٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَضَيْنَآ إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً }. وقد بـيّنا فـيـما مضى قبل أن معنى القضاء: الفراغ من الشيء، ثم يستعمل فـي كلّ مفروغ منه، فتأويـل الكلام فـي هذا الـموضع: وفرغ ربك إلـى بنـي إسرائيـل فـيـما أنزل من كتابه علـى موسى صلوات اللّه وسلامه علـيه بإعلامه إياهم، وإخبـاره لهم لَتُفْسِدُنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ يقول: لتعصنّ اللّه يا معشر بنـي إسرائيـل ولتـخالفنّ أمره فـي بلاده مرّتـين وَلَتَعْلُنّ عَلُوّا كَبِـيرا يقول: ولتستكبرنّ علـى اللّه بـاجترائكم علـيه استكبـارا شديدا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٦٦٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول اللّه :وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائيِـلَ قال: أعلـمناهم. ١٦٦٥١ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، فـي قوله: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ يقُول: أعلـمناهم. وقال آخرون: معنى ذلك: وقضينا علـى بنـي إسرائيـل فـي أمّ الكتاب، وسابق علـمه. ذكر من قال ذلك: ١٦٦٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: هو قضاء قضى علـيهم. ١٦٦٥٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سيعد، عن قتادة، قوله: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ قضاء قضاه علـى القوم كما تسمعون. وقال آخرون: معنى ذلك: أخبرنا. ذكر من قال ذلك: ١٦٦٥٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكِتابِ قال: أخبرنا بنـي إسرائيـل. وكلّ هذه الأقوال تعود معانـيها إلـى ما قلت فـي معنى قوله: وَقَضَيْنا وإن كان الذي اخترنا من التأويـل فـيه أشبه بـالصواب لإجماع القرّاء علـى قراءة قوله لَتُفْسِدُنّ بـالتاء دون الـياء، ولو كان معنى الكلام: وقضينا علـيهم فـي الكتاب، لكانت القراءة بـالـياء أولـى منها بـالتاء، ولكن معناه لـما كان أعلـمناهم وأخبرناهم، وقلنا لهم، كانت التاء أشبه وأولـى للـمخاطبة. وكان فساد بنـي إسرائيـل فـي الأرض الـمرّة الأولـى ما: ١٦٦٥٥ـ حدثنـي به هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـي خبر ذكره عن أبـي صالـح، وعن أبـي مالك، عن ابن عبـاس ، وعن مرّة، عن عبد اللّه أن اللّه عهد إلـى بنـي إسرائيـل فـي التوراة لَتُفْسِدُنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ فكان أوّل الفسادين: قتل زكريا، فبعث اللّه علـيهم ملك النبط، وكان يُدعى صحابـين فبعث الـجنود، وكان أساورته من أهل فـارس، فهم أولو بأس شديد، فتـحصنت بنو إسرائيـل، وخرج فـيهم بختنصر يتـيـما مسكينا، إنـما خرج يستطعم، وتلطف حتـى دخـل الـمدينة فأتـى مـجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلـم عدوّنا ما قُذف فـي قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصرحين سمع ذلك منهم، واشتدّ القـيام علـى الـجيش، فرجعوا، وذلك قول اللّه : فإذَا جاء وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عبـادا لنَا أُولـى بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْدا مَفْعولاً ثم إن بنـي إسرائيـل تـجهّزوا، فغزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقذوا ما فـي أيديهم، فذلك قول اللّه ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَـيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِـينَ، وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيرا