٨

القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىَ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }.

يعني جل ثناؤه ب قوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم أيها المؤمنون عهد وذمة، وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم، لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة. واكتفى ب (كيف) دليلاً على معنى الكلام، لتقدم ما يراد من المعنى بها قبلها وكذلك تفعل العرب إذا أعادت الحرف بعد مضي معناه استجازوا حذف الفعل، كما قال الشاعر:

وخَبّرْتُمَانِي أنّمَا المَوْتُ فِي القُرَىفَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وكَثِيبُ

فحذف الفعل بعد كيف لتقدم ما يراد بعدها قبلها.

ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى وهذي هضبة وكثيب لا ينجو فيهما منه أحد.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذمّةً

فقال بعضهم: معناه: لا يراقبوا اللّه فيكم ولا عهدا. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٨٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ قال اللّه .

١٢٨٨٧ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن سليمان، عن أبي مجلز، في قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً قال: مثل قوله جبرائيل ميكائيل إسرافيل، كأته يقال: يضاف (جبر) و (ميكا) و (إسراف) إلى (إيل) ،

يقول: عبد اللّه لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ كأنه

يقول: لا يرقبون اللّه .

حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثني محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ وَلا ذِمّةً لا يرقبون اللّه ولا غيره.

وقال آخرون: الإلّ: القرابة. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٨٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً

يقول: قرابة ولا عهدا.

وقوله: وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذِمّةً قال: الإلّ: يعني القرابة، والذمة: العهد.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: لاَ يَرْقَبُوا إلاّ وَلا ذِمّةً الإلّ: القرابة، والذمة: العهد. يعني : أهل العهد من المشركين،

يقول: ذمتهم.

١٢٨٨٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، وعبدة عن حوشب، عن الضحاك : الإلّ: القرابة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد اللّه ، عن سلمة بن كهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال: الإلّ: القرابة، والذمة: العهد.

١٢٨٩٠ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً الإلّ: القرابة، والذمة: الميثاق.

١٢٨٩١ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: كَيْفَ وَإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ المشركون، لا يرقبوا فيكم عهدا ولا قرابة ولا ميثاقا.

وقال آخرون: معناه: الحلف. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٩٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لاَ يَرْقَبُوا فِيكُمْ إلاّ ولاَ ذِمّةً قال: الإلّ: الحلف، والذمة: العهد.

وقال آخرون: الإلّ: هو العهد ولكنه كرّر لما اختلف اللفظان وإن كان معناهما واحدا. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٩٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ قال: عهدا.

١٢٨٩٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لاَ يَرْقُبُوا فِيْكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال: لا يرقبوا فيكم عهدا ولا ذمة. قال: إحداهما من صاحبتها كهيئة (غفور رحيم) ، قال: فالكلمة واحدة وهي تفترق، قال: والعهد هو الذمة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن خصيف، عن مجاهد: وَلا ذِمّةً قال: العهد.

حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا قيس، عن خصيف، عن مجاهد: وَلاَ ذِمّةً قال: الذمة العهد.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن اللّه تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم وحصرهم والقعود لهم على كلّ موصد أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلاّ، والإلّ: اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد والعقد، والحلف، والقرابة، وهو أيضا بمعنى اللّه . فإذ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن اللّه خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة، فيقال: لا يرقبون في مؤمن اللّه ، ولا قرابة، ولا عهدا، ولا ميثاقا. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل:

أفْسَدَ النّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُواقَطَعُوا الإلّ وأعْرَاقَ الرّحِيمْ

بمعنى: قطعوا القرابة وقول حسان بن ثابت:

لَعَمْرُكَ إنّ إلّكَ مِنْ قُرَيْشٍكإلّ السّقْبِ مِنْ رَألِ النّعامِ

وأما معناه: إذا كان بمعنى العهد. فقول القائل:

وَجَدْنَاهُمُ كاذِبا إلّهُمْوذُو الإلّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ

وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين، أن الإلّ والعهد والميثاق واليمين واحد، وأن الذمة في هذا الموضع: التذمم ممن لا عهد له، والجمع: ذمم. وكان ابن إسحاق

يقول: عنى بهذه الآية: أهل العهد العام.

١٢٨٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: كَيْفَ وَإنْ يَظهَرُوا عَلَيْكُمْ أي المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد العام لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً.

وأما قوله: يَرْضُونَكُمْ بأفْوَاهِهِمْ فإنه

يقول: يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء. وتَأْبَى قُلُوبُهُمْ: أي تأبى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذر جل ثناؤه أمرهم المؤمنين ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض اللّه ، وألا يقصروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه. وأكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ

يقول: وأكثرهم مخالفون عهدكم ناقصون له، كافرون بربهم خارجون عن طاعته.

﴿ ٨