٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآتُواْ النّسَآءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً ...}.

قال أبو جعفر: يعنـي بذلك تعالـى ذكره: وأعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة، وفريضة لازمة¹ يقال منه: نـحل فلان فلانا كذا، فهو يَنْـحَلُه نِـحْلَةً ونُـحْلاً. كما:

٦٨٩٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً}

يقول: فريضة.

٦٨٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: أخبرنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} يعنـي بـالنـحلة: الـمهر.

٦٨٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} قال: فريضة مسماة.

٦٨٩٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} قال: النـحلة فـي كلام العرب: الواجب،

يقول: لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة، يسميها لها واجبة، ولـيس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة بعد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبـا بغير حقّ.

وقال آخرون: بل عنى بقوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} أولـياء النساء، وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن. ذكر من قال ذلك:

٦٨٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن سيار، عن أبـي صالـح، قال: كان الرجل إذا زوّج أيـمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم اللّه تبـارك وتعالـى عن ذلك، وَنزلت: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِـحْلَةً}.

وقال آخرون: بل كان ذلك من أولـياء النساء، بأن يعطي الرجل أخته الرجل، علـى أن يعطيه الاَخر أخته، علـى أن لا كثـير مهر بـينهما، فنهوا عن ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٨٩٥ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثـير مهر، فقال اللّه تبـارك وتعالـى: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِـحْلَةً}.

قال أبو جعفر: وأولـى التأويلات التـي ذكرناها فـي ذلك التأويـل الذي قلناه، وذلك أن اللّه تبـارك وتعالـى ابتدأ ذكر هذه الاَية بخطاب الناكحين النساء، ونهاهم عن ظلـمهنّ والـجور علـيهنّ، وعرفهم سبـيـل النـجاة من ظلـمهنّ¹ ولا دلالة فـي الاَية علـى أن الـخطاب قد صرف عنهم إلـى غيرهم. فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين قـيـل لهم: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ} هم الذين قـيـل لهم: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ} وأن معناه: وآتوا من نكحتـم من النساء صدقاتهنّ نـحلة، لأنه قال فـي الأوّل: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} ولـم يقل: فـانكحوا، فـيكون قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ} مصروفـا إلـى أنه معنـيّ به أولـياء النساء دون أزواجهنّ، وهذا أمر من اللّه أزواج النساء الـمدخول بهنّ والـمسمى لهنّ الصداق أن يؤتوهنّ صدقاتهنّ دون الـمطلقات قبل الدخول مـمن لـم يسمّ لها فـي عقد النكاح صداق.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فإن وهب لكم أيها الرجال نساؤكم شيئا من صدقاتهنّ، طيبة بذلك أنفسهنّ، فكلوه هنـيئا مريئا. كما:

٦٨٩٦ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا عمارة، عن عكرمة: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الـمهر.

٦٨٩٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي حرمي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة، عن عمارة فـي قول اللّه تبـارك وتعالـى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الصدقات.

٦٨٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الأزواج.

٦٨٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن عبـيدة، قال: قال لـي إبراهيـم: أكلتَ من الهنـيء الـمريء! قلت: ما ذاك؟ قال: امرأتك أعطتك من صداقها.

٦٩٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: دخـل رجل علـى علقمة وهو يأكل من طعام بـين يديه، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره، فقال له علقمة: ادْنُ، فكل من الهنـيء الـمريء!

٦٩٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}

يقول: إذا كان غير إضرار ولا خديعة، فهو هنـيء مريء كما قال اللّه جلّ ثناؤه.

٦٩٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الصداق، {فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

٦٩٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا}.

٦٩٠٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، قال: زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم فـي شيء مـما ساق إلـى امرأته، فقال اللّه تبـارك وتعالـى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

٦٩٠٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}

يقول: ما طابت به نفسا فـي غير كره أو هوان، فقد أحلّ اللّه لك ذلك أن تأكله هنـيئا مريئا.