يقول: عددا. ١٦٦٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان إفسادهم الذي يفسدون فـي الأرض مرّتـين: قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلط اللّه علـيهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فـارس، من قتل زكريا، وسلّط علـيهم بختنصر من قتل يحيى. ١٦٦٥٧ـ حدثنا عصام بن رواد بن الـجراح، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا سفـيان بن سعيد الثوري، قال: حدثنا منصور بن الـمعتـمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حُذيفة بن الـيـمان يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لَـمّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا، وَقَتَلُوا الأنْبِـياءَ، بَعَثَ اللّه عَلَـيْهِمْ مَلِكَ فـارِسَ بُخْتَنَصّر، وكانَ اللّه مَلّكَهُ سَبْعَ مئَةِ سَنةٍ، فَسارَ إلَـيْهِمْ حتـى دَخَـلَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَـحَها، وَقَتَلَ عَلـي دَمِ زَكَرِيّا سَبْعِينَ ألْفـا، ثُمّ سَبِـي أهْلَها وَبَنِـي الأَنْبِـياءِ، وَسَلَبَ حُلـيّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ، وَاسْتَـخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفـا وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِـيَ حتـى أوْرَدَهُ بـابِلَ) قال حُذيفة: فقتل: يا رسول اللّه لقد كان بـيت الـمقدس عظيـما عند اللّه ؟ قال: (أجَلْ بَناهُ سُلَـيْـمانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ، وكانَ بَلاطُهُ بَلاطَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَلاطَةً مِنْ فَضّةٍ، وعُمُدُهُ ذَهَبـا، أعْطاهُ اللّه ذلكَ، وسَخّرَ لَهُ الشّياطينَ يَأْتُونَهُ بِهِذِهِ الأشْياءِ فِءَ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَسارَ بُخْتَنَصّر بهذهِ الأشيْاءِ حتـى نَزَلَ بِها بـابِلَ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائيـلَ فِـي يَدَيِهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ الـمَـجُوسُ وأبْناءُ الـمَـجُوسِ، فِـيهِمُ الأنْبِـياءُ وأبْناءُ الأنْبِـياءِ ثُمّ إنّ اللّه رَحِمَهُمْ، فأوْحَى إلـى مَلِكِ مِنْ مُلُوكِ فـارِسَ يُقالُ لُهُ كُورَسُ، وكانَ مُؤْمِنا، أنْ سِرْ بَقايَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ حتـى تَسْتَنْقِذَهُمْ، فَسارَ كُورَسُ بِبَنـي إسْرَائِيـل وحُلـيّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ حتـى رَدّهُ إلَـيْهِ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيـلَ مُطِيعينَ لِلّهِ مِئَةَ سَنَةِ، ثُمّ إنّهُمْ عادُوا فِـي الـمَعاصِي، فَسَلّطَ اللّه عَلَـيْهِمْ ابْطِيانْـحُوسَ، فَغَزَا بأْبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصّر، فَغَزَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ حتـى أتاهُمْ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ، فَسَبـي أهْلَها، وأحْرَقَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ، وَقالَ لَهُمْ: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ إنْ عُدْتُـمْ فِـي الـمَعاصِي عُدْنا عَلَـيْكُمْ بـالسّبـاءِ، فَعادُوا فِـي الـمَعاصِي، فَسَيّرَ اللّه عَلَـيْهِمُ السّبـاءَ الثّالِثَ مَلِكَ رُومِيّةَ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبـايُوس، فَغَزَاهُمْ فِـي البَرّ والبَحْرِ، فَسَبـاهُمْ وَسَبَى حُلِـيّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ، وأحْرَقَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ بـالنّـيرانِ) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِـيّ بَـيْتِ الـمَقْذِسِ، ويَرُدّهُ الـمَهْدِيّ إلـى بَـيْتِ الـمَقْدِسِ، وَهُوَ ألْفُ سَفِـينَةٍ وسَبْعُ مِئَةٍ سَفِـينَةٍ، يُرْسَى بِها عَلـى يافـا حتـى تُنْقَلَ إلـى بَـيْتِ الـمَقْذِسِ، وبِها يَجْمَعُ اللّه الأوّلِـينَ والاَخِرِينَ) . ١٦٦٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: كان مـما أنزل اللّه علـى موسى فـي خبره عن بنـي إسرائيـل، وفـي أحداثهم ما هم فـاعلون بعده، فقال: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكتابِ لَتُفْسِدّنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ، وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا... إلـى قوله: وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للْكافرِينَ حَصِيرا فكانت بنو إسرائيـل، وفـيهم الأحداث والذنوب، وكان اللّه فـي ذلك متـجاوزا عنهم، متعطفـا علـيهم مـحسنا إلـيهم، فكان مـما أُنزل بهم فـي ذنوبهم ما كان قدّم إلـيهم فـي الـخبر علـى لسان موسى مـما أنزل بهم فـي ذنوبهم. فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكا منهم كان يُدعي صديقة، وكان اللّه إذا ملّك الـملِك علـيهم، بعث نبـيا يسدّده ويرشده، ويكون فـيـما بـينه وبـين اللّه ، ويحدث إلـيه فـي أمرهم، لا ينزل علـيهم الكتب، إنـما يؤمرون بـاتبـاع التوراة والأحكام التـي فـيها، وينهونهم عن الـمعصية، ويدعونهم إلـى ما تركوا من الطاعة فلـما ملك ذلك الـملك، بعث اللّه معه شعياء أمُصيا، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشّر بعيسى ومـحمد، فملك ذلك الـملك بنـي إسرائيـل وبـيت الـمقدس زمانا فلـما انقضى ملكه عظمت فـيهم الأحداث، وشعياء معه، بعث اللّه علـيهم سنـحاريب ملك بـابل، ومعه ستّ مئة ألف راية، فأقبل سائرا حتـى نزل نـحو بـيت الـمقدس، والـملك مريض فـي ساقه قرحة، فجاء النبـيّ شعياء، فقال له: يا ملك بنـي إسرائيـل إن سنـحاريق ملك بـابل، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرَقوا منهم، فكبر ذلك علـى الـملك، فقال: يا نبـيّ اللّه هل أتاك وحي من اللّه فـيـما حدث، فتـخبرنا به كيف يفعل اللّه بنا وبسنـحاريب وجنوده؟ فقال له النبـيّ علـيه السلام: لـم يأتنـي وحي أحدث إلـيّ فـي شأنك. فبـيناهم علـى ذلك، أوحى اللّه إلـى شعياء النبـيّ: أن ائت ملك بنـي إسرائيـل، فمره أن يوصي وصيته، ويستـخـلف علـى ملكه من شاء من أهل بـيته. فأتـى النبـيّ شيعاء ملك بـين إسرائيـل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلـيّ أن آمرك أن توصي وصيتك، وتستـخـلف من شئت علـى مُلكك من أهل بـيتك، فإنك ميت فلـما قال ذلك شعياء لصديقة، أقبل علـى القبلة، فصلـى وسبح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلـى اللّه بقلب مخـلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق. اللهمّ ربّ الأربـاب، وإله الاَلهة، قدّوس الـمتقدسين، يا رحمن يا رحيـم، الـمترحم الرؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرنـي بعملـي وفعلـي وحُسن قضائي علـى بنـي إسرائيـل وذلك كله كان منك، فأنت أعلـم به من نفسي سرّي وعلانـيتـي لك وإن الرحمن استـجاب له، وكان عبدا صالـحا، فأوحى اللّه إلـى شعياء أن يخبر صديقة الـملك أن ربه قد استـجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخّر أجله خمس عشرة سنة، وأنـجاه من عدوّه سنـحاريب ملك بـابل وجنوده، فأتـى شعياء النبـيّ إلـى ذلك الـملك فأخبره بذلك، فلـما قال له ذلك ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشرّ والـحزن، وخرّ ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبـائي، لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الـمُلك من تشاء، وتنزعه مـمن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، عالـم الغيب والشهادة، أنت الأوّل والاَخر، والظاهر والبـاطن، وأنت ترحم وتستـجيب دعوة الـمضطرّين، أنت الذي أحببت دعوتـي ورحمت تضرّعي فلـما رفع رأسه، أوحى اللّه إلـى شعياء إن قل للـملك صديقة فـيأمر عبدا من عبـيده بـالتـينة، فـيأتـيه بـماء التـين فـيجعله علـى قرحته فـيشفـى، ويصبح وقد برأ، ففعل ذلك فشفـي. وقال الـملك لشعياء النبـيّ: سل ربك أن يجعل لنا علـما بـما هو صانع بعدوّنا هذا. قال: فقال اللّه لشعياء النبـيّ: قل له: إنـي قد كفـيتك عدوّك، وأنـجيتك منه، وإنهم سيصبحون موتـى كلهم إلاّ سنـحاريب وخمسة من كتابه فلـما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم، فصرخ علـى بـاب الـمدينة: يا ملك بنـي إسرائيـل، إن اللّه قد كفـاك عدوّك فـاخرج، فإن سنـحاريب ومن معه قد هلكوا فلـما خرج الـملك التـمس سنـحاريب، فلـم يُوجد فـي الـموتـى، فبعث الـملك فـي طلبه، فأدركه الطلب فـي مغارة وخمسة من كتابه، أحدهم بختنصر، فجعلوهم فـي الـجوامع، ثم أتوا بهم ملك بنـي إسرائيـل فلـما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتـى كانت العصر، ثم قال لسنـحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألـم يقتلكم بحوله وقوّته، ونـحن وأنتـم غافلون؟ فقال سنـحاريب له: قد أتانـي خبر ربكم، ونصره إياكم، ورحمته التـي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلـم أطع مرشدا، ولـم يـلقنـي فـي الشقوة إلاّ قلة عقلـي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علـيّ وعلـى من معي، فقال ملك بنـي إسرائيـل: الـحمد لله ربّ العزّة الذي كفـاناكم بـما شاء، إن ربنا لـم يُبقك ومن معك لكرامة بك علـيه، ولكنه إنـما أبقاك ومن معك لـما هو شرّ لك، لتزدادوا شقوة فـي الدنـيا، وعذابـا فـي الاَخرة، ولتـخبروا من وراءكم بـما لقـيتـم من فعل ربنا، ولتنذر من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم، فلدمُك ودم من معك أهون علـى اللّه من دم قراد لو قتلته. ثم إن ملك بنـي إسرائيـل أمر أمير حرسه، فقذف فـي رقابهم الـجوامع، وطاف بهم سبعين يوما حول بـيت الـمقدس إيـلـيا، وكان يرزقهم فـي كلّ يوم خبزتـين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنـحاريب لـملك بنـي إسرائيـل: القتل خير مـما يفعل بنا، فـافعل ما أمرت فنقل بهم الـملك إلـى سجن القتل، فأوحى اللّه إلـى شعياء النبـيّ أن قل لـملك بنـي إسرائيـل يرسل سنـحاريب ومن معه لـينذروا من وراءهم، ولـيكرمهم ويحملهم حتـى يبلغوا بلادهم فبلّغ النبـيّ شعياء الـملك ذلك، ففعل، فخرج سنـحاريب ومن معه حتـى قدموا بـابل فلـما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل اللّه بجنوده، فقال له كهّانه وسحرته: يا ملك بـابل قد كنا نقصّ علـيك خبر ربهم وخبر نبـيهم، ووحى اللّه إلـى نبـيهم، فلـم تطعنا، وهي أمّة لا يستطيعها أحد مع ربهم، فكان أمر سنـحاريب مـما خوّفوا، ثم كفـاهم اللّه تذكرة وعبرة، ثم لبث سنـحاريب بعد