٥٨

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا ... }.

اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عُني بها: ولاةُ أمور المسلمين. ذكر من قال ذلك:

٧٨٦١ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي مكين، عن زيد بن أسلم، قال: نزلت هذه الاَية: {إنّ اللّه يأمْرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأمانَاتِ إلى أهْلِها} في ولاة الأمر.

٧٨٦٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إديس، قال: حدثنا ليث، عن شهر، قال: نزلت في الأمرء خاصة {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْلِ}.

٨٧٧٧ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إدريس، قال: حدثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد، قال: قال عليّ رضي اللّه عنه: كلمات أصاب فيهنّ حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه ، وأن يؤدّى الأمانة، وإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: حدثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد، عن عليّ بنحوه.

٧٨٦٣ـ حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا موسى بن عمير، عن مكحول، في قول اللّه : {وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم أهل الاَية التي قبلها: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها}.. إلى آخر الاَية.

٧٨٦٤ـ حدثني يونس، قال¹ أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد، قال: قال أبي: هم الولاة، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها.

وقال آخرون: أمر السلطان بذلك أن يعطوا الناس. ذكر من قال ذلك:

٧٨٦٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {إنّ اللّه يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} قال: يعني: السلطان يعطون الناس.

وقال آخرون: الذي خُوطِبَ بذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في مفاتيح الكعبة أُمِرَ بردّها على عثمان بن طلحة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: {إنّ اللّه يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قبض منه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مفاتيح الكعبة، ودخل بها البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الاَية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح

قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يتلو هذه الاَية: فداؤه أبي وأمي! ما سمعته يتلوها قبل ذلك.

٧٨٦٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري، قال: دفعه إليه وقال: أعينوه.

وأولى هذه الأقوال بالصوااب في ذلك عندي قول من قال: هو خطاب من اللّه ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولّوا في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية. والقسم بينهم بالسوية، يدلّ على ذلك ما وعظ به الرعية في: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الراعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة. كما:

٧٨٦٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: قال أبي: هم السلاطين. وقرأ ابن زيد: {تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ} ألا ترى أنه أمر فقال: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها}؟ والأمانات: هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقسمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها. {وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل}.. الاَية كلها فأمر بهذا الولاة، ثم أقبل علينا نحن،

فقال: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُول وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ}.

وأما الذي قال ابن جريج من أن هذه الاَية نزلت في عثمان بن طلحة فإنه جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كلّ مؤتمن على أمانة فدخل فيه ولاة أمور المسلمين وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا، ولذلك قال من قال: عني به قضاء الدين وردّ حقوق الناس. كالذي:

٧٨٦٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} فإنه لم يرخص لموسر ولا معسر أن يمسكها.

٧٨٧٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} عن الحسن: أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (أدّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خانَكَ).

فتأويل الاَية إذًا، إذ كان الأمر على ما وصفنا: إن اللّه يأمركم يا معشر ولاة أمور المسلمين أن تؤدّوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم على ما أمركم اللّه ، بأداء كلّ شيء من ذلك إلى من هو له بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها ولا تستأثروا بشيء منها ولا تضعوا شيئا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن اللّه لكم بأخذها منه قبل أن تصير في أيديكم¹ ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكم اللّه الذي أنزله في كتابه وبينه على لسان رسوله، لا تَعْدوا ذلك فتجوروا عليهم.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنّ اللّه كانَ سَمِيعا بَصِيرا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا معشر ولاة أمور المسلمين إنّ اللّه نَعِمّ الشيء يعظكم به، ونِعِمّت العظة يعظكم بها في أمره إياكم، أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين الناس بالعدل {نّ اللّه كَانع سَمِيعا}

يقول: إن اللّه لم يزل سميعا بما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تحاوروهم به، {بَصِيرا} بما تفعلون فيما ائتمنتكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله.

﴿ ٥٨