجاشي بـالعربـية عطية.

٦٨٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: لـما صلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم علـى النـجاشي، طعن فـي ذلك الـمنافقون، فنزلت هذه الاَية: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه }.. إلا آخر الاَية.

وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد اللّه بن سلام ومن معه. ذكر من قال ذلك:

٦٨٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: نزلت ـ يعنـي هذه الاَية ـ فـي عبد اللّه بن سلام ومن معه.

٦٨٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن زيد فـي قوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ}.. الاَية كلها، قال: هؤلاء يهود.

وقال آخرون: بل عنى بذلك: مسلـمة أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:

٦٨٠٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ} من الـيهود والنصارى، وهم مسلـمة أهل الكتاب.

وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية ما قاله مـجاهد، وذلك أن اللّه جل ثناؤه عمّ بقوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ} أهل الكتاب جميعا، فلـم يخصص منهم النصارى دون الـيهود، ولا الـيهود دون النصارى، وإنـما أخبر أن من أهل الكتاب من يؤمن بـالله، وكلا الفريقـين، أعنـي الـيهود والنصارى، من أهل الكتاب.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فـي الـخبر الذي رويت عن جابر وغيره أنها نزلت فـي النـجاشي وأصحابه؟

قـيـل: ذلك خبر فـي إسناده نظر، ولو كان صحيحا لا شكّ فـيه لـم يكن لـما قلنا فـي معنى الاَية بخلاف، وذلك أن جابرا ومن قال بقوله إنـما

قالوا: نزلت فـي النـجاشي، وقد تنزل الاَية فـي الشيء ثم يعمّ بها كلّ من كان فـي معناه. فـالاَية وإن كانت نزلت فـي النـجاشي، فإن اللّه تبـارك وتعالـى قد جعل الـحكم الذي حكم به للنـجاشي حكما لـجميع عبـاده الذين هم بصفة النـجاشي فـي اتبـاعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتصديق بـما جاءهم به من عند اللّه ، بعد الذي كانوا علـيه قبل ذلك من اتبـاع أمر اللّه فـيـما أمر به عبـاده فـي الكتابـين: التوراة والإنـجيـل. فإذ كان ذلك كذلك،

فتأويـل الاَية: وإن من أهل الكتاب التوراة والإنـجيـل لـمن يؤمن بـالله، فـيقرّ بوحدانـيته، وما أنزل إلـيكم أيها الـمؤمنون،

يقول: وما أنزل إلـيكم من كتابه ووحيه، علـى لسان رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما أنزل إلـيهم، يعنـي: وما أنزل علـى أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والإنـجيـل والزبور، خاشعين لله، يعنـي: خاضعين لله بـالطاعة، مستكينـين له بها متذللـين. كما:

٦٨٠٥ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن زيد فـي قوله: {خاشِعِينَ لِلّهِ} قال: الـخاشع: الـمتذلل لله الـخائف.

ونصب قوله: {خاشِعِينَ لِلّهِ} علـى الـحال من قوله: {لَـمَنْ يُؤمِنُ بـاللّه } وهو حال مّـما فـي (يؤمن) من ذكر (من).

{لا يَشْتَرُونَ بآيَاتِ اللّه ثَمَنا قَلِـيلاً}

يقول: لا يحرّفون ما أنزل إلـيهم فـي كتبه من نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـيبدلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فـيه، لعرض من الدنـيا خسيس، يعطونه علـى ذلك التبديـل، وابتغاء الرياسة علـى الـجهال، ولكن ينقادون للـحقّ، فـيعملون بـما أمرهم اللّه به، فـيـما أنزل إلـيهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فـيها، ويؤثرون أمر اللّه تعالـى علـى هوى أنفسهم.

القول فـي تأويـل قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {أولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ}: هؤلاء الذين يؤمنون بـالله، وما أنزل إلـيكم، وما أنزل إلـيهم، لهم أجرهم عند ربهم¹ يعنـي: لهم عوض أعمالهم التـي عملوها، وثواب طاعتهم ربهم فـيـما أطاعوه فـيه عند ربهم، يعنـي: مذخور ذلك لهم لديه، حتـى يصيروا إلـيه فـي القـيامة، فـيوفـيهم ذلك {إنّ اللّه سريعُ الـحسابِ} وسرعة حسابه تعالـى ذكره، أنه لا يخفـى علـيه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلـى إحصاء عدد ذلك، فـيقع فـي الإحصاء إبطاء، فلذلك قال: {إنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ}.

﴿ ١٩٩