ذلك سبع سنـين، ثم مات. ١٦٦٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما مات سنـحاريب استـخـلف بختنصر ابن ابنه علـى ما كان علـيه جدّه يعمل بعمله، ويقضي بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة. ثم قبض اللّه ملك بنـي إسرائيـل صديقة فمرج أمر بنـي إسرائيـل وتنافسوا الـمُلك، حتـى قتل بعضهم بعضا علـيه، ونبـيهم شعياء معهم لا يذعنون إلـيه، ولا يقبلون منه فلـما فعلوا ذلك، قال اللّه فـيـما بلغنا لشعياء: قم فـي قومك أُوحِ علـى لسانك فلـما قام النبـيّ أنطق اللّه لسانه بـالوحي فقال: يا سماء استـمعي، ويا أرض أنصتـي، فإن اللّه يريد أن يقصّ شأن بنـي إسرائيـل الذين ربـاهم بنعمته، واصطفـاهم لنفسه، وخصّهم بكرامته، وفضّلهم علـى عبـاده، وفضلهم بـالكرامة، وهم كالغنـم الضائعة التـي لا راعي لها، فآوى شاردتها، وجمع ضالتها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها فلـما فعل ذلك بطرت، فتناطحت كبـاشها فقتل بعضها بعضا، حتـى لـم يبق منها عظم صحيح يخبر إلـيه آخر كسير، فويـل لهذه الأمة الـخاطئة، وويـل لهؤلاء القوم الـخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الـحين. إن البعير ربـما يذكر وطنه فـينتابه، وإن الـحمار ربـما يذكر الاَريّ الذي شبع علـيه فـيراجعه، وإن الثور ربـما يذكر الـمرج الذي سمن فـيه فـينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الـحين، وهم أولو الألبـاب والعقول، لـيسوا ببقر ولا حمير وإنـي ضارب لهم مثلاً فلـيسمعوه: قل لهم: كيف ترون فـي أرض كانت خواء زمانا، خربة مواتا لا عمران فـيها، وكان لها ربّ حكيـم قويّ، فأقبل علـيها بـالعمارة، وكره أن تـخرب أرضه وهو قويّ، أو يقال ضيع وهو حكيـم، فأحاط علـيها جدارا، وشيّد فـيها قصرا، وأنبط فـيها نهرا، وصف فـيها غراسا من الزيتون والرمان والنـخيـل والأعناب، وألوان الثمار كلها، وولـى ذلك واستـحفظه قـيـما ذا رأي وهمّة، حفـيظا قويا أمينا، وتأنى طلعها وانتظرها فلـما أطلعت جاء طلعها خروبـا، قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها، ويدفن نهرها، ويقبض قـيّـمها، ويحرق غراسها حتـى تصير كما كانت أوّل مرّة، خربة مواتا لا عمران فـيها. قال اللّه لهم: فإن الـجدار ذمتـي، وإن القصر شريعتـي، وإن النهر كتابـي، وإن القَـيّـمَ نبِـيـي، وإن الغراس هم، وإن الـخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الـخبـيثة، وإنـي قد قضيت علـيهم قضاءهم علـى أنفسهم، وإنه مَثلٌ ضربه اللّه لهم يتقرّبون إلـيّ بذبح البقر والغنـم، ولـيس ينالنـي اللـحم ولا آكله، ويدّعون أن يتقرّبوا بـالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التـي حرمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثـيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لـي البـيوت مساجد، ويطهرون أجوافها، وينـجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها، ويزوّقون لـي البـيوت والـمساجد ويزينونها، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها، فأيّ حاجة لـي إلـى تشيـيد البـيوت ولـيست أسكنها، وأيّ حاجة إلـى تزويق الـمساجد ولست أدخـلها، إنـما أمرت برفعها لأذكر فـيها وأسبح فـيها، ولتكون معلـما لـمن أراد أن يصلـي فـيها، يقولون: لو كان اللّه يقدر علـى أن يجمع ألفتنا لـجمعها، ولو كان اللّه يقدر علـى أن يفقّه قلوبنا لأفقهها، فـاعمد إلـى عودين يابسين، ثم ائت بهما ناديهما فـي أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إن