٩٣

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّه كَذِباً ... }.

يعني جلّ ذكره بقوله: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى على اللّه كَذِبا: ومن أخطأُ قولاً وأجهلُ فعلاً ممن افترى على اللّه كذبا، يعني: ممن اختلق على اللّه كذبا، فادّعى عليه أنه بعثه نبيا وأرسله نذيرا، وهو في دعواه مبطل وفي قيله كاذب. وهذا تسفيه من اللّه لمشركي العرب وتجهيل منه لهم في معارضة عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح والحنفي مُسَيْلِمة لنبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدعوى أحدهما النبوّة ودعوى الاَخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونفي منه عن نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم اختلاق الكذب عليه ودعوى الباطل.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك:

١٠٦٤١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّه كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ قال: نزلت في مسيلمة أخي بني عديّ بن حنيفة فيما كان يسجّع ويتكهن به. وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللّه نزلت في عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح، أخي بني عامر بن لؤي، كان يكتب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وكان فيما يُملِي (عزيز حكيم)، فيكتب (غفور رحيم)، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، ف

يقول: (نَعَمْ سواء) فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينزل عليه (عزيز حكيم)، فأحوّله ثم أقول لما أكتب، فيقول نعم سواء ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة، إذ نزل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بمَرّ.

وقال بعضهم: بل نزل ذلك في عبد اللّه بن سعد خاصة. ذكر من قال ذلك:

١٠٦٤٢ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّه كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ... إلى قوله: تُجْزَوْنَ عذَابَ الهُونِ قال: نزلت في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح أسلم، وكان يكتب للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه (سميعا عليما)، كتب هو: (عليما حكيما) وإذا قال: (عليما حكيما) كتب: (سميعا عليما). فشكّ وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحيَ إليّ، وإن كان اللّه ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل اللّه ، قال محمد: (سميعا عليما)، فقلت أنا: (عليما حكيما). فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرميّ أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذّبوا حتى كفروا. وجُدع أذن عمار يومئذ، فانطلق عمار إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأخبره بما لقي والذي أعطاهم من الكفر، فأبى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يتولاه، فأنزل اللّه في شأن ابن أبي سَرح وعمار وأصحابه: مَنْ كَفَرَ باللّه مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرًا فالذي أُكره عمار وأصحابه، والذي شرح بالكفر صدرا فهو ابن أبي سرح.

وقال آخرون: بل القائل: أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ مسيلمة الكذّاب. ذكر من قال ذلك:

١٠٦٤٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللّه ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(رأيْتُ فِيما يَرَى النّائمُ كأنّ فِي يَدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فكَبُرَا عَليّ وأهمّانِي، فَأُوحِيَ إليّ أنِ انْفُخْهُما، فنَفَخْتُهُما فَطارَا، فَأوّلْتُهُما فِي مَنامي الكَذّابَيْنِ اللّذَيْنِ أنا بَيْنَهُما: كَذّابُ اليَمامَةِ مُسَيْلِمَةُ، وكذّابُ صَنْعاءَ العَنْسِيّ) وكان يقال له الأسود.

١٠٦٤٤ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: أُوحِيَ إليّ وَلم يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ قال: نزلت في مسيلمة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وزاد فيه: وأخبرني الزهري أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (بَيْنا أنا نائمٌ رأيْتُ فِي يَدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَ ذلكَ عَليّ، فَأُوحِيَ إليّ أنِ انْفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُما فَطارَا، فَأوّلْت ذلكَ كَذّابَ اليَمامَةِ، وكَذّابَ صَنْعاءَ العَنسِيّ).

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن اللّه قال: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّه كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ ولا تَمَانُعَ بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: إني قد قلت مثل ما قال محمد، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين. فكان لا شكّ بذلك من قيله مفتريا كذبا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذّابين ادّعيا على اللّه كذبا أنه بعثهما نبيين، وقال كلّ واحد منهما: إن اللّه أوحي إليه وهو كاذب في قيله.

﴿ ٩٣