٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ ...}.

قد ذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم كانوا يخـلفون علـى حلائل آبـائهم، فجاء الإسلام وهم علـى ذلك، فحرّم اللّه تبـارك وتعالـى علـيهم الـمقام علـيهن، وعفـا لهم عما كان سلف منهم فـي جاهلـيتهم وشركهم من فعل ذلك لـم يؤاخذهم به إن هم اتقوا اللّه فـي إسلامهم وأطاعوه فـيه. ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك:

٧٢٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه الـمخرمي، قال: حدثنا قراد، قال: حدثنا ابن عيـينة وعمرو، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: كان أهل الـجاهلـية يحرّمون ما يحرّم إلا امرأة الأب، والـجمع بـين الأختـين، قال: فأنزل اللّه : {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ} {وأنْ تَـجْمَعُوا بَـيْنَ الأُخْتَـيْنِ}.

٧٢٢٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ}.. الاَية، قال: كان أهل الـجاهلـية يحرّمون ما حرّم اللّه ، إلا أن الرجل كان يخـلف علـى حلـيـلة أبـيه، ويجمعون بـين الأختـين، فمن ثم قال اللّه : {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}.

٧٢٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة فـي قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ} قال: نزلت فـي أبـي قـيس بن الأسلت خـلف علـى أم عبـيد بنت ضمرة، كانت تـحت الأسلت أبـيه، وفـي الأسود بن خـلف، وكان خـلف علـى بنت أبـي طلـحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار، وكانت عند أبـيه خـلف، وفـي فـاختة بنت الأسود بن الـمطلب بن أسد، وكانت عند أمية بن خـلف، فخـلف علـيها صفوان بن أمية، وفـي منظور بن ربـاب، وكان خـلف علـى ملـيكة ابنة خارجة، وكانت عند أبـيه ربـاب بن سيار.

٧٢٢٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء بن أبـي ربـاح: الرجل ينكح الـمرأة ثم لا يراها حتـى يطلقها، أتـحلّ لابنه؟ قال: هي مرسلة، قال اللّه تعالـى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ} قال: قلت لعطاء: ما قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}؟ قال: كان الأبناء ينكحون نساء آبـائهم فـي الـجاهلـية.

٧٢٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ}.. الاَية،

يقول: كل امرأة تزوّجها أبوك وابنك دخـل أو لـم يدخـل فهي علـيك حرام.

واختلف فـي معنى قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}

فقال بعضهم: معناه: لكن ما قد سلف فدعوه، وقالوا هو من الاستثناء الـمنقطع.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا نكاح آبـائكم، بـمعنى: ولا تنكحوا كنكاحهم كما نكحوا علـى الوجوه الفـاسدة التـي لا يجوز مثلها فـي الإسلام، {إنّهُ كَانَ فَـاحِشَةً وَمَقْتا وَسَاءَ سَبِـيلاً} يعنـي: أن نكاح آبـائكم الذي كانوا ينكحونه فـي جاهلـيتهم كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً، إلا ما قد سلف منكم فـي جاهلـيتكم من نكاح لا يجوز ابتداء مثله فـي الإسلام، فإنه معفوّ لكم عنه.

وقالوا: قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ} كقول القائل للرجل: لا تفعل ما فعلت، ولا تأكل ما أكلت بـمعنى: ولا تأكل كما أكلت، ولا تفعل كما فعلت.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا ما نكح آبـاؤكم من النساء بـالنكاح الـجائز كان عقده بـينهم، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم، فإن نكاحهنّ لكم حلال كان لأنهنّ لـم يكنّ لهم حلائل، وإنـما ما كان من آبـائكم منهنّ من ذلك فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً. ذكر من قال ذلك:

٧٢٢٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف}... الاَية، قال: الزنا، إنه كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً. فزاد ههنا الـمقت.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب علـى ما قاله أهل التأويـل فـي تأويـله، أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاح آبـائكم إلا ما قد سلف منكم، فمضى فـي الـجاهلـية، فإنه كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً، فـيكون قوله: {مِنَ النّساءِ} من صلة قوله: {وَلا تَنْكِحُوا} ويكون قوله: {ما نَكَحَ آبـاؤكُمْ} بـمعنى الـمصدر، ويكون قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ} بـمعنى الاستثناء الـمنقطع، لأنه يحسن فـي موضعه: لكن ما قد سلف فمضى، إنه كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً.

فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويـل، وقد علـمت أن الذين ذكرت قولهم فـي ذلك، إنـما

قالوا: أنزلت هذه الاَية فـي النهي عن نكاح حلائل الاَبـاء، وأنت تذكر أنهم إنـما نهوا أن ينكحوا نكاحهم؟

قـيـل له: وإن قلنا إن ذلك هو التأويـل الـموافق لظاهر التنزيـل، إذ كانت ما فـي كلام العرب لغير بنـي آدم، وإنه لو كان الـمقصود بذلك النهي عن حلائل الاَبـاء دون سائر ما كان من مناكح آبـائهم حراما، ابتدىء مثله فـي الإسلام، بنهي اللّه جل ثناؤه عنه، لقـيـل: ولا تنكحوا من نكح آبـاؤكم من النساء إلا ما قد سلف، لأن ذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب، إذ كان (من) لبنـي آدم و(ما) لغيرهم، ولا تقل: ولا تنكحوا ما نكح آبـاؤكم من النساء، فإنه يدخـل فـي (ما) ما كان من مناكح آبـائهم التـي كانوا يتناكحونها فـي جاهلـيتهم، فحرم علـيهم فـي الإسلام بهذه الاَية نكاح حلائل الاَبـاء، وكل نكاح سواه، نهى اللّه تعالـى ذكره ابتداء مثله فـي الإسلام، مـما كان أهل الـجاهلـية يتناكحونه فـي شركهم.

ومعنى قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}: إلا ما قد مضى، {إنّهُ كان فـاحِشَةً}

يقول: إن نكاحكم الذي سلف منكم، كنكاح آبـائكم الـمـحرّم علـيكم ابتداء مثله فـي الإسلام بعد تـحريـمي ذلك علـيكم فـاحشة،

يقول: معصية {وَمَقْتا وَساءَ سَبِـيلاً}: أي بئس طريقا ومنهجا ما كنتـم تفعلون فـي جاهلـيتكم من الـمناكح التـي كنتـم تتناكحونها.

﴿ ٢٢