اللّه يأمركما أن تكونا عودا واحدا فلـما قال لهما ذلك، اختلطا فصارا واحدا، فقال اللّه : قل لهم: إنـي قدرت علـى ألفة العيدان الـيابسة وعلـى أن أولّف بـينها، فكيف لا أقدر علـى أن أجمع ألفتهم إن شئت، أم كيف لا أقدر علـى أن أفقّه قلوبهم، وأنا الذي صوّرتها يقولون: صمنا فلـم يرفع صيامنا، وصلّـينا فلـم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلـم تزكّ صدقاتنا، ودعونا بـمثل حنـين الـحمام، وبكينا بـمثل عواء الذئب، فـي كلّ ذلك لا نسمع، ولا يُستـجاب لنا قال اللّه : فسلهم ما الذي يـمنعنـي أن أستـجيب لهم، ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب الـمـجيبـين، وأرحم الراحمين؟ ألأنّ ذات يدي قلت كيف ويداي مبسوطتان بـالـخير، أنفق كيف أشاء، ومفـاتـيح الـخزائن عندي لا يفتـحها ولا يغلقها غيري ألا وإن رحمتـي وسعت كلّ شيء، إنـما يتراحم الـمتراحمون بفضلها أو لأن البخـل يعترينـي أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بـالـخيرات، أجود من أعطى، وأكرم من سُئل لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بـالـحكمة التـي نوّرت فـي قلوبهم فنبذوها، واشتروا بها الدنـيا، إذن لأبصروا من حيث أتوا، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يـلبسونه بقول الزور، ويتقوّون علـيه بطعمة الـحرام؟ وكيف أنوّر صلاتهم، وقلوبهم صاغية إلـى من يحاربنـي ويحادّنـي، وينتهك مـحارمي؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم؟ وإنـما أوجر علـيها أهلها الـمغصوبـين أم كيف أستـجيب لهم دعاءهم وإنـما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد؟ وإنـما أستـجيب للداعي اللـين، وإنـما أسمع من قول الـمستضعف الـمسكين، وإن من علامة رضاي رضا الـمساكين فلو رحموا الـمساكين، وقرّبوا الضعفـاء، وأنصفوا الـمظلوم، ونصروا الـمغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلـى الأرملة والـيتـيـم والـمسكين، وكلّ ذي حقّ حقه، ثم لو كان ينبغي أن أكلـم البشر إذن لكلـمتهم، وإذن لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم، وإذن لدعمت أركانهم، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبّت ألسنتهم وعقولهم. يقولون لـمّا سمعوا كلامي، وبلغتهم رسالاتـي بأنها أقاويـل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآلـيف مـما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطلعوا علـى الغيب بـما توحي إلـيهم الشياطين طلعوا، وكلهم يستـخفـى بـالذي يقول ويسرّ، وهم يعلـمون أنـي أعلـم غيب السموات والأرض، وأعلـم ما يبدون وما يكتـمون وإنـي قد قضيت يوم خـلقت السموات والأرض قضاء أثبته علـى نفسي، وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً، لا بدّ أنه واقع، فإن صدقوا بـما ينتـحلون من لـم الغيب، فلـيخبروك متـى أنفذه، أو فـي أيّ زمان يكون، وإن كانوا يقدرون علـى أن يأتوا بـما يشاءون، فلـيأتوا بـمثل القُدرة التـي بها أمضيت، فإنـي مظهره علـى الدين كله ولو كره الـمشركون، وإن كانوا يقدرون علـى أن يقولوا ما يشاءون فلـيؤلّفوا مثل الـحكمة التـي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقـين، فإنـي قد قضيت يوم خـلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة فـي الأُجراء، وأن أحوّل الـملك فـي الرعاء، والعزّ فـي الأذلاء، والقوّة فـي الضعفـاء، والغنى فـي الفقراء، والثروة فـي الأقلاء، والـمدائن فـي الفلوات، والاَجام فـي