وقال آخرون: بل عُنـي بهذا القول: أولـياء النساء، فقـيـل لهم: إن طابت أنفس النساء اللواتـي إلـيكم عصمة نكاحهنّ بصدقاتهنّ نفسا، فكلوه هنـيئا مريئا. ذكر من قال ذلك:

٦٩٠٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا سيار، عن أبـي صالـح فـي قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: كان الرجل إذا زوّج ابنته عمد إلـى صداقها فأخذه، قال: فنزلت هذه الاَية فـي الأولـياء: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب، التأويـل الذي قلنا وأن الاَية مخاطب بها الأزواج¹ لأن افتتاح الاَية مبتدأ بذكرهم،

وقوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} فـي سياقه.

وإن قال قائل: فكيف

قـيـل: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا، وقد علـمت أن معنى الكلام: فإن طابت لكم أنفسهن بشيء؟ وكيف وحدت النفس والـمعنى للـجميع، وذلك أنه تعالـى ذكره قال: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً}؟

قـيـل: أما نقل فعل النفوس إلـى أصحاب النفوس، فإن ذلك الـمستفـيض فـي كلام العرب من كلامها الـمعروف: ضِقْتُ بهذا الأمر ذراعا وذرعا، وَقَرِرْت بهذا الأمر عينا، والـمعنى: ضاق به ذرعي، وقرّت به عينـي، كما قال الشاعر:

إذا التّـيازُ ذُو العَضَلاتِ قُلْناإلـيكَ إلـيكَ ضَاقَ بِها ذِرَاعا

فنقل صفة الذراع إلـى ربّ الذراع، ثم أخرج الذراع مفسرة لـموقع الفعل. وكذلك وحد النفس فـي قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} إذ كانت النفس مفسرة لـموقع الـخبروأما توحيد النفس من النفوس، لأنه إنـما أراد الهوى، والهوى يكون جماعة، كما قال الشاعر:

بِها جِيَفُ الـحَسْرَى فَأمّا عِظامُهافبِـيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِـيبُ

وكما قال الاَخر:

(فِـي حَلْقِكمْ عَظْمٌ وقد شجِينَا )

وقال بعض نـحويـي الكوفة: جائز فـي النفس فـي هذا الـموضع الـجمع والتوحيد¹ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا وأنفسا، وضقت به ذراعا وذرعا وأذرعا، لأنه منسوب إلـيك، وإلـى من تـخبر عنه، فـاكتفـى بـالواحد عن الـجمع لذلك، ولـم يذهب الوهم إلـى أنه لـيس بـمعنى جمع لأن قبله جمعا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن النفس وقع موقع الأسماء التـي تأتـي بلفظ الواحد مؤدّية معناه إذا ذكر بلفظ الواحد، وأنه بـمعنى الـجمع عن الـجمعوأما قوله: {هَنِـيئا} فإنه مأخوذ من هنأت البعير بـالقطران: إذا جرب فعولـج به، كما قال الشاعر:

مُتَـبَذّلاً تَبْدُو مَـحَاسِنُهُيَضَعُ الهِنَاءَ مَوَاضِعَ النّقْبِ

فكان معنى قوله: {فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}: فكلوه دواء شافـيا، يقال منه: هنأنـي الطعام ومرأنـي: أي صار لـي دواء وعلاجا شافـيا، وهنئنـي ومرئنـي بـالكسر، وهي قلـيـلة، والذين يقولون هذا القول يقولون يهنأنـي ويـمرأنـي، والذين يقولون هنأنـي، يقولون: يهنئنـي ويـمرئنـي، فإذا أفردوا،

قالوا: قد أمرأنـي هذا الطعام إمراء، ويقال: هنأت القوم: إذا عُلتهم، سمع من العرب من

يقول: إنـما سميت هانئا لتهنأ، بـمعنى: لتعول وتكفـى.

﴿ ٤