الـمفـاوز، والبردى فـي الغيطان، والعلـم فـي الـجهلة، والـحكم فـي الأميـين، فسلهم متـى هذا، ومن القائم بهذا، وعلـى يد من أسنه، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلـمون فإنـي بـاعث لذلك نبـيا أمّيا، لـيس أعمى من عميان، ولا ضالاً من ضالّـين، ولـيس بفظّ ولا غلـيظ، ولا صخّاب فـي الأسواق، ولا متزين بـالفُحش، ولا قوّال للـخنا، أسدده لكل جميـل، أهب له كلّ خـلق كريـم، أجعل السكينة لبـاسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والـحكمة معقوله، والصدق والوفـاء طبـيعته، والعفو والعرف خـلقه والعدل والـمعروف سيرته، والـحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلـم به بعد الـجهالة، وأرفع به بعد الـخمالة، وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلّة، وأغنـي به بعد العيـلة، وأجمع به بعد الفُرقة، وأؤلّف به قلوبـا مختلفة، وأهواء مشتتة، وأمـما متفرّقة، وأجعل أمته خير أمّة أُخرجت للناس، تأمر بـالـمعروف، وتنهى عن الـمنكر، توحيدا لـي، وإيـمانا وإخلاصا بـي، يصلون لـي قـياما وقعودا، وركوعا وسجودا، يُقاتلون فـي سبـيـلـي صفوفـا وزحوفـا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوانـي، ألهمهم التكبـير والتوحيد، والتسبـيح والـحمد والـمدحة، والتـمـجيد لـي فـي مساجدهم ومـجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهلّلون، ويقدّسون علـى رؤوس الأسواق، ويطهرون لـي الوجوه والأطراف، ويعقدون الثـياب فـي الأنصاف، قربـانهم دماؤهم، وأناجيـلهم صدورهم، رهبـان بـاللـيـل، لـيوث بـالنهار، ذلك فضلـي أوتـيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيـم. فلـما فرغ نبـيهم شعياء إلـيهم من مقالته، عدوا علـيه فـيـما بلغنـي لـيقتلوه، فهرب منهم، فلقـيته شجرة، فـانفلقت فدخـل فـيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا الـمنشار فـي وسطها فنشروها حتـى قطعوها، وقطعوه فـي وسطها. قال أبو جعفر: فعلـى القول الذي ذكرنا عن ابن عبـاس من رواية السديّ، وقول ابن زيد، كان إفساد بنـي إسرائيـل فـي الأرض الـمرّة الأولـى قتلهم زكريا نبـيّ اللّه ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده، إلـى أن بعث اللّه علـيهم من أحلّ علـى يده بهم نقمته من معاصي اللّه ، وعتوّهم علـى ربهم. وأما علـى قول ابن إسحاق الذي روينا عنه، فكان إفسادهم الـمرّة الأولـى ما وصف من قتلهم شعياء بن أمصيا نبـيّ اللّه . وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلـم أخبره أن زكريا مات موتا ولـم يُقتل، وأن الـمقتول إنـما هو شعياء، وأن بختنصر هو الذي سُلّط علـى بنـي إسرائيـل فـي الـمرّة الأولـى بعد قتلهم شعياء. حدثنا بذلك ابن حميد، عن سلـمة عنه. وأما إفسادهم فـي الأرض الـمرّة الاَخرة، فلا اختلاف بـين أهل العلـم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا. وقد اختلفوا فـي الذي سلّطه اللّه علـيهم منتقما به منهم عند ذلك، وأنا ذاكر اختلافهم فـي ذلك إن شاء اللّه . وأما قوله: وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا فقد ذكرنا قول من قال: يعني به: استكبـارهم علـى اللّه بـالـجراءة علـيه، وخلافهم أمره. وكان مـجاهد يقول فـي ذلك ما: ١٦٦٦٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهدوَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا قال: ولتعلنّ الناس علوّا كبـيرا. حدثنا الـحارث، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. |
﴿ ٤ ﴾